مفتقرين إلى دين يردعهم عن الشرور والمعاصي ، ويحثهم على فعل الخيرات ، ولو لا ذلك لأكل القوي الضعيف ، فإن قلت كيف يأكله والحاكم من ورائه؟ قلت ليس في كل الأمور يمكن استحضار الحاكم أو الاستغاثة به ، ألا ترى أنه إذا اجتمع مثلا اثنان في مكان خال وبطش القوي منهما بالضعيف ، أفيكون لصاحب الحكم عين باصرة ، أو أذن سامعة للقصاص؟ فكم من قضية جرت بين الناس وفاتت اجتهاد أهل السياسة والإيالة! ولكن إذا كان الناس يستحضرون خالقهم في السر والعلن ، ويخافون عقابه ويرجون ثوابه ، كان لهم بذلك أعظم رادع ووازع ، فاتصاف أمة بعدم الدين من أعظم ما يهين شرفها ويخفض قدرها.
ومن ذلك أنه لم يزل دأبهم تغيير الحكومة وتبديل السياسة وأربابها ولم يخطر ببالهم قط أن يغيروا هذا الأسلوب السمج الشنيع ، الذي يجري في عبارات أهل السياسة والأحكام منهم ، فإن فيه من التكرار والمواربة والحشو ما يشهد عليهم أمام الله والناس بأنهم اذوق لهم ، ولا إلمام بشيء من الأدب. ومن ذلك أنهم ينكرون على أهل اللغات المشرقية وخصوصا اللغة العربية كثرة الاستعارات والكنايات ، مع أن لغتهم تطفح بهما طفحا ، ولو لاهما لضاقت بهم العبارة عن تأدية أكثر المعاني ، وسيأتي الكلام على ذلك بالتفصيل ، وإنما أقول هنا إنّي لما أردت أن أترجم من قصيدتي التي مدحت بها الأمبراطور نابوليون قولي :
ولا تخلل وقت توأمي (٣٠١) عدة |
|
له وإنجازها بل قلما سئلا |
قال المصحح إن ذلك لا يكون مفهوما بلغتهم ، ولو جاء بهذه الاستعارة أحد مؤلفيهم لحسبت من البلاغة بمكان. ومن طبعهم في التأليف والكلام أن ينتقوا الألفاظ الجزلة الفخمة ، يكسون بها سخيف المعاني فتسمع منهم جعجة ولا ترى طحنا ، وهذا داء فاش فيهم أجمعين. ومن ذلك أن نساء عامة الفرنسيس مع زهوهن وإعجابهن ، إذ الزهو صفة لجميع إناث هذا الجيل ، تراهن يتعاطين من الأعمال الخسيسة ما تأنف منه أخس نساء الإنكليز ، وذلك كتكنيس الطرق ، وحمل
__________________
(٣٠١) في الطبعة الأولى : توافي ، والبيت مضطرب وزنا ومعنى (م)