وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله.
وقال ابن عباس : (ذُو مِرَّةٍ) ، أي ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خلق طويل حسن.
(فَاسْتَوى) يعني جبريل (وَهُوَ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون : استوى هو وفلان ، ما يقولون : استوى وفلان ، وأنشد الفرّاء :
ألم تر أنّ النبع يصلب عوده |
|
ولا يستوي والخروع المتقصف (١) |
والمعنى : لا يستوي هو والخروع.
ونظير هذه الآية قوله سبحانه : (إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) فعطف بالآباء على الكنى في (كُنَّا) من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء ، وقيل : استويا في القوة والصعود إلى السماء ، وقيل : استويا في العلم بالوحي ، وقال بعضهم : معنى الآية : استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علّم محمدا ، عن سعيد بن المسيب ، وقيل : (فَاسْتَوى) أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها ، وذلك أنه كان يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها ، وأراه نفسه مرّتين : مرة في الأرض ، ومرّة في السماء فأمّا في الأرض ففي الأفق الأعلى ، وذلك أن محمدا صلىاللهعليهوسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب ، فخرّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم مغشيا عليه ، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه [١١٧] (٢).
يدل عليه قوله سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلّا محمد المصطفى صلوات الله عليه.
(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم : معناها (ثُمَّ دَنا) جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ، (فَتَدَلَّى) فنزل إلى محمد صلىاللهعليهوسلم بالوحي وهوى عليه (فَكانَ) منه (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع.
قال أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ثم تدلّى فدنا ؛ لأن التدلّي : الدنوّ ، ولكنه سامع حسن ؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ ، والدنو يدل على التدلّي ، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي ، وقال آخرون : معناه (ثُمَّ دَنا) الرب سبحانه من محمد صلىاللهعليهوسلم (فَتَدَلَّى) فقرب منه حتى كان (قابَ
__________________
(١) جامع البيان للطبري : ٢٧ / ٥٨.
(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٨٧.