٢١٨ وهو في دمشق ، أي بعد حوالى عشرين سنة من تولّيه الخلافة ، وأربع عشرة سنة من دخوله بغداد ، وثلاث سنوات من مغادرته لها إلى بلاد الشام ومصر والثغور ، ولا بدّ أن هذا التأخر في إصدار القرار يرجع إلى حوادث استجدّت لا في الأقاليم التي جاءها ، وإنما في بغداد ، فعلم بها وأدرك خطرها فأصدر هذه الكتب الشديدة ، وتجدر الإشارة إلى أنه لم تسجل فرحة بها ، وإنما يدل سياق الأحداث على وجوم الناس منها ، وهو موقف سلبي لم يصل حدّ عمل إيجابي في ثورة أو مقاومة. ويلاحظ أن المحنة بتباين أحوالها لم تدم أكثر من ثلاثين سنة ثم ألغيت عند ما ولي المتوكل الخلافة.
المشكلة فكرية وسياسية :
كان الهدف من المحنة هدفا فكريا محدّدا بخلق القرآن ولم يمتد إلى أبعد من ذلك ، فلم يذكر عنه أنه حارب علوم الحديث أو الفقه وهما عماد علم «أهل السنة» ولم تذكر عنه محاولة نشر أفكار سياسة خارجة عن اهتمامات الناس في حينها ، كنشر أفكار ساسانية أو إغريقية ، ومع أن المصادر تذكر اهتمامه بجمع الكتب الإغريقية ، إلا أنه لم يكن مبتدعا في ذلك ، فقد سبقه إليها المنصور والرشيد ، ولم يرد خبر عن حرصه على نقل هذه الكتب إلى العربية ، ولم يكن ممن أغدق على حنين بن إسحاق وطلب منه نقل أي كتاب.
كانت الحركة الفكرية في زمن المأمون قد وصلت في تطورها الفكري حدّ التمايز بين العلوم ، بما في ذلك علم الحديث وروايته والفقه والكلام بل حتى في الأخبار والتاريخ والآداب ، وما يتصل باللغة من مفردات ونحو وصرف ، ولكن هذا التمايز لم يكن جامدا محدّد المعالم ، وإنما كان فيه كثير من التداخل ، والتمايز الواضح هو بين علوم الأوائل ، بما فيها العلوم الصرفة والتطبيقية والمنطق والفلسفة والسياسة ، وعلوم العرب ، علما بأن نقل كثير من هذه الكتب وثّق صلة العربية بعلوم الأوائل ، وأطلع العرب على الكثير من الأفكار الجديدة ، غير أنه من حيث العموم كانت علوم الأوائل أروج عند غير المسلمين ولا سيما النصارى واليهود.