مواضع لا نظير لها
وفي باريس عدّة مواضع لا نظير لها في الدنيا بأسرها ، فإن ابتدرتني لتقطع علي كلامي بأن تقول «وهل رأيت الدنيا كلّها حتى تحكم بذلك» قلت إني لم أر الدنيا ، بل رأيت محاريث عقول أهل الدنيا ، أعني أقلام المؤلفين ممّن طوّفوا وساحوا في مناكبها ، فكلّهم حكم لهذه المواضع بالأحسنية والأفضلية :
البلفار
«أحدها» البلفار ، وهو طريق واسع طويل ممتد يحيط بباريس كالمنطقة للخصر ، كلا جانبيه محفوف بالشجر المتوازي الوضع ، وبالدكاكين الظريفة والديار الشاهقة ، ومواضع القهوة الأنيقة الحافلة ، فلا تزال ترى أمامها ألوفا من الكراسي يجلس عليها الرجال والنساء ، وهناك يقرؤون صحف الأخبار ويتفاوضون في إدارة المصالح والأشغال ، فهي عندهم بمقام المصر ، أي البورس. وقد تكون حيطان المحل كلّها مرايا ، وسقفه كسقف الكنائس مزخرفة منقوشة ، وفيها متكئات ومقاعد وموائد نفيسة ، ولا تزال غاصّة بالناس إلى نصف الليل ، وقد يكون لها رواشن أو مشربيات فيها مقاعد يرى الإنسان منها جميع ما يمر في الطريق ، وأكثر الملاهي هناك من جملتها مواضع للغناء واللعب ، وفي ختام اللعب تضعف أنواره ويبرز في محرابه نساء لا بسات بزّا رفيعا على هيئة الجسم ولونه ، فيحسبهن الناظر عرايا ويبقين كذلك في أوضاع مختلفة من دون حركة ، فإن برزت إحداهنّ رافعة يدها بقيت كذلك إلى أن تدور بهنّ المائدة التي برزن عليها دورتين ، ثم يسبل الحجاب وترجع الأنوار ، ثم تضعف ويبرزن بهيئة أخرى ، وذلك كله يدوم نحو ربع ساعة ، ويقال لهذا المنظر «تابلو فيفان» أي الصّور الحيّة. وأحسن محل في هذا البلفار المحل الذي يقال له بلفار الطليان ، فثم ترى النساء يخطرن بالديباج والإستبرق ، والشيلان الكشميرية ، والمخمل والخز الرفيع ، وهنّ متلعات شافنات (٢٨٨) ، والرجال يرنون إليهن بأفخر اللباس وأحسن السمت. وثم
__________________
(٢٨٨) شافنات : ينظرن بمؤخرة عيونهن.