ثم قلت له : إذا طلبته في الليل فهل أقوم من الفراش وأحمل اللحاف إلى البستان؟ قال بل تدخّن في حجرتك.
فأجبته إلى ذلك وسافرنا معا ، فلمّا بلغنا منزله سلّمت على زوجته ، فكان أول ما خاطبتني به أن قالت : طب نفسا من جهة تعاطي الدخان ، فإننا ننظف الحجرة منه كلّ يوم ، فاستدللت من ذلك أنه كتب لها قبل سفرنا في هذا الأمر الجلل.
وإذا زارهم أحد أوّل مرّة ولم يكن من معارفهم فلا بدّ أن يعطي الحاجب تذكرة مكتوبة باسمه فيناولها الخادم سيّده في صحيفة من الفضّة أو البلّور ، ولا يكاد يدخل عليهم زائران في وقت واحد ، وقد يكون عند البواب دفتر يكتب فيه أسماء الزائرين في كل يوم. وفي الجملة فإنّ معاشرة هؤلاء الرؤوس تتعب الرأس والرجل معا وتضيع كثيرا من الوقت والمال ، وربّما دعاك أحدهم إلى غداء فقام عليك ذلك الغداء ثمن عشرة أغدية.
مما يحمد نبلائهم
ومما يحمد من هؤلاء النبلاء أنهم لا يضعون في أرديتهم سمات الشرف ، ويطوفون به ي الطرق تهويلا على العامة كما تفعل نبلاء فرنسا ، وإنما يتحلون بها في أوقات معلومة ، وكذلك الخواتين لا يتحلين بالحلي والجواهر إلا في الولائم والسهريات ونحو ذلك. ومن ذلك خطابهم خدمتهم بالرفق واللين ، وإن أظهروا عليهم العجرفة والعنجهية فالمخدومة تقول لخادمتها إذا أمرتها بأن تناولها شيئا هاتي هذا الشيء إن أعجبك ، وبعد أن تأخذه منها تشكرها ، وربما تباخلت عليها في الأكل والشرب ، وأرضتها بمثل هذا الكلام الطيب فيطيب خاطرها ، ومع هذا الرفق والملاطفة فلا تزال المخدومة متباعدة عن الخادمة ومظهرة لها فرق المقامين وتباين الشأنين فلا تدل عليها بشيء ، وإذا غضبت عليها فلا تكلمها بكلام يشف عن سفاهة وخروج عن حد الأدب ، كأن تقول لها مثلا يا فاجرة يا بنت الكلب كما تقول نساء بلادنا عند أدنى باعث ، أو أن تحرق عليها أسنانها. والعادة عندنا بخلاف ذلك فإن المخدومة تلعن الخادمة وتشحنها بحضرة الناس ، ثم تلقمها وتعلفها وتنبسط معها في الكلام،