شديد الوضوح إلىٰ حدّ لا ينبغي التغافل عنه ، بل لا يتمّ التغافل عنه إلّا مع الخضوع لأدوات النزاع السالفة نفسها والتحزّب لها.
في تلك المرحلة أفرزت هذه النزاعات العديد من الأحاديث الموضوعة لرمي طائفة من الناس بسمة ما ، تنفّر الآخرين منها ، وتقصيها عن دائرة الإسلام والتوحيد. ولئن وضع الكثير من المحققين القدماء والمحدثين الأصابع علىٰ طائفة من هذه الأحاديث ، إلّا أنها ما زالت هي الأكثر رواجاً في تصنيف عدد غير قليل من الطوائف الإسلامية ، الأمر الذي يستدعي المزيد من التحقيق في إرجاع كلّ شيء إلىٰ أصله.
ولعلّ من أكثر القضايا وضوحاً ما نشهده من تسميات منفّرة للعديد من الفرق ، نقطع منذ اللحظة الأولى أنها تسميات أطلقت من الخارج ، ولم تكن منتخبة من أصحابها على الاطلاق.
فلا نستطيع أن نقبل أن طائفة تنسب إلى الإسلام تطلق علىٰ نفسها اسم « الشيطانية » مثلاً ، بل حتى تسميات مثل : « المسجمة » و « المعطلة » و « الرافضة » و « الخشبية » هي تسميات لا يمكن أن تكون مختارة ، بل لا يمكن إلّا أن تكون من وضع فئة قوية لها كلمة نافذة ، استطاعت تعميم هذه التسميات لتكون مفروضة على أصحابها. بل لنا أن نتوقّع أنه لو ترك الأمر لفرقة « المعتزلة » لما اختاروا لأنفسهم هذه التسمية وهم يعتقدون ـ كسائر الفرق ـ أنهم على الحق ، دون سواهم ، أو أنهم على الأقل أقرب إلى الحق من سواهم ، فإذا علمنا من ناحية أخرىٰ أن المؤرّخين يضعون ستة أسباب لنشأة « المعتزلة » وحدها ، علمنا كم دخلت في هذا الموضوع من آراء واتجاهات جديرة بالبحث والتحقيق.
وهذه الدراسة التي نقدّمها في هذا الكتاب ، بتقسيم جديد ، بعد أن كانت قد توزّعت علىٰ مباحث في كتابنا « تاريخ الإسلام السياسي والثقافي ـ مسار الإسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب » ، تأخذ علىٰ عاتقها هذه المهمة ، على أمل أن تكون قد قدّمت للقارئ أقرب الصور إلى الحقيقة في موضوع نشأة المذاهب والفرق وفي معالمها الأساسية.
وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكلت وإليه أُنيب.