الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

محمّد أمين زين الدين

الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

المؤلف:

محمّد أمين زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6177-75-1
الصفحات: ٣٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) (١).

هكذا يدفع القرآن بالانسان دفعاً لينظر وليتأمل في ماحوله من مظاهر وما يبدو له من أسرار ، فما خلقت هذه العجائب الكونية وما ملئت بها الآفاق والاعماق ليقلب الانسان فيها بصره فينال منها متعة النظر فحسب ، ولكن ليفتش اسرارها ويسبر اغوارها فيفيد من ذلك علماً يكمل به نفسه ويصلح دنياه ، وعقيدةً يثبت بها دينه ويسعد حياته ويصلح آخرته. هكذا يدفع القرآن بالانسان في هذه الآيات وفي نظائرها.

ولكنه في الآية السابقة يومي الى هذا العملاق الجبار الذي يخضع الطبيعة لإرادته ويسيطر على قواها بعلمه الى الانسان المقبل الذي يكتشف خبايا الكون بالمناظير والمجاهر ، ويحلل عناصر الموجودات بالمختبرات والمعامل ، الى إنسان القرن العشرين الذي يقف على نبع النور في المواد البسيطة ، ويستبطن طاقة الذرة في وحداتها الدقيقة ، ويفتح الغلقات من رموز الكون ، ويبرز المكنونات من أسرار الطبيعة ، الى هذا الكائن الطموح الذي يحاول أن يرقى أسباب السماء بسلم ، وأن ينفذ من أقطارها بسلطان ، والذي يثبت بالمشاهدة وبدقة الملاحظة أن الذرة الصغيرة تحتوي نظاماً شمسياً كاملاً دقيقاً كنظام الافق الشمسي الكبير !!

يجد أن في هذه الهباءة التي لا تدرك لصغرها إلا بمجهر. يجد أن فيها فلكا صغيراً كهذا الفلك المحسوس الكبير ، وأن في فلك الذرة نواة تتوسطه كما

__________________

١ ـ الفرقان ، الآية ٤٥ ـ ٥٤.

٢٠١

تتوسط الشمس هذه المجموعة الشمسية ، وفيه ( ألكترونات ) جسيمات صغار تدور حول أنفسها وحول النواة كما تدور الكواكب السيارة حول انفسها وحول الشمس ولتلك السيارات الصغيرة في فلكها الصغير مدارات وميول محدودة مضبوطة كما للكواكب السيارة سواء بسواء. وفي الذرة قانون تجاذب يعدل تلك الحركة ويحرس نظامها كقانون التجاذب الذي يعدل الحركة في المجموعة الشمسية ويحرس نظامها. وأغراه هذا التشابه الذي ألفاه بين المنظومة الذرية والمنظومة الشمسية ان يمعن في النظر فيه وأن يتقص حدوده ويضرب في أبعاده ، فأكب يفحص ويعادل ويدقق ويضبط. فوزن نواة الذرة ووزن الذرة كلها ثم وزن الشمس ووزن المجموعة الشمسية كلها ونسب النواة الى الذرة ونسب الشمس الى المجموعة فوجد أن النسبة بذاتها هي النسبة ، فكلا الشمسين يساوي وزنها (٩٩.٩) من وزن مجموعتها.

وضبط المسافة مابين الالكترونات بالنسبة الى قطر الذرة ، وضبط الأبعاد مابين الكواكب السيارة بالنسبة الى قطر المجموعة فوجد كذلك ان النسبة بعينها هي النسبة.

وعطف الى قوى التجاذب التي تنظم الكواكب في مواضعها من الفلك وفي حركاتها حول الشمس والاخرى التي تنظم الالكترونات في مداراتها من الذرة وفي سبحها حول النواة فرأى أن المعادلات الحسابية التي تتبعها قوى التجاذب هنا هي نفس المعادلات التي تتبعها هناك.

وجد الانسان كل هذه المدهشات المحيرات في الذرة ، أفتدري كم هو مقدار الذرة في الحجم ؟.

٢٠٢

إذا أخذنا مليمتراً واحداً فقسمناه عشرة ملايين جزء ، فان أحد هذه الأجزاء ـ على وجه التقريب ـ ذرة يحتوي ذلك النظام الدقيق الرتيب !!.

ونواة الذرة والبروتونات والنيوترونات التي تتقوم منها النواة والجسيمات الاخرى ( الالكترونات ) التي يتم بها تركيب الذرة ، وما في النواة من شحنة كهربائية موجبة تعادلها ما في ( الالكترونات ) من شحنة سالبة ، كل أولئك أسرار خطيرة كشفها رائد العلم وأخضعتها قدرة الانسان !! ونواة الذرة هي مخزن طاقتها الرهيبة العجيبة التي يملك الانسان أن يدمر بها العالم وأن يضمن له بها الخير !!.

أسمعت أغرب من هذا الاكتشاف وأعظم من هذا المكتشف ؟!.

هذا هو انسان القرن العشرين ومابعده من القرون الآتية ، أفلا يستحق من القرآن لفتة كريمة تميزه عمن سواه من اناسي القرون ؟.

الى هذا المخلوق العظيم يلتفت القرآن في آياته السابقة ليقول له : ان كل ماتكتشفه من سرّ ، وكل ما تستوضحه من حكمة ، وما تبينه لك الآلات من الدقائق والذرات وما يثبته لك التحليل من العناصر والقوى ، وما تبديه لك المراصد من الشموس والكواكب ، وما يجلوه لك العلم من الحقائق والآثار. كل هذا الذي علمته من أسرار الكون وما ستعلمه في الآتي القريب أو المستقبل البعيد كله بينات قاطعة الدلالة على موجد حي عظيم القدرة نافذ الإرادة ، واسع العلم دقيق الحكمة ، غني بذاته عن كل شيء مهيمن بقدرته على كل شيء ، لاتنفد حكمته ، ولا تضعف قدرته ولا ينقطع تدبيره ولا ينتهي وجوده.

هو قبل هذه الأشياء أجمع ، وهو معها أجمع ، وهو بعدها أجمع.

٢٠٣

هو قبل الأشياء لانه خلقها ، وخالق الشيء لابد وأن يكون قبله وهو مع الأشياء لانه صرّفها من حال الى حال ومن صورة الى صورة ومن زمان الى زمان ودبرها بمقتضى الحكمة في جميع الاحوال والصور والازمان ومصرف الشيء ومغيره لا بد وأن يكون معه. وهو بعد الأشياء ، لان ماليس له ابتداء لايكون له انتهاء.

وبعد أفليس من أشد الامور غرابة أن يقف الانسان العالم المفكر المتبصر دون هذه النتائج المحتومة المعلومة بعد أن يغرس بيديه بذرتها الحية ويفحص بنفسه تربتها الزكية ، ويتعهد بذاته ريها الكافي ، ويلحظ بعينيه نموها الكامل وإثمارها المبهج النافع ؟!. أليس غريباً ان يصده الهوى عن أجلى المقدمات ويشل منه التصديق دون أصدق النتائج ؟!

أليس غريباً أن ينكر هو ويقول قد أنكر العلم ، ويسفه هو ويقول قد سفه الحق ؟. متى جاز في العقول أن يوجد شيء من تلقاء ذاته ليقول انسان له شعور وله علم : إن الكون قام وحده دون موجد ودون مدبر ؟!

أم يقولون : هي الطبيعة الخالقة ؟!.

ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل حصيف ، إي وعينيك انه لقول عجيب.

أليس في هذه الكشوف العلمية الدقيقة ما يحول دون هذا الاسفاف ؟

أليس في دقة الصنع ما يدل على ان الصانع حكيم ؟.

أليس في هبة الحياة ما يدل على ان الواهب حي ؟.

أليس في إضافة ضروب الكمال ما يدل على ان المعطي كامل ؟.

فهل هذه صفات الطبيعة وهي كما يقولون صماء بكماء ؟.

٢٠٤

عجيب جداً ان يصدر هذا القول من عاقل حصيف بعد وضوح هذه الامور !.

وبعد فهل يستطيع هؤلاء القائلون بأن الطبيعة هي الخالقة ، وأن يقيموا شاهداً واحداً من هذا الكون الفسيح الرحيب استقلت فيه الطبيعة بنفسها دون تدخل علة فاعلة مختارة ؟ ان يقيموا شاهداً استقلت فيه الطبيعة فاستبدلت بنفسها قانوناً بقانون أو غيرت من تلقاء ذاتها وضعاً بوضع.

ليدلونا على شاهد واحد يشهد لها بهذا الاستقلال مهما كان صغيراً بل ومهما كان تافهاً لنتبعهم فيما يزعمون !

لا وربك ليس في مقدورهم ذلك ، ولا في استطاعة أحد من المخلوقين سواهم ، ليس في مقدورهم جميعا وإن فحصوا جسيمات كل خلية وفجّروا نُوَيَّاتِ كل ذرة ..

ليس في مقدورهم ذلك لانهم لا يملكون ان يوجدوا المعدوم أو يوجدوا الممتنع.

أليس في هذا ما يدلنا على ان الطبيعة لاتملك من نفسها ان تصنع شيئاً ، ولا تقدر ان تستقل في عمل ، وان كل ما هناك من خير ومن جمال ومن قوانين ثابتة وسنن دقيقة انما هو صنع يد مدبرة وقدرة مقدرة ؟!.

إن العلم لا ينكر أبداً لأنه لا يجهل حدوده ، ومحال عليه ان يطلب حقائق ماوراء المادة بأدوات لاتفحص الا المادة ، ومحال عليه أن ينكر حقيقة ما لأنه لم يجدها في مرصده أو مختبره.

أما العلماء فيبدو في الآونة الاخيرة أن فكرة الله بدأت تملأ عقولهم وان الايمان به أخذ يدب في قلوبهم ، واقرأ إن شئت كتاب ( العلم يدعو

٢٠٥

للايمان ) للاستاذ ( ا.كريسي موريسون ) رئيس اكاديمية العلوم بنيويورك وكتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) الذي ساهم في إخراجه ثلاثون رجلا من اكابر العلماء التجريبيين ، والكتابان ثروة علمية لاغناء عن الاطلاع عليها.

* * *

واعترافاً بالحق وتقديراً للعلم أود ان اضمن كتابي اول فصل من الكتاب القيم ( الله يتجلى في عصر العلم ) وكاتب هذا الفصل هو الاستاذ الدكتور ( فرانك اللن ) عالم الطبيعة البيولوجية ، وعنوان فصله ( نشأة العالم. هل هو مصادفة أو قصد ؟ ) قال :

( كثيراً ما يقال أن هذا الكون المادي لا يحتاج الى خالق ، ولكننا اذا سلمنا بان هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته ؟ هنالك أربعة احتمالات للاجابة على هذا السؤال : فاما ان يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال ، وهو يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده ، وأما ان يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم ، وإما أن يكون أبديا ليس لنشأته بداية ، وإما ان يكون له خالق.

أما الاحتمال الاول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والاحساس ، فهو يعني أن احساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو ان يكون وهما من الاوهام ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد الى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول اننا نعيش في عالم من الاوهام ، فمثلاً هذه القطارات التي

٢٠٦

نركبها ونلمسها ليس إلا خيالات ، وبها ركاب وهميون وتعبر انهاراً لاوجود لها وتسير فوق جسور غير مادية ... الخ ، وهو رأي وهمي لا يحتاج الى مناقشة أو جدال.

أما الرأي الثاني القائل ان هاذ العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم فهو لايقل عن سابقه سخفاً وحماقة ، ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة.

والرأي الثالث الذي يذهب الى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية انما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون وذلك في عنصر واحد هو الازلية. واذاً فنحن إما ان ننسب صفة الازلية الى عالم ميت واما ان ننسبها الى إلهٍ حي يخلق. وليس هنالك صعوبة فكرية في الاخذ بأحد هذين الاحتمالين اكثر مما في الآخر.

ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا وانها سائرة حتما الى يوم تصير فيه جميع الاجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ، ويومئذ تنعدم الطاقة ، وتستحيل الحياة ، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الاجسام الى الصفر المطلق بمضي الوقت. اما الشمس المستعمرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على ان أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة ، فهو إذن حدث من الاحداث ومعنى ذلك انه لابد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية ، عليم محيط بكل شيء ، قوي ليس لقدرته حدود ، ولابد أن يكون هذا الكون من صنع يديه.

٢٠٧

ان ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لايمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها. فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره الى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية اكثر مما لو كانت الأرض ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها الى ارتفاع كبير ( يزيد على ٥٠٠ ميل ).

ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً الينا منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية. والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات الى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطراً يحيي الأرض بعد موتها ، والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى ان الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة.

ويمتاز الماء باربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والانهار. وخاصة حينما يكون الشتاء قارساً طويلاً ، فالماء يمتص كميات كبيرة من الاوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة أربعة مئوية. والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والانهار يطفو على سطح الماء لخفته

٢٠٨

النسبية فيهيء بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة. وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الاحياء التي تعيش في البحار.

أما الأرض اليابسة فهي بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الارضية ، فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات ويمثلها ويحولها الى أنواع مختلفة من الطعام يفتقر اليها الحيوان ويوجد كثير من المعادن قريباً من سطح الأرض ، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة ونشأ كثير من الصناعات والفنون ، وعلى ذلك فان الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة. ولا شك أن كل هذا من تيسير حكيم خبير ، وليس من المعقول أن يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء ولقد كان إشعياء على حق عندما قال مشيراً الى الله : « لم يخلقها باطلاً. للسكن صورها » ( ٤٥ : ١٨ ).

وكثيراً ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لانهائي. ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر ، أو حتى لو أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها ، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت.

أما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة اضعاف ، وأصبحت جاذبيتها للاجسام ضعف ماهي عليه ، وانخفض تبعاً لذلك ارتفاع غلافها الهوائي ، وزاد الضغط الجوي من كيلو جرام واحد الى كيلو جرامين على السنتيمتر المربع ، ويؤثر كل ذلك أبلغ الاثر في الحياة على سطح الأرض ، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعاً كبيراً ، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصاً ذريعاً ، وبذلك تعيش الجماعات

٢٠٩

الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية ، فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر والاتصال بل قد يصير ضرباً من ضروب الخيال.

ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للاجسام التي عليها ١٥٠ ضعفاً ، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي الى اربعة أميال ، ولأصبح تبخر الماء مستحيلاً ولا ارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على ١٥٠ كيلو جراماً على السنتيمتر المربع ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلاً واحداً الى ١٥٠رطلا ، ولتضاءل حجم الانسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب ، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.

ولو أزيحت الأرض الى ضعف بعدها الحالي عن الشمس ، لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس الى ربع كميتها الحالية ، وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت أطول ، وتضاعفت تبعاً لذلك طول فصل الشتاء وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض. ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس الى نصف ماهي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض اربعة امثال ، وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس ولآلت الفصول الى نصف طولها الحالي اذا كان هنالك فصول بالمرة ، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.

وعلى ذلك فان الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها تهييء للانسان اسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.

فاذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق فلابد أن تكون قد

٢١٠

نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة ؟.

إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب الى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم ... ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيراً حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول إنها تحدث بالمصادفة والتي لانستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة اخرى ( مثل قذف الزهر في لعبة النرد ). وقد صرنا بفضل هذه الدراسات قادرين على التمييز بين مايمكن أن يحدث بطريق المصادفة وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة ، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان. ولننظر الآن الى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة :

إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي : الكربون ، والايدروجين ، والنيتروجين والاوكسجين ، والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الجزيء ، البروتيني الواحد ٤٠٠٠٠ ذرة ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة ٩٢ عنصراً موزعة كلها توزيعاً عشوائياً ، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكوّن جزيئاً من جزئيات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطاً مستمراً لكي تؤلف هذا الجزيء ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.

٢١١

( وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعاً فوجد أن الفرصة لاتتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة ١ الى ١٠ × ١٦٠ ، أي بنسبة ١ الى رقم عشرة مضروباً في نفسه ١٦٠ مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد اكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لاتحصى من السنوات قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها ٢٤٣ مرة من السنين ( ١٠ × ٢٤٣ سنة ).

ان البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الاحماض الأمينية. فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات ؟ انها اذا تآلفت بطريقة اخرى غير التي تتآلف بها ، تصير غير صالحة للحياة ، بل تصير في بعض الاحيان سموما.

وقد حسب العالم الانجليزي ج. ب. ليثز الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ الملايين ١٠ × ٤٠.

وعلى ذلك فانه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئاً بروتينياً واحداً.

ولكن البروتينات ليس الا مواد كيموية عديمة الحياة ، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لاندري من كنهه شيئاً. انه العقل اللانهائي ، وهو الله وحده الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقراً للحياة فبناه وصوره

٢١٢

واغدق عليه سرّ الحياة ).

هكذا يبلغ العقل الحصيف غايته العظيمة إذا عرف السبيل ، ولم يقف به الخور ولم تنحرف به الاهواء. وهكذا يستبين صدق قول الله في كتابه :

( وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١).

__________________

١ ـ النمل : ٩٣.

٢١٣
٢١٤



في ظِلال العقيدة

طبيعي أن يكون العقل أول ناحية من الانسان تنصرف اليها عناية الدين وأحقها بالمزيد من تهذيبه ، فالعقل أسمى موهبة يختص بها الانسان وأولى ميزة يرتفع بسببها عما حوله من الكائنات.

والعقل هو المصدر الاول لأفكار الانسان والملتقى الاعظم لتصوراته ، الحق منها والباطل ، المنتج منها والعقيم ، الرفيع منها والضيع.

وللعقل اشراف تام أو ناقص على صفات المرء التي يكتسبها بالتخلق ، وعلى مراميه التي يندفع نحوها بالرغبة ، وعلى أعماله التي يصدرها بالاختيار.

والعقل من وجهة خاصة هو المجال الاول للدين ، فقد علمنا ان الدين هو منهاج الانسان الى كماله الأعلى الذي يبلغه بالاختيار ، والتفسير الواضح لذلك : ان الدين هو النهج القويم لتزكية العقل في ذاته وتوجيهه الى الرشد في سلوكه.

وهذا مانهج اليه كل دين فيما نعلم ، فان العقيدة من كل دين هي الاساس

٢١٥

المتين الذي يقوم عليه هيكله ، أو الدعامة المكينة التي تشد بناءه. ومن أجل ذلك وجب أن تكون العقيدة جلية لا اثر فيها للغموض. وثابتة لامجال فيها للتزلزل ، ويقينية لاظل فيها للريب.لأن العقيدة وظيفة عقلية في مرحلتها الأولى والعقل صريح في أحكامه لا يقبل من الوظائف مافيه غموض أو وهن أو اضطراب.

ولقد صدمت المسيحية كبرياء العقل حين دفعت اليه حزمة من العقائد لم يفقه للكثير منها مفهوماً ، ولم يجد للبقية منها برهاناً ، بل وادرك ان الكثير منها متناقض الفكرة منحل القواعد. حين دفعت اليه هذه الحزمة من العقائد ، ولم تجعل له حقاً في نقدها ، ولا خياراً في قبولها.

وانكمش العقل لهذه الصدمة ولم يدر ماذا يقول ، وما يقول وقد ابعد عن الحكم وحجر عليه القول ومنعت منه الخيرة ؟!

ولكنه بقي يتسائل : إذا كان الأمر خارجاً عن يده فلماذا يطلبون منه الاقرار ؟!.

وقال رجال المسيحيه ـ يلطفون الجو ويعللون الأمر ـ : اسرار الدين لايسمو اليها العقل ، ومن الخير له ان يؤمن وإن لم يفقه ، فان الدين لايدعوه إلا الى خير. وقال اتباع الكنيسة : الايمان مركزه الوجدان.

وقال بعض الفلاسفة المحافظين : سبيل الانسان الى المعرفة اليقينية هو الحس والتجربة ، وهما لا يستطيعان ان يدركا حقيقة الله ولا اسرار الدين. فموضعهما القلب وليس موضعهما العقل.

وانكمش العقل لأنه رأى الناس يتخادعون على حسابه. وبقي يتساءل مرة اخرى : اذا كان الدين لامكان له في العقل فبم يميز هؤلاء الخطاء في

٢١٦

الاديان من الصواب ؟!

إن العقيدة وظيقة عقلية في مرحلتها الاولى فيجب ان تكون جلية لا اثر فيها للغموض ، وثابتة لامجال فيها للتزلزل ويقينية لاظل فيها للريب. لأن العقل لا يقبل من الوظائف مافيه غموض أو وهن أو اضطراب.

ومن اجل ذلك تنوع الإسلام في البرهنة على اصوله واستحث الانسان على التأمل فيها وشجعه على نقد حججها كي يوقن عن بصيرة ثم يعتقد عن يقين :

الدين سبيل التكامل الاختياري في نفس المرء وفي عقله ، ومحال أن يبلغ بالمرء هذا المدى مالم يكن على صلة وثيقة بنفس المرء وعقله ، ومحال ان يبلغ بالمرء هذا المدى مالم تخضع نفس المرء وعقله لأوامر الدين وارشاداته ، ومالم يكن هذا الخضوع منهما عن طواعية واختيار ، محال ان يصل الدين بالانسان الى تلك الغاية مالم يبلغ من نفس الانسان ومن عقله هذا المبلغ.

وكيف يخضع هذان لأوامر الدين وهدايته إذا لم يكن الانقياد لمشرعه والاطاعة لمبلّغه عقيدة راسخة يتفهمها العقل وتمتليء بها النفس ؟.

هذه السبيل الطبيعية للدين متى أراد أن يسلك سلوكا جدياً الى الغاية.

على أن الدين في حقيقة المفهومة وفي وضعه اللازم. بل وفي مجاله اللغوي ايضاً رباط عبودية خاضعة يشد الانسان الى إله قادر قاهر ، ورسوم ترتكز على معاني تلك العبودية وهذه الربوبية يشرعها الرب ويمتثلها العبد وقد مرّ شرح هذا مفصلا فليراجعه القاريء اذا شاء.

وإذن فالعقيدة هي الركيزة الاولى للدين ، وحجر الزاوية من بنائه.

على أن للاسلام من وراء العقيدة مرامي بعيدة الهدف بالغة الأهمية

٢١٧

عظيمة الجدوى.

فالعقيدة في الإسلام مفتاح لتثقيف المرء وإذكاء مواهبه وتفتيق مافي ذهنه من طاقة وارضاء مافي نفسه من طموح ، وللدفع به الى الثقافة العالية والسمو به الى المدنية الصحيحة.

يروم الإسلام من وراء العقيدة أن يدفع المرء ليكتشف ويوجهه ليبتكر ويستحدثه ليتقدم ويرتفع.

يريد أن يقيم العقيدة على كشوف العلم حتى لايزيدها اطراد العلم إلا وضوحاً ، وأن يربط العلم بالعقيدة حتى لا يفيده رسوخ العقيدة إلا قداسة. يريد أن يتبنى العلم من حيث أنه سند له في تمكين العقيده فلا يقولن متنطع إن الدين يناكر العلم ، ثم يبارك العلم حيث أنه وزر له على نيل الغاية فلا يفوهن متشدق ان العلم يصارم الدين.

الدين سبيل التكامل الاختياري في نفس المرء وعقله ، ولن يتم هذا التكامل إلا بالعلم ولن يتم إلا بالتهذيب.

من ثم كانت العقيدة في دين الإسلام مفتاحا للنظر في علوم الكون .. في علوم الكون كافة دون استثناء ودون اختلاف. فدلالة الخليقة على الخالق ، ودلالة الابداع على حكمة المبدع ودلالة وحدة الأشياء في التصميم على وحدة المصمم ، هذه الشهادات يجدها العالم في فطرة الخلية البسيطة كما يجدها في خلقة الانسان المعقدة ، ويراها في تكوين الذرة الصغيرة كما يراها في تنظيم المجرة الكبيرة.

ففي هذا الدين يجب النظر في شؤون الفلك وفي أسرار الطبيعة وفي قوانين الحياة وفي فلسفة التكوين وفي دقائق التركيب وفي خواص الأشياء وانظمة

٢١٨

الاحياء ، وفي خصائص كل نوع وفي مميزات كل نصف وفي حكمة كل جزء وفي غاية كل موجود.

كل أولاء يجب النظر فيه لتثبيت العقيدة في دين الإسلام ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة في القرآن ، وقد اطلع القاريء على عدد منها في الفصول السابقة.

العقيدة في صورتها معرفة ولابد للمعرفة من الدليل.

وهي بعد استكمالها ايمان ولابد في الايمان الرسوخ.

وهي عند إثمارها عمل ولابد في العمل من الاخلاص.

وهذا هو هيكل العقيدة التي يبتغيها الإسلام من كل مسلم.

يريد منه أن يعرف حتى لا يساوره في معرفته ريب ، وأن يؤمن حتى لا تعروه في إيمانه ذبذبة ، وأنه يخلص حتى لايخامره في أعماله ولا في صفاته فسوق ولا رياء.

يريد منه أن يكون صورة ماثلة شاخصة للقوة والثبات والصدق في عرفانه وفي إيمانه ثم في سلوكه وأعماله وصفاته وسماته

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (١).

هذا التجنيد الكامل للعواطف والمشاعر والغرائز والأخلاق والسرّ والعلانية للايمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ، هذا هو الايمان الصادق الذي يبتغيه الإسلام من أتباعه.

__________________

١ ـ الحجرات ، الآية ١٥.

٢١٩

وأية شيمة من شيم الخير يفقدها المسلم وأية خلة من خلال السوء يداينها إذا خضع لهذه القيادة واتبع هذا الهدى ، واذا كان لا يعمل إلا عن عقيدة ولا يعتقد إلا عن برهان ؟.

أما خلاصة العقيدة في دين الإسلام فهي :

(١) توحيد الله في الالوهية والربوبية توحيداً نقياً صافياً لا شائبة فيه لشرك ولا ظل فيه لتركيب ، ولا أثر الحلول أو اتحاد ، عميقاً عميقاً تمتد جذوره الى ارادة المسلم فلا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به ، والى خلجات نفسه فلا يخشى احدا إلا الله ولا يضرع لكائن سواه ، والى آمال قلبه فلا يرجو غير الله ولا يرغب إلا اليه.

أما توحيد الله في الصفات فهو شوط كبير يختص به المذهب الاثنا عشري في مضمار التوحيد ، وبالاحرى هو تفسير دقيق للتوحيد الخالص الذي يجب أن يعتقده المسلم.

ومرد هذه الفكرة الى أمرين :

أ) أن الله وحده مطلق الكمال في كل نعت يعد ظهوراً للكمال.

ب‌) وأنه سبحانه غني بذاته عن أي علة أو صفة هي غير ذاته.

فالله سبحانه حي بنفسه لا بعلة أو صفة غير ذاته تؤتيه الحياة ، والله قادر بنفسه لا لعلة أو صفة تكسبه القدرة ، وهو عالم بنفسه لامن اجل علة أو صفة تفيده العلم ، وهو سميع وبصير بنفسه لا بآلة أو علة أو صفة توليه السمع.

ثم هو كامل وغني بنفسه لا بسبب علة أو صفة غير ذاته تمنحه الكمال والغنى.

٢٢٠