وشر! بل وتتجاوز هذه الحياة إلى المستقبل الأبدي البعيد لتحدثنا عن العالم الآخر وما فيه من حساب وجزاء ، وتبيّن تفاصيل دقيقة متناسبة وعقل الإنسان وأحاسيسه ، فهل يمكن أن تكون هذه الرسالة طيشا ومن يحملها إلى الناس مجنونا؟!! وهل يتسنّى لغير المجنون والمكابر أن يتجاهل حقيقة الرسالة التي هي نعمة ونور ويزعم بأنّها جنون ونقمة وظلام؟! ولعلّنا نستشف من قوله سبحانه «أنت» بأنّ الذي لا يكتشف الفرق بينهما لهو المجنون حقّا وليس أنت يا رسول الله.
وعند التأمّل في قوله الله : «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» نهتدي إلى فكرتين : الأولى : أنّ عظمة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليست بذاته فهو بشر كسائر الناس ، وإنما عظمته برسالة ربه (نعمة الله عليه) ، وقد قدّم ربنا السبب (نعمته) ربما لبيان أنّه ليس هناك سبب آخر غير الرسالة استمد منه النبي عظمته وبلوغه كمال العقل ، والثانية : أنّ إضافة النعمة إلى الله سبحانه ينفي نفيا شديدا مزاعم الكفّار بأنّه قد تلقّى الوحي من الجن (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (١).
[٣] ثانيا : إنّ النتائج والمعطيات العظيمة التي وصل إليها الرسول في الدنيا والتي ستكون له في الآخرة أظهرت بجلاء أنّ الرسالة وحي ، وأنّ النبي أعظم الخليقة ، وأنّ جهلهم هو الذي جعلهم لا يفرّقون بين العظمة والجنون ، ولا بين رسالة الغيب وأساطير الأولين. كيف ذلك؟
إنّ الكفّار والمشركين كانوا يعدّون الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ مجنونا لأنه ينشد التغيير الحضاري الجذري والشامل ليس لمجتمع شبه الجزيرة العربية فقط بل للبشرية كلّها ، فيوحّد المجتمع المتمزق بالتناحر ، والمختلف بالأديان ، ويرقى به
__________________
(١) الفرقان / ٤.