أ ـ الكلمتان « يذهب » و « يمكث » في قوله تعالى :
( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... ) (١) لا يراد بهما مجرد الذهاب أو الاستقرار والإقامة فحسب ، وهو المتناول اللغوي من ظاهر الكلمتين بل فيهما إشارة بالكناية توحي : بأن الأشرار قد يظهرون على الأبرار ، وأن الأخيار قد يلفهم التيار ، ولكن هذا لا يعني تلاشي الحق وضياع الواقع ، إذ لا بد للحقيقة أن تتزين بأبهى حللها ولو بعد حين ، وإذا بالمعدن الأصيل ثابت شامخ ، وإذا بالأوضار منفية ذائبة ، وإذا بالأول « يمكث » في الأرض رسوخاً ، وإذا بالثاني « يذهب » غائراً في خضم الأحداث.
ب ـ الكلمة « أشداء » في قوله تعالى :
( أشداء على الكفار ... ) (٢) تحمل إلى الذهن كل معاني الغلظة والثبات والمجاهدة وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر ، لا الشدة في مقابل الضعف فحسب ، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً ـ لتحرك النفوس وتهز الضمائر ـ إلى التفاني في ذات الله ، وإلى التشدد بأحكام الله ، وإلى التنفيذ لأوامر الله ، فلا لومة لائم ، ولا غضب عاتب.
جـ ـ والكلمة « القانتين » في قوله تعالى :
( وكانت من القانتين ) (٣) استفاد منها الزركشي ( ت ٧٩٤ هـ ) دلالة إيحائية برفع مستوى مريم فيها إلى مصاف الرجال ممن وصفوا بالجد والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة « أذاناً بأن وضعها في العباد جداً واجتهاداً ، وعلماً وتبصراً ، ورفعة من الله لدرجتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم » (٤).
والمستفاد هنا لا وصفها بالعبادة فحسب ، بل رفع درجتها إلى مصاف الرجال الموصوفين بذلك إشارة لتمخضها في العبادة.
__________________
(١) الرعد : ١٧.
(٢) الفتح : ٢٩.
(٣) التحريم : ١٢.
(٤) الزركشي ، البرهان : ٣/٣٠٢.