الجوارح ، كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١). وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة ، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل ، لا المعنى القائم بالصورة.
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها ، وهذا كله في معنى الوعيد ، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب. وقرأ الجمهور : (ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) بتاء الخطاب ؛ وعبيد عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم : بالياء.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) : الخطاب لقريش ، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها ، وقد سمعت قريش أخبارهم ، (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) : أي مكروههم وما يسوؤهم منه. (ذلِكَ) : أي الوبال ، (بِأَنَّهُ) : أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولا ، كما استبعدت قريش ، فقالوا على سبيل الاستغراب : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) ، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية ، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع (أَبَشَرٌ) عند الحوفي وابن عطية على الابتداء ، والخبر (يَهْدُونَنا) ، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية ، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل ، فالمسألة من باب الاشتغال. (فَكَفَرُوا) : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات ، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها ، بل عقبوا مجيئها بالكفر ، (وَاسْتَغْنَى اللهُ) : استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وغناه تعالى أزلي ، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم ، وليست استفعل هنا للطلب. وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. والزعم : تقدم تفسيره ، والذين كفروا : أهل مكة ، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي ، (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي لا يصرفه عنه صارف.
__________________
(١) سورة التين : ٩٥ / ٤.