ونقض النفي مع تعرّي الكلام منه محال ، فدلّ على أن «ما زال» في الإثبات بمنزلة «كان» فكما لا يقال «كان زيد إلا قائما» فكذلك لا يقال «ما زال زيد إلا قائما» فأما قول الشاعر :
[٩٤] حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة |
|
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا |
______________________________________________________
[٩٤] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٤٢٨) والزمخشري وابن يعيش (١٠١٠) والرضي (٢ / ٢٧٥) والأشموني (رقم ٢١٠٠) وانظر خزانة الأدب (٤ / ٤٩ بولاق) والحراجيج : جمع حرجوج ، أو حرجيج وهي هنا الناقة الضامرة الهزيلة ، ومناخة : اسم المفعول المؤنث من قولك «أناخ الرجل بعيره أو ناقته» إذا أبركها ، والخسف ـ بالفتح ـ الجوع ، وذلك أن يبيت على غير علف ، وكان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء يخطئان ذا الرمة في هذا البيت ؛ لأنه أدخل حرف الاستثناء ـ وهو إلا ـ على خبر تنفك ، وقد خلص العلماء ذا الرمة من هذا الخطأ ، ولهم في ذلك التخلص خمسة أوجه ؛ الأول أن الرواية ليست كما زعم أبو عمرو والأصمعي ، وليس التالي لقوله «ما تنفك» هو إلا التي هي حرف استثناء ، بل هو «آلا» بمد الألف ، والآل : الشخص ، وذلك نظير قول ذي الرمة نفسه في كلمة أخرى :
فلم نهبط على سفوان حتى |
|
طرحن سخالهن وصرن آلا |
ويروى أن ذا الرمة لما نبه إلى الخطأ فطن له وقال : أنا لم أقل «إلا مناخة» وإنما قلت «ما تنفك آلا مناخة» وعلى هذا الوجه يكون قوله «آلا» خبر تنفك ، ومناخة صفة ، وحينئذ يسأل عن وجه تأنيث الصفة مع أن الموصوف مذكر ، والجواب عن ذلك أن الآل ـ وهو الشخص ـ يطلق على المذكر والمؤنث كالشخص الذي هو بمعناه ، ولما كان المراد هنا النوق أنث الصفة ، وهذا التخريج قد ذكره كثير من العلماء ، وقد سمعت أنه يروى عن ذي الرمة نفسه ، والتخريج الثاني : أن «تنفك» ههنا تامة ، وليست ناقصة ، والتي يمنع دخول إلا عليها هي الناقصة ، وهذا تخريج ذكره الفراء في معاني القرآن ، ونسبه المؤلف إلى الكسائي ، وذكره الأعلم في شرح شواهد سيبويه ، والتخريج الثالث : أن تجعل تنفك ناقصة لكن لا يكون «مناخة» خبرها ، بل خبرها هو متعلق الجار والمجرور الذي هو قوله «على الخسف» وعلى هذا الوجه يكون قوله «مناخة» حالا ، وكأنه قد قال : ما تنفك كائنة على الخسف إلا في حال كونها مناخة ، وقد ذكر هذا التخريج الأعلم أيضا ، والتخريج الرابع : أن تكون تنفك ناقصة أيضا ، ولكن يكون خبرها محذوفا ، و «مناخة» حال ، و «على الخسف» يتعلق بمناخة ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : ما تنفك مقيمة في أوطانها إلا في إحدى حالتين : الأولى : أن تكون مناخة على الخسف والثانية : أن نرمي بها بلدا قفرا ، وهذا التوجيه قد ذكره الزمخشري ، والتخريج الخامس : أن تجعل «تنفك» ناقصة ، و «مناخة» خبرها ، ولكن «إلا» ليست للاستثناء ، بل هي حرف زائد لا يدل على معنى ، والممتنع إنما هو دخول إلا الدالة على الاستثناء على خبر «تنفك» وهذا التخريج ـ كما قال ابن يعيش ـ للمازني ، وتبعه أبو علي الفارسي في بعض كتبه ، ونسبه ابن هشام في مغني اللبيب إلى الأصمعي وابن جني ، وفي هذا القدر غناء أي غناء.