عليك ما أقدم الآتي إليك من دون أن يذكر اسمه ، وإنما يذكر صفاته بأن يقول بالباب رجل مبتلّ النعلين مفتوح الظلّة مشعث الرأس ، وحينئذ تأمره بأن يأذن له في الدخول ، فأمعن النظر هداك الله يتبيّن لك أن من كانت هذه حالته كان جديرا بأن يأخذ في غاية الشهر أجرته وحقّ عرق جبينه ، أو قرقرة أمعائه من البرد. لعمري ليس هذا دأب جيرتك الفرنسيس فإنّهم وإن لم يؤدّوا أجرة العامل لهم كما تؤدّيها أنت إلا أنّهم لا يغفلون عنه ، فيعرضون عليه ما يلزمه قبل اللزوم ، أو عند وقته ، وأقبح من ذلك أنّه إذا سأل العامل المعمول له من هؤلاء السادة أجرته انقبض منه واقشعرّ ، ولا سيّما إذا كان المبلغ قليلا.
وهنا ينبغي أن أذكر أن الناس ما زالوا يروون عن الإنكليز أنّهم إذا استخدموا مثلا معلّما أو غيره لا يسألونه عن أجرته أولا وإنّما يسألونه أخيرا ، ويؤدّونها إليه كما يطلب ، وأنّهم يوفونها أكثر من سائر من عداهم من الإفرنج ، وأن العامل إذا اشتغل لهم بشيء ساعة ما من النهار أغناه ذلك عن التعب يوما أو يومين ، فينبغي أن تعلم أن الإنكليز كانوا من قبل اختراع البواخر أنخى وأسخى منهم الآن ؛ فإن مجيء الغرباء إلى بلادهم كان إذ ذاك نادرا. فكانوا يحتاجون إلى أن يأخذوا عنهم ما ليس عندهم منه.
وكثير ممّن قدم إليهم في ذلك الوقت مخرق عليهم ولبّس ، ورجع غانما ، فأمّا الآن فما برحت الغرباء تتوارد إليهم من كلّ فجّ وصاروا هم أيضا يجولون في جميع البلاد ويطّلعون على أحوالها ويشهرون معلوماتهم فيها في الكتب ، وفي صحف الأخبار ، فصاروا لا يخفى عنهم ما يناله الغريب في بلاده ، وأصبحوا يشاطرون ويستحطّون من الطلب ، وصار عندهم كثيرون من الغرباء. فربما رضي أحدهم بأن يأخذ على شغل ساعة شلينا واحدا وما بين ذهابه وإيابه يضيع ساعة فأكثر.
وهذا الطمع في الاستغناء من الإنكليز قد غرّ كثيرا من الناس فاستفزّهم من ديارهم حتى قاسوا في هذه البلاد من الجهد والعناء ما رضوا به من الغنيمة بالإياب ، حتى إن أهل إرلاند مع قربهم من الإنكليز ومخالطتهم لهم يتركون بلادهم ويقصدون إحدى مدن الإنكليز ، وعمدتهم تلك الأماني الفارغة. ويحكى عن أحدهم أنه قدم إلى لندرة على نية أن يصيب فيها الحظوة والسعادة وكان فقيرا جدا ، فاتفق يوم دخوله