الفرق بين حوافل باريس ولندرة
«أحدها» أنه ليس في داخلها شيء يتمسك به الإنسان ، فأول ما يدخلها يستمر سائقها في السير فيترنح الداخل يمنة ويسرة ، وربما وقع على بعض الجلوس ، وكثيرا ما يعجل البواب إلى إطباق الباب على يد الداخل ، وكثيرا ما وردت شكاوى الركاب في هذه إلى القضاة ، فمنهم من حصل أرشا ومنهم من خاب.
«الثاني» أنه إذا كان بين الستة رجلان سمينان ضاق الموضع بالباقي ، إذ لا يكاد يسع هذا العدد إلا باللزّ والتّضام ، وقد وقع غير مرة نزاع أفضى إلى الشرع ما بين هؤلاء السوّاق ، وبين الرجال السمان ، فإن السائق يأبى أن يأذن للسمين في أن يتبوأ موضعين ويدفع عليهما أجرة واحد. فأما في باريس فبين كل قاعدين فاصل من قضيب نحاس ، فالقاعد فيها مقعدا لا يكاد يمس جاره ، وكأنما هو قاعد على كرسي بداره.
«الثالث» أنه قد يتفق أن يكون اليوم باردا ، ويبتدر أحد الجلوس إلى فتح إحدى الطيقان من دون أن يسأل جاره هل يستطيب ذلك أو لا ، فإن كل واحد من الناس عموما ومن الإنكليز خصوصا يرى أن في صلاح نفسه صلاح غيره.
«الرابع» أن الدّاخلين لا يدفعون الجعل عند الدخول كما يفعل في باريس ، بل عند الخروج فيدفع الخارج الأجرة إلى السائق ، ويذهب في خلال ذلك الوقت عبثا ما بين تصريف الدراهم والقال والقيل. والبواب هنا أبدا معرض رأسه للمطر والشمس ، إذ لا جنّة تقيه ، بخلاف البواب في باريس ، ولبوابي حوافل باريس شريط من قصب على أطواق ملابسهم ، وصفحة على صدورهم تؤذن بمهنتهم ، ومتى وجد أحدهم موضعا فارغا عند باب الحافلة قعد فيه ، وأفاض في الحديث مع جاره ، وعدّ نفسه من جملة الركاب بلا محاشاة.
وهناك فرقان آخران بين حوافل لندرة وباريس ، وهو أن حوافل باريس ليس لها مقاعد على ظهرها ، فكل ركابها يقعدون في داخلها ، فلهذا كانت أطول وأوسع من حوافل لندرة وهي أشقّ على الخيل ، غير أن الفرنسيس لما كان دأبهم وولعهم التبديل والتغيير ، صاروا الآن يصنعون حوافلهم كحوافل الإنكليز في الصغر ، وفي جعل مقاعد لها على ظهرها.