الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

محمّد أمين زين الدين

الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

المؤلف:

محمّد أمين زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6177-75-1
الصفحات: ٣٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وضبط الغريزة وتحديد مطاليبها غير كبحها وإبادة ميولها.

والطب الذي يعرف جوعة المعدة الى الطعام ويعرف كذلك فاقة الجسد اليه لايكون كابتاً لهذه الضرورة إذا حدد للممعود أكله ومأكله. والقانون الذي يعترف بالطاقة الجنسية ويعلم بالحاحها الشديد على الانسان لا يعد كابتاً لهذه الغريزة إذا حرّم تصريفها بطريق غير قانوني أو بغير رضى من الطرفين على أقل تقدير.

لاكبت في الإسلام ولا انطلاق. بل موازنة ومعادلة.

موازنة في النشاط الحيوي المبذول ، ومعادلة بين الحاجات المقتضية.

أما أن يتمرد مسلم أو مسلمون (!) على نظم دينهم فيصابوا بالكبت أو ينالوا مغبة الانطلاق فهذا وزر لايحمله منصف على الدين.

١٤١
١٤٢



موازين ونتائج

الدين ضرورة تقتضيها كل خافية من خفايا الانسان وكل ظاهرة من ظواهره ..

والدين نظام تشير الى الحاجة إليه كل ذرة من ذرات هذا الملكوت وكل حركة من حركاته.

هذا ما فصلنا مجمله في البحوث السابقة وأقمنا على ثبوته وجوهاً من البرهان.

واذا كان من الأديان ماهو حق يجب الخضوع له ، ومنها ماهو باطل يلزم التجنب عنه ، فلابد للدين الحق من شيات يمتاز بها عن الدين الباطل ليرفض الانسان مايرفض منها عن علم ، ويقبل ما يتقبله منها عن هدى. وقد أفدنا من بحوثنا الماضية عدداً من هذه المميزات ، وعلينا أن نرجع اليها إذا اردنا التمييز.

فقد عرفنا أن الدين الحق مانفذ الى اعمق دخيلة من دخائل النفس ، وابعد غور من أغوار القلب ، وادق مسرب من مسارب الروح ، فأقام العدل

١٤٣

في جميع هذه الأنحاء ، وأشاع التوازن بين عامة هذه الاصقاع. فلم يغفل غريزة من رشده ولم يهمل خليقة من تهذيبه ، ثم لم يخالف حكم الطبيعة الحكيمة التي ركبت هذه الأشياء في الانسان ، فلم يحف على جهة منها في حكم ، ولم يتحيّز لناحية منها في تشريع.

وعرفنا ان الدين الحق ماوهب الضمير الإنساني بصيرة نفاذة الى الحقائق وطاقة مطبوعة على الخير ، وزوده بالاقيسة العادلة والموازين المعصومة ثم بسط سلطان هذا الضمير على ارادة الفرد ، ومد رقابته الى اعمال الغير مداً رفيقاً يحقق به معنى التعاون على البرّ والتواصي بالحق ، ولا يمس به كرامة الاختيار.

وعرفنا أن الدين الحق ما كان للمجتمع البشري روحاً حياً يكوّن وحدته ، ونظاماً ثابتاً يشد علائقه ويضبط حدوده ، وعقلا مرشداً يدبر حركاته ويوجهه في اعماله. ثم قوة وازعة تتولى صون العلائق فيه وتنفيذ الحقوق ..

وعرفنا أن الدين الحق ماشمل الانسانية بجميع حدودها وتخومها ، وبكل عناصرها وظلالها ، فلم يختص بعنصر منها دون عنصر ، ولم يميز فريقاً منها عن فريق ..

بهذه الالوان الثابتة نملك ان نتعرف على الدين الصحيح متى اردنا ذلك ، وعلى هذه الموازين نستطيع أن نعرض الاديان المختلفة اذا اردنا احقاق الحق منها وتزييف الزائف. أما ادلة هذه الفتاوى فقد تقدم البعض الكافي منها في الفصول السابقة.

ولا أغلو فأزعم أن كل واحدة من هذه الخصائص سمة مستقلة تكفي

١٤٤

بمفردها للتعريف بالدين الصحيح. لا أقول هذا ، فإن تعيين الدين الحق لايكفي له وجود خاصة واحدة من خصائصه مهما كانت الخاصة مهمة فيه.

والشيء الذي لا ريب فيه أن فقد أية سمة من هذه السمات في دين من الاديان حجة قاطعة على قصور ذلك الدين ، وان اجتماعها مكتملة فيه بينة على أنه دين الإنسانية الحق وسبيلها القاصد الى وجهة الكمال ودليلها المأمون الى استقامة الفطرة.

واذا كان الدين هو المنهاج الصحيح لرقي الانسان الى كماله الاختياري المنشود فمن الحتم ان تجتمع فيه هذه الخلال.

من الحتم أن ينفذ الى ادق خفية من خفايا المرء وإلى أوضح ظاهرة من ظواهره ، الى جميع خصائصه فرداً والى عامة علاقاته مجتمعاً ، ثم الى المجتمع البشري في كل اجزائه ومقوماته وفي كل اعماله وغاياته ، الى صلة الانسان بالحياة التي تعمه وبالكون الذي يضمه وبالمكون الذي يدبره.

كل هذه ميادين لنشاط المرء في فكره ونشاطه في عمله ، وكلها مؤثرات عميقة التأثير في نشاطه في فكره وفي نشاطه في عمله ، فمن الضروري للدين أن يتصل بها كافة متى أردا أن يقدم لإنسان المنهاج التام لكماله التام.

أما طبيعة التشريع في الدين الحق فيجب أن تكون مرتكزة على الملاحظات العميقة لكل هذه الانحاء والموازنات الدقيقة بين مقتضياتها.

اذن ففي ضوء هذه المميزات لابد لنا أن نستعرض الإسلام إذا أردنا ان نبحث عن صحته ، أو اردنا أن نخوض في اسراره.

* * *

١٤٥

البشرية نوع واحد.

فالكمال الاعلى الذي تبتغيه كمال واحد.

والسبيل الذي تتجه فيه الى ذلك المقصد سبيل واحد ، ولا مرية في شيء من ذلك.

البشر نوع واحد ، هذه هي المقدمة الأولى التي يقوم عليها الاستنتاج ، وهي بديهية الثبوت ، وهل يدخل في روع عاقل أن البشر أكثر من نوع واحد ؟.

فالغاية القصوى التي يؤمها هذا النوع غاية واحدة. وهذه هي النتيجة الأولى ، والمقدمة الثانية ، وهي واضحة ثابتة كوضوح المقدمة الأولى وثبوتها ، فإن السنة المتبعة في هذا الكون وفي جميع ذراته ، وفي جميع بسائطه ومركباته أن لكل نوع واحد منها غاية واحدة ، وليس بمقدرة الانسان أن يشذ عنها ، لأنه لايملك أن يشذ عن نواميس الكون.

فالقانون الذي يصل البشر بغايته قانون واحد ، وهذه هي النتيجة الثانية ، وهي واضحة أيضاً وثابتة بعد وضوح المقدمات وثبوتها فان المبدأ الواحد والنهاية الواحدة لن يصل بينهما اكثر من خط مستقيم واحد.

والبشرية مجتمع واحد فهو بحاجة الى نظام اجتماعي واحد.

ويهدمه ويصدع وحدته أن يكون له أكثر من ذلك.

والركائز الحقيقية لهذا المجتمع واحدة فلا يشتق منها اكثر من قانون واحد.

هذه الفكرة المستندة الى هذه اليقينيات هي فكرة الإسلام عن ( الدين ) وقد جرى عليها في جميع أشواطه ، وباستطاعة الباحث أن يقرأها صريحة

١٤٦

في كثير من نصوصه ، فقد جرى عليها لما هتف بالانسانية جمعاء بكل شعوبها وأجناسها ليجمعها على الصراط الواحد المستقيم.

( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١).

ولما انذر العالمين اجمعين بالخسران إذا هم ابتغوا غير دين الله منهجاً واتبعوا غير وحيه دليلا :

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٢).

بلى. ومن يتنكب سبيل السعادة فلابد وأن ينتهي الى الشقاء ولابد وان يشعر بالخسران في نهاية المطاف.

وأديان السماء كافة ـ في رأي الإسلام ـ دين الهي واحد وضع بوضع الشريعة الاولى واكتمل باكتمال الشريعة الاخيرة ، ولم يختلف الا بما تفرضه سنة التطور ، ولم يتبدل إلا بما يقتضيه سير الحكمة وحاجة المجتمع. فدين الله هذا الذي أرسل به رسوله الاكبر هو بذاته دين الله الذي اوصى به أنبياءه السالفين ، وفرض على الناس أن يقيموه ونهاهم أن يتفرقوا فيه :

( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (٣).

__________________

١ ـ الأنعام ، الآية ١٥٣.

٢ ـ آل عمران ، الآية ٨٥.

٣ ـ الشورى ، الآية ١٣.

١٤٧

والرسل المطهرون من مبدأهم الى ختامهم انما يدعون الى اعتناق ملة واحدة لا تشعب فيها والى عبادة ربّ واحد لاشريك معه :

( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (١).

وقد جرى الإسلام على هذه الفكرة لما لازم بين اديان السماء في العقيدة وربط مابينها في الايمان ، فالمؤمن لن يكون مؤمناً حقاً حتى يصدق بكل من بعث الله من نبي وبكل ماانزل الى الانبياء من كتاب وبكل ماأوحى اليهم من شريعة :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ) (٢).

( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٣).

وقد جرى عليها ايضاً لما سبر الانسان من اضعف مشاعره الى اقوى صلاته ، ومن ادنى خواطره الى ابعد غاياته ، ثم وازن بين غرائزه القوية والضعيفة حين تتصادم ، وبين غاياته القريبة والبعيدة حين تتقابل ، وحين صعد نظرته في الانسان الى حدوده العليا ثم صوبها الى حدوده السفلى ،

__________________

١ ـ المؤمنون ، الآية ٥٢ ، ٥١.

٢ ـ النساء ، الآية ١٣٦.

٣ ـ البقرة ، الآية ١٣٦.

١٤٨

ليجمع كل هذه المجاري في مجرى ويؤلف جميع هذه المختلفات في وحدة ، على هذه الفكرة جرى الإسلام حين صنع ذلك ليعد للانسان نظامه الواحد الذي لا اختلاف معه ، القيم الذي لا التواء به ، السمح الذي لا حرج فيه ، العام ماوجد فرد من ابناء الانسان ، الخالد مابقيت حياة على ظهر هذا الكوكب. أما دلائل هذه الدعوى فيجدها الباحث في كل حكم من احكام الإسلام وفي كل هداية من هدايات القرآن. وسنتعرض لبعضها في الكتاب اذا امدنا الله منه بالتوفيق.

على أن الفكرة المتقدمة لا اختصاص لها بدين الإسلام ، ولا يدعي الإسلام انه يختص بها دون ماسواه من الاديان ، فهي فكرة رسالات الله عامة ، وقد رأينا الإسلام كيف يقرر هذه الوحدة بين اديان السماء وكيف يقيم على هذه الوحدة ربطاً وثيقاً في عقيدة اتباعه ، رأيناه كيف يجعل منها سلسلة واحدة موصولة الحلقات متماسكة الاجزاء فالسابق منها مهاد للاحق ، والاخير امتداد للاول.

والتفسير المفهوم لهذا الترابط هو ان الاديان في رأيه تنفجر من ينبوع واحد ثم تسير في مجرى واحد الى مصب واحد. نعم وما بشارة أوائل النبيين بأواخرهم ولا تصديق اواخرهم لأوائلهم إلا تثبيت لهذه الفكرة وسير مع مقتضاها.

ذلك ان الايمان ببعض رسالات المرسلين واغفال سائرها أو الجحود به معناه الاول اقتطاع الجزء عن كله ، ومعناه الاخير عدم الايمان بذلك الجزء ايضاً ، لأن الجزء لا يستقيم ولا يؤدي وظيفته مبتوراً ، فلا محيد من تصديق النبيين بعضهم بعضا تمكيناً للغاية وتوجيهاً للإنسانية.

١٤٩

وإذن فالإسلام يجد أن شرائع السماء تتحد معه في القاعدة المتقدمة وتتحد معه كذلك في كل سمة يمتاز بها الدين الحق.

على اننا نلاحظ ما يخالف ذلك في الأديان الموجودة المنسوبة الى السماء ، وهذا إنما يدل على تحريف ماسخ يبعد هذه الأديان عن الصور الحقيقية لشرائع الله الاولى ، اما الفكرة المتقدمة نفسها فلا ريب فيها بعد ان مكن لها البرهان وعززها اليقين.

واعتراف الإسلام بأديان السماء الصحيحة لا يعني اعترافه بهذه الصورة الشائهة الممسوخة التي لاتجتمع وإياها في الفكرة ولا تتفق معها في الخطة ، وقد لا تتحد معها بغير الاسم ... وللبحث صلة تأتي ان شاء الله تعالى في فصل قريب.

* * *

( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١).

بهذه الآية الكريمة الحكيمة يوضح الله غايته من تشريع الدين ورفع قواعده.

ليطهر الناس المؤمنين به المتبعين لأحكامه ، وليتم نعمته عليهم ، هذه الغاية التي ابتغاها ربّ الناس للناس من تشريع دينه ووضع أحكامه.

تطهير وإنقاء .. ثم تزكية وإعلاء.

__________________

١ ـ المائدة ، الآية ٧.

١٥٠

إنه هدف مزدوج على ما يبدو ، وكل شيء يرام أن يؤخذ به الى غاية فلابد من إعداده لها ولابد من تصفيته من أضدادها. والنفس البشرية جهاز كالاجهزة لايجدي نفعاً مالم تنظف أعجاله ومحركاته عما يعلق بها من أدران ، وعما يقر في خزّاناته من رواسب ، ولا يجدي نفعاً مالم يحسن مديره كيف يوجهه الى العمل المطلوب وكيف يستخدمه للانتاج الحسن الكثير.

تطهير وانقاء ، هذا هو المأرب الاول الذي يعمل له الدين.

أجل. فاللنفوس من أهوائها ومطامعها معوقات تصدها عن الخير وعليها من سواها مؤثرات تصرفها عن الاستكمال ، وللنعم أضداد من صفات الانسان تمنعها عن التحقق. ولها حواجز من ملابسات الانسان تعتاقها عن التمام. ولا مناص من اجتثاث هذه الآفات ، وإقصاء هذه الغرائب اذا لم يكن مناص من بلوغ الغاية. والمعوقات المذكورة تتمثل في كل عمل محظور نهى عنه دين الله ، وفي كل صفة ذميمة منعت منها إرشاداته وفي كل غاية وضيعة حرمت السعي اليها تعاليمه.

ثم تزكية وإعلاء ، وهذا هو المأرب الثاني من مآرب الدين ، وهو كذلك دور اتمام النعمة على حد تعبير الآية الكريمة ، وبهذا تتم الغاية التي أرادها الله يوم وضع العقيدة وشرع الشريعة.

وواجب الدين في الدورين المذكورين أن يعد الذرائع المبلغة الى المدى ، وان يوجه النفوس بصفاتها وبأعمالها الى الهدف ، ثم عليه غير ذلك أن يلون الغايات المتفرقة حتى يرجعها الى غاية ، وأن يضم المسببات المختلفة حتى يجمعها في مسبب هو الغاية الكبرى للدين والكمال الاقصى للبشر والنعمة

١٥١

العظمى لجاعل الدين وخالق البشر.

على الدين أن يهيِّيء الوسائل المبلغة وأن يمهد السبل المستقيمة ، وأن يتيح الفرص الكافية ، وأن يقيم الدلائل الواضحة ، وأن ينشر الدعوة الحكيمة. أما الاستجابة للدعوة وسلوك السبيل واغتنام الفرصة ، أما ذلك فهو من شؤون المرء ذاته. فليس من خليقة الدين أن يكره ، وليس من حكمة الله أن يضطر ، وليس من كرامة الانسان ان يجبر.

الانسان ذاته هو الذي يتحكم في عقبى أمره فيحرز لنفسه الفوز أو يكتب عليها الخسار.

والهدفان المذكوران مترتبان في طبيعتهما ، فما يكون لنفس أن ترقى وأن تستكمل وهي لاتزال ملوثة السر قذرة العلانية ، وما يكون لنفس مثقلة بالجرائر مرتكسة في الخبائث أن ترتفع الى منال الكرامة.

وطبيعي أن تنقَّى الأرض وأن تستأصل مافي تربتها من جرثومة أو آفة قبل أن تبذر فيها أول حبة أو تغرس فيها أول نبتة.

وآفات النفوس ومعوقاتها عن طلب الخير ـ كما قلنا من قبل ـ تفوت الحصر وتمتنع على الحاصر ، وهي كذلك غير محدودة الوقت ولا محدودة الأثر. ومقتضى ذلك أن يستمر التطهير مادامت مظنة للتلوث ومادامت مظنة للانتكاس.

ومن أجل ذلك كانت مهمة الدين مركبة أو مزدوجة طوال الحياة.

ومن هنا كانت عنايته بطب الوقاية تضاهي عنايته بطب العلاج.

ومن هنا كانت محرماته تربو على واجباته ، وكانت تحذيراته أشد تغليظاً من ترغيباته.

١٥٢

ومن أجل ذلك أيضاً وثق الإسلام مابين الغايتين في الأسباب ولازم مابينهما في التحقق حتى أصبحت أسباب التطهير بذواتها أسباباً للترقية ووسائل الترقية بأنفسها وسائل للتطهير ، فقد قال مثلاً في الكتاب الكريم :

( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ) (١).

وقال : ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ ) (٢).

يصنع الدين ذلك لأنه يرى أن افراد الغايتين في المنهاج تضييع للزمن وتفريط بالفرصة. وقد ينتهي بالانسان الى الحرمان من الغاية ، ولأن التكامل الاختياري في مدرجة الرشد كالتكامل الطبيعي في سائر القوى الطبيعية كلاهما نموٌّ متصل مطّرد لا مجال فيه لوقفه ولا مساغ لابطاء.

وبعد ففي الآية الكريمة إيحاءات يجمل بنا أن نقف على قليل منها.

يريد ليطهركم. وليتم نعمته عليكم ، لهذه الغاية شرع الله الدين ووضع اسسه وأقام بناءه ، ليتم نعمته عليكم ، وإن النعم موجودة موفورة على الانسان منذ يوم خلق ، إلا انها لا تستتم حلقاتها الا بالدين ، ولا تبلغ تلك الحلقات غايتها المرجوة المحمودة ولا تؤتي ثمراتها الزكية الطيبة إلا باتباعه.

__________________

١ ـ النساء ، الآية ٣١.

٢ ـ هود ، الآية ١١٤.

١٥٣

هذا ماتوحي به الآية أفليس الواقع كذلك ؟

ومن البين أن أسبق النعم على المرء هي نعمة الوجود ، وان جميع النعم الاخرى متفرعة على هذه في التكوين ، ومن البين كذلك أن نعمة الوجود لن تصل الى تمامها الا يوم يصل الموجود الى ذروة كماله.

وماذا في الانسان غير وجوده ( إذا صح منا هذا التعبير ) ؟.

ماذا فيه غير كيانه المادي الخاص ، وغير الحياة التي تعمر الكيان ، والعقل الذي يدبر سلوك الحياة ؟.

فيه أجزاء مادية داخلية وخارجية يتألف منها الجسد ، وفيه قوى وطاقات آليّة وإرادية يبرز فيها نشاط الحياة ، وفيه أشواق وغرائز تشير الى ضرورات ذلك الجسد وفاقات تلك الحياة. وفيه أشياء كثيرة وعجيبة تدهش العقل وتحيّر اللب.

فيه هذه المجموعة الكبيرة من الأشياء المختلفة التي يقوم بها كيانه وتستقيم بها حياته ، وكل واحد من أشياء هذه المجموعة نعمة كبيرة على الانسان لا صلاح له بدونها ، ولو أنها فقدت أو نقصت منه لتعذرت عليه حياته أو لتنغَّصَتْ عليه معيشته واضطربت أحواله.

فاذا استعرضنا هذه المجموعة واستقرأنا مافيها من أجزاء ومظاهر وخصائص وجدناها مليئة بالحوافز والاستعدادات. الاستعدادات للتكامل الانساني والحوافز على طلبه والحصول عليه.

وحتى نمو الانسان الطبيعي والاجهزة الكثيرة التي تعمل له ، والطاقات الكبيرة التي تنفق فيه انما هي إعدادات لتلك الغاية.

فاذا كان الدين هو المنهاج الذي ينال الانسان به رشده ويستكمل

١٥٤

به غايته فهو دون شك متم هذه النعم لانها لن تستكمل فعليتها الا يوم اتباعه.

فالدين متم هذه النعم بمعنى أن تشريعه يضم نعمة كبيرة الى أعدادها الكثيرة.

الدين متم هذه النعم بمعنى انه السبيل الذي تبلغ به نهايتها.

وبعد أن يستحق الدين هذه الصفة ، وبعد أن يكون بحق هو المتم لنعمة الله على عبده ، فلا محيد من أن يكون تشريع الدين حقاً لله وحده ، ولا مساغ لأن يدان فيه لأحد سواه. هذا ماتوحي به الآية أيضاً. أفليس الحق هو ذلك ؟

الله وحده مفيض نعمة الوجود في ابتدائها ولا شريك له في ذلك ولا ظهير له عليه ، أفلا يكون من حقه وحده أن يكون مصدر هذه النعمة في استكمالها وان لايكون له فيها شريك ولا ظهير ؟ والله وحده هو الذي استودع الانسان نزعة التكامل ومكن له في طبيعته وأعد له قواه ومشاعره ، أفليس من حقه وحده كذلك ان يسن له المنهج الذي يتكامل فيه وان يهديه سبيله ويقيم له دليله.

الدين حق خالص لله فلا يؤخذ إلا منه.

والكمال البشري غاية الله من تكوين الانسان فلا يرجع في رسم حدوده ولا في تعيين سبيله الى أحد سواه. هذا ماتوحي به الآية الكريمة وهذا ما يجب أن يكون ، ألم نقدم جميع هذا مبسوطاً بدلائله ؟.

ولست أريد الاستقصاء ففي الآية لفتات اخرى حول الدين وحول الانسان ، وفي القرآن الكريم إيضاحات أخرى لهذه المضامين وفيه

١٥٥

آيات جمة تصف الدين بانه تطهير وتزكية وبأنه اتمام للنعمة وشفاء لما في الصدور.

* * *

ينظر العقل المستنير في أي شيء يلقاه من اشياء هذا الكون ، فيرى وجود ذلك الشيء متوقفاً على غيره ، فاذا نظر الى ذلك الشيء الثاني وجده كالاول حادثاً معلولا لشيء ثالث ، فاذا ارتقى مع سلسلة الأسباب وجد الحكم مطرداً في كل حلقة منها ، وهكذا في كل شيء وفي كل سبب ، وكل ذلك محسوس متيقن.

وهكذا يثبت لدى العقل من هذا الاستقراء الشامل ، حكم متيقن شامل هو ( أن كل موجود حادث ليفتقر الى سبب موجد ) ، وهذا الحكم الاستقرائي المطرد هو قانون السببية أو قانون العلية.

على أن هذا القانون أبين لدى العقل من أن يستعين عليه باستقراء بل واظهر من أن يفتقر في اثباته الى برهان ، إنه من بدائة الفطرة فلا يرتاب فيه أحد ، حتى الاطفال لأول عهدهم بالادراك.

يسمع الطفل صوتاً فلا يرتاب في ان له مصدراً ، ويمد عينيه الى جهة الصوت يفتش عن مصدره ، وينفتح الباب فلا يتردد في ان له فاتحاً ويظل طامح البصر اليه يبحث عن فاتحه ، ويتمادى به الفضول فيسأل عن مبعث ما يراه من حركة ، وعن سبب ما يحس به من امر ، وقد تحدَّثنا عن هذا فيما تقدم.

وكل انسان ذي شعور يفتح عينيه على هذه الحياة يتساءل في نفسه عن سرها وعن بداءة تكوينها وعن سببها الذي اوجدها يوم كانت ، وعن أمور

١٥٦

كثيرة تتعلق بها ويمعن في تفكيره ، ويطلب من نفسه أو من غيره اجوبة لهذه المسائل ويسميها مشكلة الكون ومشكلة الحياة ثم إما يؤمن بالسبب الاعلى لهذه الكون واما يلحد ، فما الذي يحدوه الى التساؤل وإلى التعميق في الطلب ؟

إن فراغ النفس من بذور الفكرة وجذورها معناه الغفلة عنها وليس معناه الالتفات اليها ثم الشك في تحققها والنتيجة لذلك ان يصبح الناس غافلين عنها الا أن يثيرها لهم مثير.

ما الذي يحدو بالمرء الى التساؤل ثم الى الالحاح فيه لولا قانون السببية الذي يحسه بفطرته ؟.

نعم. ذلك القانون الفطري هو البذرة الاولى للفكرة ، ثم إما توكده للانسان نظرة تفصيلية في مشاهد الكون فيؤمن ، واما يعارضه هوىً مخالف في النفس فيلحد.

وحلق العلم وتوالت كشوفه وتتابعت خطواته ، في الطبيعة ، وفي الفلك ، وفي الأرض. وفي المعادن. وفي الجماد. وفي النبات. وفي الحياة. وفي الأحياء. وفي الانسان وفي مختلف جهات الانسان. وفي عناصر هذه المركبات ، وفي طاقاتها ، وفي الدقائق التي تأتلف منها العناصر. والوحدات التي تتكون منها الطاقات. وفي كل ماتناله التجربة وتبلغه الآلة.

وكشف قوانين تدبر هذه المكونات وقوانين تشد بعضها ببعض. وقوانين تحفظ علاقات بعضها ببعض ، وماهذه الخطوات وما هذه الكشوف الا اطراد لقانون السببية أو اطراد لقانون الغائية.

١٥٧

وكم اثبتت المشاهدة العلمية اثراً ، فقال العلم : لابد هنا من سبب لأن الفرض لايتم بدونه ، ووقفت المشاهدة ووقفت الآلة لأنهما لايملكان أن يقولا شيئاً ، وأصر العلم على قوله ، ومرّ زمان والعلم يقول ، والمشاهدة لاتقول. ثم ثبت ذلك للعلم ، وثبت للتجربة وثبت للمشاهدة وما قصة اكتشاف الكوكبين ( نبتون ) و ( بلوتو ) والسيارات الصغرى الواقعة بين المريخ والمشتري ، وما قصص هذه الاكتشافات الفلكية من العلم ببعيد.

وجاء قوم فانكروا قانون السببية وأنكروا شهادة الفطرة وانكروا شهادة الاستقراء. انكروا جميع ذلك لينكروا نتيجة واحدة من نتائجه ، هي دلالة هذا الصنع العظيم على صانع أنكروا كل ذلك ثم وقفوا عند شهادة العلم لانهم لايستطيعون أن يقولوا فيه ماقالوا في سواه.

وأخيراً ألجأهم الموقف أن يعترفوا بقانون السببية في جزئيات الكون ، في مجالات العلم للتجريبي فقط ، فيما تستطيع ان تكشفه الآلة ويناله الاختبار. أما الطبيعة ذاتها ، وأما المادة التي يقوم بها بناء هذا الكون فلا يجب أن يكون لهما سبب.

لماذا ؟

لأن السبب الذي يتحدث عنه الالهيون لايناله الحس ، ولا تبلغه الآلة ولا تدركه التجربة ، أما ائتلاف المادة وقيام المكونات فمنشؤه المصادفة.

وليتهم يستطيعون أن يقيموا دليلاً واحداً محسوساً على هذا الاستثناء الغريب ، وأقول محسوساً لانهم لايدينون بغير الحس على ما يقولون.

وبعد فما أعتى القوانين العقلية على الاستثناء وما اكثر الحقائق التي

١٥٨

تستعصي على التجربة ، أما المصادفة والاتفاق والتعاليل المضحكة التي ينحدر اليها تفكير الانسان في هذه المجالات فلها بحوث اخرى من غير هذا الكتاب.

* * *

( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (١).

وهذا نهج آخر من التدليل يسلكه القرآن الكريم ليوحد الارباب في ربّ ثم ليحصر الأديان في دين.

وكلمة الربوبية في لغة العرب تدل على مزيج من معاني العظمة والرفعة. ففيها معنى السيادة وفيها معنى المالكية وفيها معنى الرعاية والتربية الحكيمة.

والتربية حين يطلقونها يريدون منها تنشئة الكائن وتغذية جسمه وروحه وتنمية مداركه ومواهبه ، وتعهده بالتهذيب والتقويم حتى ينمو ويستكمل ، وحتى ينال غايته المرجوة من النمو والاستكمال. وإذن فكلمة الرب في الآية تدل على معنى التدبير الحكيم للمربوب بايتائه النظام التام لكماله التام.

وشيء آخر وضعته الآية الكريمة موضع التسليم ، فلا ينبغي أن يثار حوله جدل ، ولا ينبغي ان يسمو اليه ارتياب ، فان العقول اسمى خطراً من أن تمتري في حق أو تجادل في برهان. ذلك الشيء الذي لاريب فيه أبداً هو أن الله رب كل شيء ، فهل فيه مرية ؟.

__________________

١ ـ الأنعام ، الآية ١٦٤.

١٥٩

ان هذه حقيقة الحقائق ، ودلائلها ملء الكون وملء الامكان وبعدد ما في هذا الملكوت من ذرة ومافيه من طاقة ومافيه من قانون.

مافي هذا العالم الرحب إلا أثر ، والاثر لن يحدث أبداً دون محدث ولن يستقيم دون مقيم ، وما في هذا العالم إلا مقدر تستعلن فيه الحكمة ، وتستبين فيه القدرة ، ثم لايزايله أثر التدبير والتقدير ما اطرد له البقاء ، ومااقتضى له الابداع.

أفما ترشد هذه الخليقة الى خالق ثم هذا التدبير الى مدبّر ، وهذا الاتقان الى حكمة ، وهذه الدقة الى علم ؟؟.

ثم الا يدرك اي عاقل متبصر أن للكون وحدة شاملة كاملة في نظمه وفي حركاته وفي مجاريه وفي غاياته ؟.

وأخيراً ـ وقد أتاح العلم للانسان أن يبصر اشد من بصره وأن يحس أبعد من احساسه ـ فقد وجد أن الوحدة الكونية حتى في الذرة التي يتألف منها بناء الكون ، وفي النظام الذي يحتويه تركيب الذرة ، وفي الطاقة التي يتقوم بها ذلك النظام ، والتجاذب الذي يتم به تأليف الكون وتستقيم حركاته وتترابط أجرامه ، ثم في هذا التناسق المدهش بين أجزاء هذه المجموعة ، الحي منها والجامد ، المتحرك منها والساكن ، التناسق الذي يكشف عن قانون واحد عام يدبر مجموعة القوانين.

أفليست هذه الوحده المتكاملة دليلاً على وحدة في قوة الايجاد والتدبير ؟.

أوليس هذا الطابع الواحد الموجود في عامة الأشياء رمزاً إلى صانع واحد ؟.

١٦٠