وعدم الثبات ، وصادف حدسهم الواقع فيمَنْ فشل من أهل العراق عن نصرة الحسين ، حتّى كان من عجيب أمرهم أنّ ابن زياد يدخل الكوفة مع نفر من أهل البصرة ، ثمّ يتحصّن من مسلم بن عقيل بالقصر ومعه خمسون رجلاً جلّهم من الشرط ، وقد أحاط به منهم أربعة آلاف رجل فيتفرّقون عن مسلم ويتركونه وحده غريباً ، ولا رموا عن قوس ولا ضربوا بعصا ، ولم يبقَ معه من يدلّه على منزل ، أو يرشده إلى طريق ؛ فلاذ بامرأة لا تعرفه فكانت خيراً من رجالهم ، وهي (طوعة) زوج أسيد الحضرمي (رحمها الله). وغاية ما كان يخمّنه العاقل ويراه البصير أنّ أهل العراق يعدون فيخلفون ، ويبايعون فينكثون ؛ أما إنّهم قاتلوا أنفسهم دون الحسين (عليه السّلام) فلا يكتفون بخذلانه وتركه يقاتل أخصامه ، بل يكون منهم جيش يحيط به ويقاتله حتّى يقتله دون أن يحدث منه أمر ينكرونه ، فلذلك غدر لم يسمع بمثله ، ولم يخطر ببال إنسان ؛ فضرب المثل بهم في الغدر ، فقيل : (أغدر من كوفي) كما في كتاب البغدادي (١) ، وقيل : الكوفي لا يوفي ، من ذلك غدرهم بأمير المؤمنين والحسن والحسين ، وشكايتهم للعمّال. شكوا سعد بن أبي وقاص ، فدعا عليهم ألاّ يرضيهم الله بوالٍ ، ولا يرضى عليهم والٍ ، وشكوا عمّار بن ياسر فقالوا : لا يعقل ، وشكوا المغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة ، وسعيد بن العاص وأخرجوه من الكوفة ، وغروا زيد بن علي ، وخذلوا مسلم بن عقيل ، وقتلوا المختار بن أبي عبيدة. وقال عمر بن الخطاب : أعضل بي أهل الكوفة ، لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير. وقال قوم من أهل الكوفة للوليد بن عقبة لمّا عُزل عنهم : جزاك الله خيراً يا أبا وهب ، فما رأينا بعدك خيراً منك. قال : لكنّي بحمد الله لم أرَ بعدكم شرّاً منكم ، وإنّ بغضكم لتلف ، وحبّكم لكلف. وقال النجاشي :
إذا سقى الله أرضاً صوب غاديةٍ |
|
فلا سقى الله أهلَ الكوفةِ المطرا |
التاركينَ على طهرٍ نساءَهمُ |
|
والنائكينَ بشاطي دجلةَ البقرا |
__________________
(١) انظر عبد القاهر بن طاهر البغدادي ـ الفرق بين الفرق ـ ص ٢٦.