( بحث روائي )
في الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عن أبي العالية قال : إن اليهود أتوا النبي صلىاللهعليهوآله وقالوا ـ إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ـ ويكون من أمره فعظموا أمره وقالوا يصنع كذا ـ فأنزل الله : « إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ـ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ » قال : لا يبلغ الذي يقول : « فَاسْتَعِذْ بِاللهِ » فأمر نبيه صلىاللهعليهوآله أن يتعوذ من فتنة الدجال « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » الدجال.
وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار: في قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ » قال : هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال.
وفيه ، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » قال : زعموا أن اليهود قالوا : يكون منا ملك في آخر الزمان البحر إلى ركبتيه ، والسحاب دون رأسه ، يأخذ الطير بين السماء والأرض ، معه جبل خبز ونهر فنزلت : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ».
أقول : قد عرفت فيما تقدم أن غرض السورة ـ كما يستفاد من سياق آياتها ـ التكلم حول استكبارهم ومجادلتهم في آيات الله بغير الحق فمنها ابتداء الكلام وإليها يعود عودة بعد عودة كقوله : « ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » وقوله : « وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ » ، وقوله : « الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً » ، وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ » ، وقوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ».
فسياق آيات السورة يأبى أن يكون بعضها يختص بسبب في نزولها لا يشاركها فيه غيرها كما هو مؤدى هذه الروايات الثلاث.
على أن ما في الروايات من قصة إخبار اليهود بالدجال لا ينطبق على الآيتين انطباقا ظاهرا بعد التأمل في مضمون الآيتين نفسهما أعني قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ».
ومن هذا يظهر أن القول بكون الآيتين مدنيتين استنادا إلى هذه الروايات كما ترى.