يلقيها عليك.
ومن كان قد قرأ بعض أشعار وسمع من أهل العلم مثلا أن الشعر منقبة سنية تصدّى إلى نظم أيّ كلام كان ، فإذا رأى طائرا في الجو نظم فيه قصيدة ، وإذا توفي أحد في بلده قال قد غاض بحر الكرم ، ودكّت أركان المعالي ، وذوت أزهار الفضائل ، وأفل نجم الهدى ، وخسف بدر المجد ، وكسفت شمس الفضل ، ثم لا يزال يطلع في عاجلة النبي إلياس حتى يصل إلى الفلك الأثير ، ويعدّد جميع ما هنالك من النجوم ، وينتزع منها كفنا لمرثيه ، وما ذلك إلا حتى يقال عنه : إنّه شاعر.
ومنهم من إذا حفظ نادرة أو حكاية أو مسألة تراه يتشدّق بها في كلّ مقام ، ويضغطها بين كلّ مورد ومصدر ، حتى يقال عنه : ما شاء الله.
ومنهم من إذا أطلعته على غلطه أومأ إليك برأسه ، وقال : قد فهمت قد فهمت ؛ فتقول له : كيف تكتب المرّة الآتية؟
فيقول : لا أكتب غلطا.
فتقول : ولكن بيّن لي كيف تجتنبه؟
فيقول : أكتب ما يكون صحيحا.
فتقول أطلعني عليه.
فيقول : حين أكتب أعرف ما يقال.
ولا يزال يحاولك بمثل هذا استكبارا وعنادا حتى تملّ منه.
ومنهم من يزورك وأول ما يستقرّ به المكان يأخذ في أن يشكر من كثرة معارفه ، ويتأفّف من كثرة ما يدعى إلى ولائمهم ومراقصهم ، ويتسخّط على الولائم والمولمين مع أنه لم يحصل على معرفة هؤلاء المعارف إلا بعد استعمال وسائط لا تحصى ، وهو يقول في قلبه : أدام الله دولة هذا المآدب ، وأعلى شأن الآدبين ، فإنهم أنفع من الأدب والمتأدبين ، وإني أذهب إليهم ، وأنال من أطايب طعامهم وشرابهم ، وأمخرق عليهم ، فتارة يضحكون من خزعبيلاتي ، وتارة يحبذونني ، فأرجع إلى وكري خالي البال ممتلئ الأمعاء. ومنهم من يكون له قفص خدام ، فيدعوه إلى أن يجوربه ، ويلبسه نعله بحضرة الناس ، وأن يحمل دورقه ودواته وجبته وعصاه وقصبة دخانه ، ويمشي وراءه كأنّما هو حمار موقور ، وذلك حتى يقول الناس : إن السيد ذو خدم وحشم.