استهل المأمون فى
بلاطه عصرا من النقاش المستنير لم يسمع به من قبل ، ذلك أن المأمون كان ليبراليا
فى الفكر بمثل ما كان كريما فى الأخلاق ، ولم يكن يحب شيئا أكثر من أن يجادل
العلماء علنا حول أقوى وأدق المسائل الخلافية فى الدين ـ هذه المناقشات التى أجريت
عمدا مع الفقهاء وعلماء الدين من جميع المدارس الفكرية قادته إلى الاعتقاد بخلق
القرآن ، وذلك على خلاف التعليم التقليدى ، أما أن الله سبحانه وتعالى أوحى به
وأنزله ، فهذا ما سلم به بسهولة ، ولكنه لم يستطع ولم يكن لديهم الفكرة الخفية
التى تذهب إلى أن القرآن كان كلمة الله غير المخلوقة أنزلت من السماء عن طريق
جبريل ، وانطلاقا من هذا أعلن المأمون صحة المذهب القائل أن الحياة ليست مقدرة من
قبل وأن الإنسان وهب إرادة حرة .
وكان المأمون
مثقفا ثقافة واسعة ، ولقد تأثر بالفكر اليونانى الذى شجع على ترجمة الكثير منه إلى
العربية ، لذلك اعتنق مذهب المعتزلة الذى يعتمد على العقل والمنطق ، وقرب المعتزلة
إليه مثل أحمد بن أبى دؤاد ، وكان منطقيا راجح العقل وقوى نفوذه فى قصر الخلافة .
حمل المأمون الناس
على القول بخلق القرآن ، وناهض القائلين بأن القرآن قديم قدم الله تعالى ، ففى سنة
٢١٨ ه أمر المأمون عامله على بغداد بأن يمتحن الناس فى القول بخلق القرآن ، وأمره
بأن يعاقب من يعارض القول بخلق القرآن ، فكتب إليه : «إن من حق الله سبحانه وتعالى
وأئمة المسلمين على خلفائهم الإجتهاد فى إقامة دين الله الذى استحفظهم ، ومواريث
النبوة التى أورثهم .. وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من
حشو الرعية ، وسفلة العامة .. ساروا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن
فأطبقوا مجتمعين ، وأتفقوا غير متهاجمين على أنه قديم ، أو لم يخلقه الله.
ويحدثه ويخترعه ..
ثم هم الذين جادلوا بالباطل ، فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى أنفسهم إلى السنة
.. فاستطالوا بذلك على الناس ، وغروا به
__________________