فما ظنّك بالرجل الدينيّ الواقف على كلّ هذه الكنوز من كثب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من المغيّبات ، وممّا يشاهده من نفسيّات القوم ، أنّ تلكم الأموال المكتنزة سوف يُصرَف أكثرها في الدعوة إلى الباطل ، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ وفي أُجور الوضّاعين للأحاديث في فضائل بني أُميّة والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهمالسلام ، وفي محرّفي الكلم عن مواضعه ، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة ، ويُصرف شيء كثير منها في الخمور والفجور ، إلى غير ذلك من وجوه الشرّ.
ما ظنّك بالرجل؟ وفي أُذنه نداء الصادع الكريم : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً». ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاؤوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأُكَر ، وقد اتّخذوا مال الله دولا ...
فهل تراه يخفق على ذلك كلّه ، كأنّه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم؟ أو أنّه يُدوّخ العالم بعقيرته؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد؟ عساه يكسح شيئاً من الشرّ الحاضر ، ويسدّ عادية المعرّة المقبلة ، وإنّ أسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).
لقد ناء أبو ذر بهذه المهمّة الدينيّة وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، وما كان يلهج إلاّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولم يشذّ في تأويل الآية عمّا يقتضيه ظاهرها ، لأنّ مطمح نظره
__________________
(١) آل عمران : ١٠٤.