شكرك ، فسلّطني على دنياه حتّى يتبيّن الأمر ، فسلّطه الله عليه ليكون هذا الحادث سندا لكلّ سالكي طريق الحقّ.
فانحدر إبليس وأهلك أموال أيّوب وأولاده الواحد تلو الآخر ، ولكن لم تزد هذه الحوادث أيّوب إلّا ثباتا على الإيمان وخضوعا لقضاء الله وقدره.
فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه ، فأحرق كلّ زرعه ، وأهلك كلّ غنمه ، فلم يزدد أيّوب إلّا حمدا وشكرا.
وأخيرا طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيّوب ليكون سبب مرضه ، وهكذا كان بحيث لم يكن قادرا على الحركة من شدّة المرض والجراحات ، لكن من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.
والخلاصة ، فقد كانت النعم تسلب من أيّوب الوحدة تلو الاخرى ، ولكن شكره كان يزداد في موازاتها ، حتّى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته ، فقالوا : قل لنا أي ذنب عظيم قد اقترفت حتّى ابتليت بمثل هذا الابتلاء؟ وهنا بدأت شماتة هذا وذاك ، وكان هذا الأمر شديدا على أيّوب ، فقال مجيبا : وعزّة ربّي انّي ما أكلت لقمة من طعام إلّا ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي ، وما عرض لي أمران كلاهما فيه طاعة لله إلّا أخذت بأشدّهما عليّ.
عند ذاك كان أيّوب قد اجتاز جميع الامتحانات صابرا شاكرا متجمّلا : وهو يناجي ربّه بلسان مهذّب ودعا أن يكشف عنه ضرّه بتعبير صادق ليس فيه أدنى شكوى ـ وهو ما ذكرته الآية المتقدّمة : (رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ـ وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهيّة ، ورفع البلاء بسرعة ، وانهمرت عليه النعم الإلهيّة أكثر من ذي قبل (١).
أجل ... إنّ رجال الحقّ لا تتغير أفكارهم وأعمالهم بتغيّر النعم ، فهم يتوجّهون إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوّتهم وضعفهم ، وبكلمة واحدة
__________________
(١) تفسير القمّي ، طبقا لنقل تفسير الميزان.