تيقظ الأزهر دفعة واحدة وتحركت بواعث النخوة والوطنية فيه ، كما تحرك كل ما في مصر ، وانتظم الجيش المسلح بإيمانه ، المعتد بحقه ، ورفعت الراية ، وأصبح معهد الدين والعلم مستقر النهضة الكبرى ومستودع آياتها ، وعلى أبوابه سقط أول شهيد مصري وهو من أبناء الأزهر ، احتمل المدفع الرشاش بين يديه. وكان لا يدري ماذا يصنع به ، وبينا هو يهم أن يقصيه في مكان ما. إذا بثلاثين رصاصة تخترق جسمه فيخر صريعا!
ولست أستطيع أن أقول شيئا عن الاجتماعات التي عقدت في الأزهر ، فلم يكن منبره يخلو لحظة من خطيب. ولا عن أولئك الرجال الأبطال الذين كانوا يتوسدون أيديهم ، وينامون على أرض ذلك المسجد الفسيح .. ومن المجاهدين من علمائه الزنكلوني ، وعبد الباقي سرور ، والشيخ أبو العيون وسواهم ، ممن اشتدت الحركة الوطنية بفضل ما أفادوه في بعث روح الإقدام والجرأة في نفوس المصريين.
وكان الفقيد الكريم القاياتي يؤوب من المظاهرة في منتصف الليل ، فيطوي رداءه تحت رأسه على «حصيرة» في الأزهر وينام حتى الصباح ليخطب في المجتمعين.
أما المظاهرات فحدث عن إقدام الأزهريين ولا حرج ، فقد كانت طرقات مصر كلها تغص بهم ، وتمتلىء رحابها بإقدامهم ، وهم يتراكضون في أنفة وعزة وشموخ إلى غاية المجد ، إلى حيث الحرية والاستقلال.
كان كل شيء في هذه النهضة جميلا ساميا ، كأننا في جنة من جنان الخلد ، وكان الشعور السائد القوى ، شعورا سماويا ، حتى نسينا البغض والحقد والتمرد على الواجب ، وأصبح كل فرد يحتضن أخاه المصري كأنهما ولدا في منزل واحد ، ويناجيه كأنه وليه الحميم.
في هذا العهد الذي كان يتهم فيه الأزهر بالتعصب وصرامة الرأي ، كان هو الذي فتح أبوابه لأبناء الطائفة القبطية محتفلا مرحبا ، وكانت هذه الظاهرة العجيبة من أقوى أسباب التضامن الوثيق بين العنصرين.