.................................................................................................
______________________________________________________
فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده ، وعالم بحظه ونصيبه منه ، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك.
وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة ، وانصرف الهمة إلى الاستعداد له ، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرة الأشغال ، وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير النهاية فتشعب به الهموم ومن تشعب به الهموم في أودية الدنيا فلا يبال الله في أي واد أهلكه ، فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا.
وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان فلم يتركهم وأضلهم في الأغراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف ، فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها ، سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد ، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا ، وإليه ذهب طوائف من عباد الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ، ويظنون أن ذلك خلاص منهم من سجن الدنيا.
وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولا من إماتة الصفات البشرية وقلعها عن النفس بالكلية ، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة فشددوا حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة ، وبعضهم فسد عقله وجن ، وبعضهم مرض وانسدت عليه طرق العبادة ، وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية ، فظن أن ما كلفه الشرع محال ، وأن الشرع تلبيس لا أصل له ، فوقع في الإلحاد والزندقة.
وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله ، وأن الله مستغن عن عبادة العباد ، لا ينقصه عصيان عاص ولا يزيده عبادة عابد ، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسالك الإباحة