فلتير يمدح التجارة
قلت ومدح فلتير التجارة ليس قدحا في العلوم والمعارف ، وإنما هو تحريض على اتساع دائرة التمدن ، وشتان ما بين تجار الفرنسيس وبين تجار البلاد المشرقية ، فإن هؤلاء لا يحسنون الكلام إلا في المكيول والموزون ، ولا يعرفون أن يكتبوا سطرا واحدا من دون غلط ، فهذه الحال ينكرها فلتير وكل ذي ذوق سليم.
منشستر بين القديم والحديث
ثم إن منشستر هذه كانت في القديم مقاما للدرويدس ، وكان لهم فيها هيكل ومذبح قيل له باللغة القديمة «ميين» أي حجر ، وصارت قبل الميلاد مقرا للهمج) (٢٤٦) فبنوا فيها قلعة سميت «منسنيون» أي مضرب الخيام ، ثم تصفحت على المتأخرين فقالوا للمدينة منشستر. وهؤلاء الدرويدس كانوا في القديم كهان جرمانيا وفرنسا وبريتانيا وحكماءهم ، وكانوا في هذه الأخيرة ينتخبون من أكرم العيال ، فكانوا يشتغلون بالعلوم ومعرفة الفرائض الدينية ، ويعبرون كلام الآلهة ، ويفصلون الدعاوي الخطيرة ويتولون تدبير الجيش.
ولما غزا قيصر هذه الجزيرة قابلوه بالجيوش والبسالة ذبا عن الوطن ، فنقم عليهم ذلك بعض ولاة الرومانيين فاستأصل شأفتهم.
وفي هذه المدينة أسواق ظريفة وحوانيت بهيجة ، وفيها تعرفت بالفاضل الكريم السيد عبد الله أفندي الإدلبي قنصل الدولة العلية ، ولم يكن لتعارفنا من سبب سوى حمرة رأسينا ، فإنه أول ما رأى طربوشي أقبل إليّ متبسما باشا ، ودعاني إلى منزله من دون أن أبرز إليه كتاب وصاة على عادة القوم ، ولم يكتف بهذا حتى أخذ عنوان مقامي في كمبريج قصد أن يبعث إليّ بهدية من طرف المدينة ، وقد فعل جزاه الله خيرا. وله مساع عند الدولة المشار إليها محمودة وذكر حسن عند أهل البلدة ،
__________________
(٢٤٦) البريغانتين (ط. أ)