تقدم الكلام على (اضْرِبْ) مع المثل في قوله : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) (١) ، والقرية : أنطاكية ، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : هم ثلاثة ، جمعهم في المجيء ، وإن اختلفوا في زمن المجيء. (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ). الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله ، ويدل عليه قوله المرسل إليهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا). وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله ، وهذا قول ابن عباس وكعب. وقال قتادة وغيرهم من الحواريين : بعثهم عيسى عليهالسلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه ، فافترق الحواريون في الآفاق ، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية ، وكان أهلها عباد أصنام ، صادق وصدوق ، قاله وهب وكعب الأحبار. وحكى النقاش بن سمعان : ويحنا. وقال مقاتل : تومان ويونس. (فَكَذَّبُوهُما) ، أي دعواهم إلى الله ، وأخبرا بأنهما رسولا الله ، (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : أي قوينا وشددنا ، قاله مجاهد وابن قتيبة ، وقال : يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ، وقال غيره : يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها ، ويقال للأرض الصلبة القرآن ، هذا على قراءة تشديد الزاي ، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو بكر ، والمفضل ، وأبان : بالتخفيف. قال أبو علي : فغلبنا. انتهى ، وذلك من قولهم من عزني ، وقوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢). وقرأ عبد الله : بالثالث ، بألف ولام ، والثالث شمعون الصفا ، قاله ابن عباس. وقال كعب ، ووهب : شلوم ؛ وقيل : يونس. وحذف مفعول فعززنا مشددا ، أي قويناهما بثالث مخففا ، فغلبناهم : أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم ، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله. وجاء أولا مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة. (لَمُرْسَلُونَ) بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار ، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ، وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه ، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط ، وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم. ووصف البلاغ بالمبين ، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال ، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.
(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) : أي تشاء منا. قال مقاتل : احتبس عليهم المطر. وقال آخر : أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل. قال ابن عطية : والظاهر أن تطير هؤلاء كان
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.
(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٣.