والصواب قول البصريّين : إنها «أن» الناصبة أهملت حملا على «ما» أختها المصدريّة ، وليس من ذلك قوله [من الطويل] :
٣٦ ـ ولا تدفننّي في الفلاة ، فإنّني |
|
أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها |
كما زعم بعضهم ، لأن الخوف هنا يقين ، فـ «أن» مخففة من الثقيلة.
______________________________________________________
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] أو بحرف نفي نحو (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] وهذا على الغالب وقد تتصل بالفعل المتصرف الخبري غير مقترنة بشيء من ذلك كقوله :
علموا أن يؤملون فجادوا |
|
قبل أن يسألوا بأعظم سؤل (١) |
وما خرج عليه الكوفيون ذلك البيت من هذا القبيل (والصواب قول البصريين إنها أن الناصبة أعملت حملا على أختها ما المصدرية) بدليل أن الشاعر أعمل أولا حيث قال : أن تحملا ، وثانيا حيث قال : وتصنعا ، ورابعا حيث قال وأن لا تخبرا ، فيحمل قوله ثالثا أن تقرآن على أن هذه هي تلك ، ولكنه أهملها لما ذكر (وليس من ذلك) أي من إهمال أن الناصبة (قوله) أي قول أبي محجن الثقفي بكسر الميم وإسكان الحاء المهملة وفتح الجيم :
(إذا مت فادفني إلى جنب كرمة |
|
تروي عظامي بعد موتي عروقها (٢) |
ولا تدفنني في الفلاة فإنني |
|
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها |
كما زعم بعضهم ؛ لأن الخوف هنا يقين وأن مخففة من الثقيلة) لا الناصبة أهملت ، وقد يقال : لا يلزم من تيقن العقلاء أنه لا يذوقها بعد الموت حمل الخوف على اليقين عند هذا الشاعر ، لأن اشتهاره بشربها ومغالاته في محبتها أمر مشهور ، وله في ذلك حكايات معروفة ، فلعل ذلك حمله على أن يخاف ولم يقطع بما يتيقنه غيره ، ولذلك أمر بدفنه إلى جانب الكرمة رجاء أن ينال منها بعد الموت ، ومن ثم قيل إن هذا أحمق بيت قالته العرب.
ويحكى أن معاوية رضي الله تعالى عنه ، قال لولد أبي محجن هذا أبوك الذي يقول : إذا مت فادفني البيتين ، فقال : أبي الذي يقول :
__________________
(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٧٢ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٣.
(٢) الأبيات من البحر الطويل ، وهي لأبي محجن الثقفي في ديوانه ص ٤٨ ، والأغاني بلفظ (تروي شاشي) ١٨ / ٣٨٤.