بعناية المولى ، وفيه من وجه آخر تقسية للقلب ، فإن الإنسان والحالة هذه يهون عليه أن يفارق وطنه وسكنه لأجل المال. وهذا الداء فاش أيضا عند المثرين والموسرين هنا ، إذ الغني منهم قد يكون له ابن وحيد ، فيبعثه إلى الهند أو غيرها طلبا لوظيفة سامية ، وربّما فجع به بعد قليل ، وهذا يعدّ من وجه أنه ناشئ عن كبر همّة وسمو مطمح ، ومن وجه لك أن تعدّه من الحرص والطمع ، فوفّق بينهما إن استطعت.
ويلحق بذلك أن الشيخ الفاني منهم إذا أراد مثلا أن يبني بيتا ، أو يأتي أمرا فإنّما يجعل همّه في تحصيل المنفعة منه في المستقبل أكثر من الحاضر ، وفي غير البلاد لا يبالي إلا بمنفعة الحال ، ولا يكاد يتّجه أمر يرجى منه نفع وصلاح إلا وتجرّدت له جماعة ، فتجريه على وجه مرغوب ونحو مطلوب. وكلّما اخترع أحد شيئا قصد به غالبا إحدى هؤلاء الجماعات إيثارا لهم على أهل بلاده ، لعلمه بأنّهم يعرفون أجرة العامل ؛ فيعينونه على إجراء مرامه بما فيه نفع له ولهم.
ثم إنّه وإن يكن قد غرس في طبع كلّ إنسان أن يحب وطنه ، ويفضله على غيره ، ولا سيّما إذا سافر إلى بلد هو دون بلده في طيب الهواء ، ورغد العيش ، وحسن الأحكام إلا أنّ هذه الخلّة تكاد أن تكون من خصوصيات الإنكليز ؛ فإنّهم إيان يتغرّبوا يظلّوا لهجين بذكر بلادهم ، وما فيها من المحاسن واللذّات. وقد رأيت كثيرا ممّن سافروا منهم إلى بلادنا ، وإلى مصر والغرب ، وباريس ، وغيرها ، فأثنوا على تلك البلاد بشيء وافق طباعهم منها إلا أنّهم عند ختم الكلام يقولون : لا شيء مثل إنكلترا القديمة ، وإنّما يصفونها بالقدم لعدم تحوّل أحوالها وتغيّر عاداتها ، كما أن أهل باريس يقولون : ليس إلا باريس.
ومع ذلك فإنّك لا تزال ترى الإنكليز طوّافين في جميع البلاد ، وراكبين متني البحر والبر معا ، ولكن لا تكاد ترى أحدا منهم يسافر إلى البلاد الأجنبية لأجل أن يعلّم التصوير ، أو الرقص والغناء ، كعادة غيرهم من الإفرنج ، وإنّما هو للتجارة. أمّا الأمراء والأغنياء فإنّهم يسافرون للتنزّه ، وأحيانا لأجل تخفيف المصاريف ، فإنّهم مهما يصرفوا في غير بلادهم فلن يبلغ ذلك نصف ما يصرفونه وهم في أوطانهم. وبّ وليمة عندهم ينفق فيها نحو مائتي ليرة ، فترى منهم في كلّ قصبة من بلاد أوربا ألوفا ، ومتى رجع الإنكليزي إلى بلاده أنشد مع الشاعر :