قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وأصل التدلي : النزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوضع موضع القرب ، قال لبيد :
فتدلّيت عليه قافلا |
|
وعلى الأرض غيابات الطفل (١) |
وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس.
وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا الربيع قال : حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى السماء السابعة ، ثم علا به بما لا يعلمه إلّا الله (عزوجل) حتى جاء سدرة المنتهى ، و (دَنا) الجبار ربّ العزة (فَتَدَلَّى) ، حتى كان منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى) إليه ما شاء ، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية ، لا بالمكان والمسافة والنقلة ، كقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).
وقال بعضهم : معناه : (ثُمَّ دَنا) جبريل من ربّه عزوجل (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وهذا قول مجاهد ، يدلّ عليه ما روي في الحديث : «إنه أقرب الملائكة من جبرائيل الى الله سبحانه» (٢) [١١٨].
وقال الضحاك : (ثُمَّ دَنا) محمد من ربّه عزوجل (فَتَدَلَّى) فأهوى للسجود ، (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وقيل : (ثُمَّ دَنا) محمد من ساق العرش (فَتَدَلَّى) ، أي : جاور الحجب والسرادقات ، لا نقلة مكان ، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان ، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل.
ومعنى قوله (قابَ قَوْسَيْنِ) قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء ، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء ، ونظيره من الكلام زير وزار.
قال صلىاللهعليهوسلم : «لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها» [١١٩] (٣).
وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد ، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد صلىاللهعليهوسلم عند الوحي كقرب قاب قوسين.
وقال أهل المعاني : هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة ، وأصله أنّ
__________________
(١) لسان العرب : ١٥ / ١٤٤.
(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٩٠.
(٣) فتح الباري : ٤ / ٨٥.