منهم أول وهلة ظن أنهم يزدادون من مؤانسته وألفته ، وأن هذا الأنس لا بد وأن يتبعه كرم وصداقة ، ويزيد تعجبه من ذلك على الخصوص ما إذا واجههم على هذه الصفة المستحبة بعد مفارقته الإنكليز على حالة الانقباض والعبوس ، ولكن هيهات ، فإن أنيسك منهم إذا رآك غدا ظننت أن ملاقاتكما إنما كانت حلما ، وعلى فرض استمرار الألفة بينك وبينه فلا يدعوك إلى منزله ولا يعرفك بأهله. ومن ذلك أن أهل البلاد الباردة كباريس وغيرها تراهم أخفّ حركة وأحفد (٢٩٧) إلى الأشغال من أهل البلاد الحارة ، أو المعتدلة كمرسيلية ونحوها ، فإن الناس هنا لا حركة لهم ولا نبض ، فمن قدم إليها من باريس ورأى بلادة أهلها عجب كل العجب ، فأين هم من أهل مالطا الذين يبادرون إلى العمل بأدنى إشارة. ومن ذلك أن كثيرا منهم ولا سيما أهل باريس يعيشون مع النساء عيش المتعة ، ويأتي لهم بنون وبنات وهم على هذه الحالة ، ولا يتزوجون زواجا شرعيا ، فكيف يحب الرجل امرأة ولا يتزوجها ، لا سيما وقد ولدت له أولادا وربتهم؟ وزواجهم الشرعي هو الذي يعقد في الديوان لا في الكنسية ، ومنهم من يعقده في كلا الموضعين ، وهم المتدينون العابدون. ومن ذلك أنهم مائلون بالطبع إلى حب النساء ومخالطتهن ومداراتهن ، ومع ذلك فإنهم يدعونهنّ يعملن الأعمال الشاقة ليكسبن بعض شيء. ويمكن هنا أن يقال إن نساءهم مائلات بالطبع إلى حب الكسب ، وليست الراحة عندهنّ إلا بتحصيل المال. ومن هذا القبيل أن الرجال من فرط عشقهم يقتلون أنفسهم ويرتكبون أقصى الأخطار لإرضائهن ، ومع ذلك فليسوا يقيمون على ودادهن ، فتبديلهن عندهم أهون من تبديل اللباس. ومع اعتقادهم بأن نساءهم أكيس النساء وأظرفهن وأحذقهن جميعا ، فلا يأنفون من زواج الحبشيات وغيرهن. ومن ذلك أنك ترى أدبائهم وكيسيهم أبدا يترددون على الملاهي والملاعب ليسمعوا فيها ويروا ما سمعوه ورأوه مرارا ، وأنت خبير بأنه يكرر في هذه المواضع تمثيل الحوادث كثيرا ، إذ لا يمكن اختراع شيء حديث في كل ليلة ، ومهما يكن الشيء الممثل بديعا فإذا أعيد زالت طلاوته. ومن ذلك أنك لا تزال ترى الخاصة منهم والعامة يتمشون في الحدائق والغياض
__________________
(٢٩٧) أحفد : أسرع (م)