الثاني : أنّ هذا الفنّ يبحث عن أحوال الأدلّة من حيث دليليّتها وابتناء الأحكام عليها ، والمفروض أنّ موضوعات المسائل إمّا موضوع العلم أو أجزاؤه أو جزئيّاته أو غير ذلك ممّا هو مقرّر في مظانّه ، فكيف يفرض البحث على الوجه الأعمّ مع أنّ الحيثيّة قائمة بالخاصّ.
ويندفع : بأنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مطّردا في جميع المباحث المتعلّقة بالمبادئ اللغويّة ، ولكنّهم فرضوا البحث على الوجه الأعمّ للتوصّل عن معرفة حكم العامّ إلى معرفة حكم الخاصّ ، لما بلغهم من أنّ الله ورسوله والأئمّة المعصومين عليهمالسلام كانوا يخاطبون الناس على طريقة عرفهم ولسانهم كما يصرّح به قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١) ويعطيه أيضا قوله عليهالسلام : « إنّ الله أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه » ويومئ إليه أيضا قوله : « كلّم الناس على قدر عقولهم » ولأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة لا طريق إلى معرفة أحكامها في الغالب إلاّ طريقة العرف وبناء أهل اللسان ، فلابدّ من فرض المباحث على الوجه الأعمّ ليتأتّى بذلك ما هو الغرض الأصلي منها كما لا يخفى.
نعم يبقى في المقام إشكال آخر وهو : أنّ البحث عن تلك الألفاظ على الوجه الأعمّ نقض للقاعدة المقرّرة في فنّ الميزان ـ الّتي قد سبق منّا تحقيق فيها في أوائل الكتاب ـ من أنّ العلم لا يبحث فيه عن الأحوال اللاحقة لما هو أعمّ ولا ما هو أخصّ من موضوعه ، لأنّ الغرض الأصلي من البحث فيه معرفة الآثار المطلوبة عن موضوعه الّتي هي عبارة عن الأحوال المختصّة به الشاملة لجميع أفراده الغير الشاملة لغيرها ، وأمّا الأحوال الغير الشاملة لجميعها أو الشاملة لها ولغيرها فلا تطلب عن ذلك العلم لعدم كونه من الأحوال المختصّة بموضوعه ، بل من الأحوال المختصّة بأمر أخصّ تحته أو أمر أعمّ فوقه فتطلب عن علم يكون موضوعه ذلك الأمر الأخصّ أو الأعمّ ، والأحوال العارضة لألفاظ الكتاب والسنّة على التقدير المتقدّم من هذا الباب ، لأنّها يعرضها بواسطة أمر أعمّ وهو نوع اللفظ ، مع أنّ الموضوع قسم خاصّ منه لأنّه الدليل لا مطلقا.
ويمكن دفعه : بالتزام اعتبار الحيثيّة في ذلك ، بأن يقال : إنّ موضوع تلك المباحث إنّما هو نوع اللفظ من حيث وروده في الكتاب والسنّة على نحو يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وعليه ينزّل عدّهم الكتاب والسنّة موضوعين لهذا الفنّ ودليلين للأحكام ، فلا يكون الموضوع هو الكتاب أو السنّة من حيث هما مع قيد الخصوصيّة لئلاّ ينافي دأبهم من
__________________
(١) إبراهيم : ٤.