الدأب من جهة يعدّ من المناقب ، ومن جهة أخرى لا يخلو من الذم ، فإنّ المعتقد بصدق الموصى به ثقة بالموصي وعدم تغيير اعتقاده فيه وإن سمع عنه ما يشينه يترجم بفعله هذا وإصراره عن عصمته ومحالية طروء الغش عليه فيما قرّر عليه رأيه ووطّن نفسه ، حتى لا يحتاج بعدها إلى ناصح ينصحه ومنبّه يرشده ، فاسترسل في هواه إلى ما يعرّضه لطعن العائبين ، ونقد المنكرين ، واللبيب من لا يركن إلى هواه ولا يثق بثقته ، بل يشكّ في نفسه ويستريبها حتى يؤدّيه الشكّ إلى اليقين.
إمكان خداعهم
وبعد ؛ فهب أن ذلك الشخص الموصى به كان جديرا بالمراعاة والإجارة ، وهو في بلاده ، أو أول دخوله بلاد الإنكليز فقد يحتمل أنه عند مشاهدته هؤلاء القوم على هذه الأحوال التي لم تكن تخطر له ببال قط تتغيّر أخلاقه ، ويتلبّس بصفات لا تشاكله ، فقد عرفت كثيرا ممّن قدم إليهم من البلاد الشرقية وعليهم سمت الاستقامة ، وسمة النزاهة فلمّا رؤوهم على هذه الحال من التشوّف إلى معرفة بلادهم ، ومن ائتمانهم الغرباء على بناتهم ، وإكرامهم لهم لأجل الوصية التي قدموا بها اتّخذوا لهم ريشا غير الذي جاؤوا به ، وانتحلوا لأنفسهم صفات ومآثر لم يكونوا يحلمون بها من قبل قط ، فبعضهم قام في الناس خطيبا يحكي ما علمه من أحوال بلاده ، وبعضهم طمح إلى أن يتزوّج فيهم من يكون عندها من المال ما يشتري به أملاك أهل بلدته أو قريته ، وبعضهم أخذ في التأليف وحشر نفسه في زمرة علمائهم ، وكلّهم ظنّ أنّ الإنكليز طعمة للملتهم ، ولقمة للملتقم.
وأول ما يخطر ببال الدخيل فيهم إذا كان عزبا ، إنّما هو أن يتزوّج إحدى بنات الأعيان أو الأغنياء ليستغني برزقها عن الهمّ والنصب والتفكّر في المنقلب. وفي الحقيقة فقد صدق فيهم مؤلف حاجي بابا ، وهو أن الإنكليز إذا تعرّفوا بغريب فلا بدّ من أن يرفعوا من قدره لئلا يلحقهم من تعارفهم به وصمة تشينهم ، فربّما انتحلوا له لقب أمير ، أو سيّد ، حتى يتوهّم الرجل أنّه في الواقع كذلك.