عودة إلى طباعهم
ومن طبع الإنكليز ولا سيّما كبراؤهم أن ينفروا من الرخيص ، وإن يكن نفيسا ، وأن يتهافتوا على الغالي وإن يكن خسيسا ، وعلى ذلك يحكى أن رجلين كانا يتحدّثان في هذا المعنى ، فقال أحدهما لصاحبه : ألا إني فاعل بهؤلاء القوم أمرا يسخر منه كلّ من يسمع به ، ثم عمد إلى كيس وجعل فيه دنانير من ذهبهم ، وقعد على قارعة الطريق ، وجعل ينادي من أعطاني شلينا أعطيته دينارا من هذه الدنانير بدلا منه ، فجعل المارون يتضاحكون منه ويقولون : لعمر الله ما قصد بذلك إلا غبن الناس ، فطفق يصرخ بأعلى صوته ويقول : يا أيّها الناس هاؤكم الذهب بدل الفضّة ، وعليكم بالنقاد فلم يكترث له أحد.
وأعرف بعض الجهلة كان يقرأ النحو على رجل من ذوي القناعة والنزاهة ، ثم يعلم جماعة من أعيانهم ، ويتقاضى كلا منهم على تعليم ساعة واحدة نصف ليرة ، فكان الناس يهرعون إليه ، ويعرضون عن معلّمه لأنّه كان يتقاضاهم ربع هذا المبلغ تذمّما وتروّعا. وإذا كان أحد مثلا متوظّفا في وظيفة سنية ، وقصدوه أن يقضي لهم أمرا أعطوه أضعاف ما يعطونه لمن ليس له شغل إلا قضاء تلك الحاجة بعينها.
ومن كان معاشه من حرفة له ، وإن تكن تلك الحرفة عقلية لا يدوية ، لم يكن له مقام من لا حرفة له سوى الخرق والبطالة ، وعلى هذا قال الفاضل كولد سميث : إن الناس من شأنهم أن يستخفّوا بالمعارف التي يتعيّش منها ، وقد يتّفق مثلا أن يكون طبيب نطاسي ، وآخر متطبب ، فإذا كان لهذا عاجلة ودار رحيبة وخدم أقبلت عليه جميع الأمراء والعظماء ، وأدبروا عن ذلك لكونه ممّن يمشي على رجليه ما لم يؤلّف كتابا ويظهر فيه براعته ، فكم من ملكات جليلة تبقى في زوايا الخمول بسبب هذا الترجيح الزائغ. نعم إن زيادة شلين واحد في ثمن المتاع عندهم يوجب فرقا عظيما ، إلا أنه ليس من العدل أن تقاس الناس بالبياعات ، فكم من عالم عاقل وليس عنده كتاب ، وجاهل غبي ولديه أضابير كتب نفيسة؟.