وما بال جوّ الإنكليز لا يشبه جوّ فرنسا؟ أفينكر أن للهواء تأثيرا في الخلق والخلق معا سواء كان في الحيوان الناطق ، وغير الناطق؟ فلو جئت أيها الهشّ البشّ الطلق المحيّا الباسم الضاحك المقهقه إلى هذه البلاد ، وبقيت فيها شهرين أو ثلاثة لا تبصر الشمس إلا من وراء حجاب لأغناك الخبر عن الخبر.
وحيث قد ترفعت الكبراء من الإنكليز عمّن هو دونهم من أهل بلادهم ، وصار ذلك دأبا لهم وطبعا يرثه الولد عن والده ، والخلف عن سلفه جروا على ذلك أيضا مع الغرباء ما لم يتبيّن لهم أنهم نظراؤهم في الهمّة والمعالي ، فمتى اعتقدوا ذلك منهم لم يأنفوا من معاشرتهم. والحقّ يقال إنه لا مناسبة بين عليّة الإنكليز وسلفتهم بخلاف غيرهم ، فإن الأمير عندنا مثلا لا يفضل الناس إلا بإمارته لا بأخلاقه وآدابه ومعارفه ، إذ جميع الناس في ذلك متساوون ، وأيضا فحيث كانت ألقاب الشرف عند الإنكليز قديمة وعزيزة كان لها عندهم إجلال وتعظيم يفوق الحدّ ، حتى إن إعظام اللقب عندهم أعظم من إعظام الملقب به ، فإنّ الشريف إذا مشى مثلا في الشوارع مع عامّة الناس لم يكترث له أحد ، ولم يقم له قاعد وقد يسوغ الطعن فيه والتنديد بمعايبه ، ولكن لا يسوغ الازدراء بمنصبه وجلائه لا بالنطق ولا بالكتابة.
وما أحد من الإنكليز ينكر أنه بمجرّد اتصاف الإنسان بجلاء يجب له التعظيم والتكريم ، ومن أعظم شاهد على ذلك نصب ضابط البلد ، فإنه قد يكون من أهل الحرف والصنائع ، فمتى حصل على هذا الجلاء صار مساويا للأشراف والسادات ، حتى إن سائر الوزراء والأمراء يأكلون عنده ويجالسونه وما ذلك إلا لمراعاة جلائه ، ومتى عزل رجع إلى حاله ولم يأكل معه أحد منهم ، ولو جاء بالمن والسلوى. والكلام على كيفية نصبه وعزله سنذكره في وصف لندرة إن شاء الله تعالى.
وما أحد يرتقي هنا درجة سامية عن ضعة إلا هذا الضابط ، فأمّا الوزراء ورجال الدولة فكلّهم متأصّلون في المجد ، فلا يصحّ عندهم أن تبتذل المراتب العالية فيقلّدها صبيّ حلاق ، أو خادم جزّار. والشاهد الثاني أن بعض أهل بلادنا وغيرها يقدم عليهم وعليه برذعة لقب ، فيكرمونه غاية الإكرام ويبوّئونه مبوّأ أسنى ، ومقاما أعلى وهو مع ذلك لا يدري أن يفوه بمدحهم ولا بهجوهم. أما الفرنسيس فإنّهم إنّما يكرمون اللقب إذا كان جديرا بالملقب ، ومن كان ذا معارف وأخلاق حميدة عندهم