وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : (وَلا يُؤْذَنُ) مبنيا للمفعول. وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن ، مبنيا للفاعل ، أي الله تعالى ، (فَيَعْتَذِرُونَ) : عطف على (وَلا يُؤْذَنُ) داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسببا عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي ، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان ، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسببا فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ) للكفار ، (وَالْأَوَّلِينَ) : قوم نوح عليهالسلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، (فَكِيدُونِ) اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرا من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. وقرأ الجمهور : (فِي ظِلالٍ) جمع ظل ؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) : خطاب للكفار في الدنيا ، (قَلِيلاً) : أي زمانا قليلا ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) : من قال إنها مكية ، قال هي في قريش ؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية ، قال هي في المنافقين. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة ، فأبى وقال : «لا خير في دين لا صلاة فيه». ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه. وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ؛ وخص من أفعالها الركوع ، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل