وحجّ ثالثا فى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، ورسم بسفر الخواتين وبعض السرارى ، وكتب لنائب الشام بتجهيز ما يحتاج إليه فوصلت التقادم على العادة من النواب وأمراء الشام وأمراء العربان ، وطلب سائر صناع مصر لعمل الاحتياجات.
وخرج المحمل على العادة ، وأمير الركب الأمير عز الدين أيدمر الخطيرى ، فرحل فى عشرين شوال.
وركب السلطان فى سبعين أميرا من قلعة الجبل يوم الخامس والعشرين منه ، وسفّر الحريم مع الأمير سيف الدين طقزتمر ، فلما قارب عقبة أيلة بلغه أن الأمير بكتمر الساقى على نية المخامرة فهم بالرجوع وبعث ابنه أنوك وأمه إلى الكرك. ثم قوى عزمه على المسير ، فسار وهو محترز ، ورسم أن كلا من الأمراء يحضر باب الدهليز بثلاثين مملوكا ، فصار الجميع ينامون وعددهم تحت رءوسهم ، وكل أحد مشتمل عليه زردية ، وسيفه متقلد به وترسه على كتفه ، وترك السلطان النوم فى مبيته.
فلما وصل إلى ينبع تلقاه الشريف أسد الدين رميثة (١) ـ أمير مكة ـ بينبع ومعه القواد والأشرف ، فأكرمه ورحّب به ، وتوجّه حتى نزل خليص ، ففر عند الرحيل ثلاثون مملوك ، فاهتم السلطان لذلك وصار حتى قدم مكة ، وجرى على عادته فى التواضع لله تعالى وكثرت الصدقات على أهل مكة والإنعام على الأمراء والأجناد ، وقضى نسكه ، وبعث الأمير أيتمش المحمدى ومعه مائة حجار إلى العقبة. فوسّعها ونظّمها.
ودخل السلطان المدينة النبوية ، فهبت بها رياح عاصفة قلعت الخيم ، وأظلم الجو ، وصار كل أحد يهجم على غير خيمته ولا يعرف موضعه ، فانزعج السلطان انزعاجا زائدا ، وخاف من أن يفتك به أحد ويغتاله ووقع الصياح فى الوطاقات (٢) ، وكان أمرا مهولا طول الليل حتى طلع الفجر فانجلى ذلك.
وحضر أمراء العربان بالمماليك الهاربين عن آخرهم ، ورحل عن المدينة ، فتوعك أحمد بن الأمير بكتمر الساقى ، ومات بعد أيام ، ولم يقم بعده بكتمر إلا ثلاثة أيام ، ومات أيضا بالقرب من عيون القصب ، فتحدث الناس أن السلطان سقاهما ، فدفنا بعيون القصب ، ثم نقلا إلى تربة بكتمر بالقرافة.
__________________
(١) انظر : (شذرات الذهب ٦ / ١٤٩ ، الدرر الكامنة ٢ / ١١١ ، خلاصة الكلام ٢٨ ـ ٣٠ ، النجوم الزاهرة ١٠ / ١٤١ ، الأعلام ٣ / ٣٣).
(٢) جمع الوطاق ، وهو لفظ تركى ، يعنى : الخيمة أو مجموعة الخيام أو المعسكر أو الغرفة.