حدب وصوب ؛ لاستنزاف خيراتها ، وتدمير ما خلّفه الأسلاف للأحفاد من أبنائها
في مجالات الحضارة على اختلافها.
فحريّ بمثقّفي
هذه الأمّة والمتخصّصين من أبنائها أن يحافظوا على تراث الآباء والأجداد ، وأن
يسعوا جاهدين لتجديده ، وإحيائه ، ودراسته ، وفهمه ، وشرحه ، والزّيادة عليه بما
يتوصّلون إليه من معارف وعلوم وفنون ؛ لأنّ العلوم حلقات متّصلة عبر مسيرة الحياة
، وهكذا يتمّ التّواصل بين الأجداد والأحفاد.
من هذا المنطلق
، قرّرت أن يكون أحد تخصّصاتي الجامعيّة في الدّرسات العليا تحقيق أثر من آثار
سلفنا الصّالح. ثمّ تابعت السّير على طريق البحث والتّحقيق ، لعلّي أساهم مساهمة
متواضعة في وضع لبنة ما في صرح تراثنا الشّامخ.
وأمّا اختيار
كتاب «أسرار العربيّة» لأبي البركات الأنباريّ ، فلما يتّسم به هذا الكتاب من جدّة
في موضوعه ، وبحثه عن علل الإعراب ، وأسباب تسمية كثير من المصطلحات النّحويّة
التي يعود إليه الفضل في جمعها ، وإن كان النّحاة قبله قد ذكروا شيئا منها في
ثنايا موضوعاتهم التي طرقوها.
ولم يكن أبو
البركات في كتابه هذا جامعا وحسب ، وإنّما كان يطرح التّساؤلات ، ثمّ يجيب عنها
إجابة العالم الواثق ، السّريع البديهة ، الحاضر الذّهن ، في الإتيان بالشّواهد
المناسبة ، والحجج القاطعة التي يدعم بها آراءه.
كيف لا؟ وهو
العالم الحاذق الذي تتبّع مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين ، وتعرّف أسس كلا المذهبين ، وحججهما ، فتبنّى ما رآه
صوابا ـ وفق اعتقاده ـ وفنّد الحجج التي رآها بعيدة عن الصّواب بأسلوب واضح ، ينمّ
عن ذكاء خارق ، وسعة اطّلاع.
وما أريد أن
أثير انتباه الدّارسين والباحثين وطلّاب الدّراسات العليا إليه في هذه العجالة ،
هو أنّ ابن الأنباريّ وضع اللّبنات الأولى لفنّين اثنين في غاية الأهميّة من خلال
كتابيه «أسرار العربيّة» و «الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين»
ففي الأوّل ـ أسرار العربيّة ـ شقّ الطّريق إلى إيجاد فنّ متكامل في مجال
الدّراسات النّحويّة ، يمكن أن نطلق عليه اسم : «الفلسفة النّحويّة».
__________________