بالجنة ، وإن كان قوماهما كافرين. كان ذلك تصرّفا في ملكه على ما سبق قضاؤه ، فقال : (تَبارَكَ) : أي تعالى وتعاظم ، (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيرا ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (٢) ، وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل. وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٣) ، وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس. ومعنى (خَلَقَ الْمَوْتَ) : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر. وفي الحديث أنه فسر (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) : أي أحسن عقلا وأشدّكم خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا. وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا. وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس. وليبلوكم متعلق بخلق. و (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلا تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها تقديره : فينظر ، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين تعلق قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بفعل البلوى؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ، وإذا قلت : علمته أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا. فإن قلت : أيسمى هذا تعليقا؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعا ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّرا بحرف الاستفهام وغير مصدّر به؟ ولو كان تعليقا لا فترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيدا منطلقا. انتهى. وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقا ، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول ، وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقا عنها الفعل ، وكانت في
__________________
(١) سورة يس : ٣٦ / ٨٣.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.
(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.