الحليفين والمحبّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما ـ والصفا بينهما ـ يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه.
وقيل : هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء ، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم ، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قدر ذراعين ، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض أهل الحجاز. (أَوْ أَدْنى) بل أقرب.
وقال بعض : إنّما قال (أَوْ أَدْنى) ؛ لأنه لم يرد أن يجعل لذلك حدّا محصورا.
وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال : كيف أصف لكم مقاما انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ولم يكن إلّا محمد وربّه؟ وقال الكسائي : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أراد قوسا واحدا كقول الشاعر :
ومهمهين قذقين مرتين |
|
قطعته بالسّمت لا بالسّمتين (١) |
أراد مهمها واحدا.
وقال بعض أهل المعاني : معنى قوله : (فَتَدَلَّى) فتدلّل من الدلال كقولهم : [تظني بمعنى تظنن] وأملى وأملل بمعنى واحد.
(فَأَوْحى) يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى (إِلى عَبْدِهِ) محمد صلىاللهعليهوسلم (ما أَوْحى) قال الحسن والربيع وابن زيد : معناه (فَأَوْحى) جبريل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم (ما أَوْحى) إليه ربّه ، قال سعيد : أوحى إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) إلى قوله (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمّتك ، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال :أوحى إليه سرّا بسرّ من سرّ في سرّ وفي ذلك يقول القائل :
بين المحبين سر ليس يفشيه |
|
قول ولا قلم للخلق يحكيه (٢) |
سرّ يمازجه أنس يقابله |
|
نور تحيّر في بحر من التّيه |
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قرأ الحسن وأبو جعفر [والجحدري] وقتادة (كَذَّبَ) بتشديد الذال ، أي : ما كذّب قلب محمد (ما رَأى) بعينه تلك الليلة ، بل صدّقه وحقّقه ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، أي (ما كَذَبَ) فؤاد محمد محمدا الذي رأى بل صدّقه ، ومجاز الآية : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، فأسقط الصفة ، كقول الشاعر :
__________________
(١) لسان العرب : ٢ / ٤٦.
(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢٨٩.