ومنهم من يتواضع لجليسه وسامعه بأن يقول لا تؤاخذني يا سيّدي بما تسمع مني من اللحن ، فإنّي لم آخذ النحو عن أحد ، ولم يطاوعني الوقت على أن أتعلّم اللغة كما يجب ، وإنّما عرفت ما عرفت بالدربة والممارسة ، وهو عند ذلك ينتظر من سامعه أن يقول له : حاشا لك أن تلحن في شيء وأنت العلم المشار إليه بالعلم والبيان ، وأقسم إنه لم يطرق مسمعي شيء أبلغ من كلامك ، فأنت قسّ الفصاحة ، وسحبان البلاغة ، وأنت الذي تروى عنه نوابغ الكلم ، وتؤخذ عنه جوامع الحكم ، فيا ليت لنا في بلادنا نفرا يأخذون عنك هذه البدائع كيلا يضيع العلم من بيننا ، فأدام الله وجودك ومتّعنا ببقائك السعيد آمين.
ومنهم من يقول : إن شأني يا جماعة الخير أن لا أرى عليّ لأحد دينا أو لوما ، أو منّة. ولو بتّ وعليّ لأحد دينار واحد لم تأخذني سنة ولا نوم ، وقد حاولت أن أغيّر طبعي هذا بطبع من طباع الناس فلم أقدر. وهو مع ذلك يترقّب جماعة الخير أن تقول له : نعم هذا الطبع ، لله سجاياك ما أكرمها ، وخلائقك ما أعظمها ، فيا ليت الناس جميعا يقتدون بك.
ومنهم من إذا كتبت إليه كتابا تسأله عن شيء ضنّ عليك بجوابه إذ يراك غير أهل له.
ومنهم من إذا رآك قد فتحت فاك للحديث معه ، أو مع جليس آخر ابتدر إلى قطع حديثك المفيد بأن يحكي حكاية سخيفة عن نفسه ، أو عن أهله وخادمه. ومنهم من يماريك في الحقّ الصريح ولا يذعن لبرهانك ، وإن كان يعلم أنه دونك في الجدال ، وآخر الكلام بينك وبينه هو أن يقول لك : هكذا كان رأيي وهذا هو قصدي ، فيوهمك بذلك أنك كنت كنت من الزائغين ، وأنه من الراشدين ، وذلك حتى يكون آخر الكلام إليه.
ومنهم من يجادلك فيما لا يورثه فخرا ، ولا يكسبه ذكرا ، ولكن لمجرّد إظهاره إياك غالطا ، فإذا سألك مثلا كيف أنت؟ وقلت له : بخير وعافية ، قال لك : ما أراك تدري ما العافية؟ فإنّي لا أرى أثرها عليك. فتقول له : كيف وإني والحمد لله متملّ بصحّتي ، ويمرئني ما آكل وأشرب ، ويهنئني منامي وجلوسي. فيقول : ما هذا معنى العافية عند المحققين ، وإنّما هي أن تمشي منتصبا غير لاو على أحد ، أو شيء تراه عن