ومواضع الفرج والغناء ، حتى تظن أن أهل باريس كلهم سباهلة (٢٩٨) لا شغل لهم ولا عمل ، ومع ذلك فهم يتانقون في المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش ، فلا أدري في أي وقت من الأوقات يكسبون المال؟ ومن ذلك إنّ لهم عناية بتربية أولادهم أكثر من الإنكليز إذ لا يغادرونهم وحدهم في الشوارع والطرق عرضة للأخطار ، أو يهملون تعليمهم حرفة من الحرف تغنيهم عن المكث في المارستان ، أو عن الطّر (٢٩٩) والاختلاس في المسالك كما هي العادة في لندرة غالبا ، ومع هذا فإنهم عقب ولادتهم يبعثونهم إلى الريف ليتربوا عند المراضع ، والإنكليز على خلاف ذلك ، ومنها أنهم على بلادهم وجنسيتهم أغير من الرجل على امرأته ، فلا يسلّمون بأن في الدنيا بلادا تشبه بلادهم أو جيلا يضارعهم ، ومع ذلك فإنهم يسافرون عنها لغير موجب ، وحيثما ساروا بثوا رسائل التمدن والعلوم ، وجادوا بما خصهم الله به من البراعة والحكمة على من لبثوا بينهم ، وربما كانوا لهم أعداء. لعمري إنّي أرى طريقة ملك الصين في منعه مخالطة رعيته بغيرهم أولى ، أو ليس أن الدولة حين تنصب الحرب لدولة أخرى تمنع إخراج كل ما يتعلق بالمهمات الحربية من بلادها إلى بلاد تلك الدولة؟ فأي الخارجين أنفع لها وأفضل ، الرجل أم الأداة؟ ومع ذلك أنهم حين يكونون متغربين في بلاد الناس يختلطون بهم ويجانسونهم ويخالقونهم ، حتى يصيروا كأنهم منهم. وإذا تغرب أحد بينهم لو يختلطوا به فغاية ما يخصونه به من الإكرام إنما هو أن يسألوه من أين قدمت؟ وأين تقصد؟ وكيف أعجبتك باريس؟ ومن ذلك أنهم لا يزالون ينقّرون عن الحقائق ويودون لو يعلمون كل أمر من فصّه (٣٠٠). وقد حذقوا كل علم وبرعوا في كل فن ، ومع ذلك فقد عزب عنهم أهم الحقائق ، وهو ضرورة وجود الدين لكل من السائد والمسود ، والرئيس والمرؤوس ، ولو سلم لهم بأن الكيسي وأهل المعارف والأدب غنيون عنه بما فطروا عليه من حسن الأخلاق ، أو حسنوا به إملاءهم من مطالعة الكتب ، لم نسلّم بأن الرعاع الذين هم الجمهور الأعظم في كل البلاد غير
__________________
(٢٩٨) سباهلة : فارغون.
(٢٩٩) الطّر : السرقة.
(٣٠٠) فصّه : أخرجه من غيره (م)