الإمام الصادق عليه السلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

يسرا ، اصبر نفسك عند كلّ بليّة ، وفي ولد أو مال أو ذريّة ، فإنما يقبض عاريته ، ويأخذ هبته ، ليبلو فيهما شكرك وصبرك ، وارج الله رجاء لا يجرّئك على معصيته ، وخفه خوفا لا يؤيسك من رحمته ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحة فتكبر وتجبر وتغترّ بعملك ، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع ، ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك ما (١) خلفته وراء ظهرك ، واقنع بما قسمه الله لك ، ولا تنظر إلاّ ما عندك ، ولا تتمنّ ما لست تناله ، فإن من قنع شبع ، ومن لم يقنع لم يشبع ، وخذ حظّك من آخرتك ، ولا تكن بطرا في الغنى ، ولا جزعا في الفقر ، ولا تكن فظّا غليظا يكره الناس قربك ، ولا تكن واهنا يحقرك من عرفك ، ولا تشارّ (٢) من فوقك ، ولا تسخر بمن هو دونك ، ولا تنازع الأمر أهله ، ولا تطع السفهاء ، وقف عند كلّ أمر حتّى تعرف مدخله ومخرجه قبل أن تقع فيه فتندم ، واجعل نفسك عدوّا تجاهده ، وإن كانت لك يد عند إنسان فلا تفسدها بكثرة المنّ والذكر لها ، ولكن اتبعها بأفضل منها ، فإن ذلك أجمل في أخلاقك وأوجب للثواب في آخرتك ، وعليك بالصمت نعدّ حليما ، جاهلا كنت أو عالما ، فإن الصمت زين عند العلماء وسترة لك عند الجهّال.

ومن هذه الوصية حكايته لكلام عيسى عليه‌السلام لأصحابه وهو قوله :

وإيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة ، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ، ولم يجعل بصره في عينه ، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد ، إنما الناس مبتلى ومعافى ، فارحموا المبتلى ، واحمدوا الله على العافية.

__________________

(١) ما موصولة عطف بيان لقوله ـ مال غيرك ـ أي أن الذي تخلفه وراء ظهرك هو مال غيرك فلا تهتمّ لاصلاحه ، وتضييع مالك الذي ينبغي أن تنفقه في وجوه الخير.

(٢) بتضعيف الراء ـ تخاصم.

٤١

ثمّ قال عليه‌السلام : يا ابن جندب ، صل من قطعك ، واعط من حرمك ، وأحسن الى من أساء إليك ، وسلّم على من سبّك ، وانصف من خاصمك ، واعف عمّن ظلمك كما أنك تحبّ أن يعفي عنك ، فاعتبر بعفو الله عنك ، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار ، وأن قطره ينزل على الصالحين والخاطئين.

يا ابن جندب ، الاسلام عريان فلباسه الحياء ، وزينته الوقار ، ومروّته العمل الصالح ، وعماده الورع ، ولكلّ شيء أساس وأساس الاسلام حبّنا أهل البيت (١).

أقول : ما أجمع هذه الوصيّة لجلائل الحكم ونفائس المواعظ ، ولا تمرّ عليك وصيّة ولا عظة إلاّ وحسبت عندها منتهى البلاغة وأقصى التذكير والتنبيه ، وتقول : هل وراءها من قول ، وإن أمثال هذه الوصايا جديرة بالتعليق والشرح إلاّ انّ ذلك أبعد عن الغاية ، فنوكل التدبّر بها الى القارئ الكريم.

وصيّته لعبد الله النجاشي في كتابه (٢) :

قال عبد الله بن سليمان النوفلي : كنت عند جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، فاذا بمولى لعبد الله النجاشي ورد عليه فسلّم وأوصل إليه كتابا ففضّه وقرأه ، فاذا أوّل سطر فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم ، أطال الله بقاء سيّدي وجعلني من كلّ سوء فداه ، إني بليت بولاية الأهواز فإن رأى سيّدي أن يحدّ لي حدّا أو يمثل لي مثلا لأستدلّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٧٩ / ١.

(٢) في نفس الكتاب : ١ / ٢٦٠.

٤٢

به على ما يقرّبني الى الله جلّ وعزّ والى رسوله ، ويلخّص في كتابه ما يرى لي العمل به وفيما يبذله وأبتذله ، وأين أضع زكاتي ، وفيمن أصرفها ، وبمن آنس ، والى من أستريح ، ومن أثق وآمن وألجأ إليه في سرّي ، فعسى أن يخلّصني الله بهدايتك ودلالتك ، فإنك حجّة الله على خلقه ، وأمينه في بلاده لا زالت نعمته عليك.

قال عبد الله بن سليمان : فأجابه أبو عبد الله عليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم ، جاملك الله بصنعه ، ولطف بك بمنّه ، وكلأك برعايته ، فإنه وليّ ذلك ، أمّا بعد فقد جاء إليّ رسولك بكتابك فقرأته وفهمت جميع ما ذكرته وسألت عنه وزعمت أنك بليت بولاية الأهواز فسرّني ذلك وساءني ، فأمّا سروري بولايتك فقلت : عسى أن يغيث الله بك ملهوفا من أولياء آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعزّبك ، وساءني من ذلك فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليّ لنا فلا تشمّ حظيرة القدس.

فإني ملخّص لك جميع ما سألت عنه إن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله تعالى ، أخبرني أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبّه ، واعلم أني سأشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلّصت ممّا أنت متخوّفه ، واعلم أن خلاصك ونجاتك من حقن الدماء وكفّ الأذى من أولياء الله والرفق بالرعيّة والتأني وحسن المعاشرة ، مع لين في غير ضعف ، وشدّة في غير عنف ، ومداراة صاحبك ومن يرد عليك من رسله ، وارتق فتق رعيّتك بأن توافقهم على ما وافق الحقّ والعدل إن شاء الله.

إيّاك والسعاة وأهل النمائم فلا يلتزقن منهم بك أحد ، ولا يراك الله يوما وليلة وأنت تقبل منهم صرفا ولا عدلا فيسخط الله عليك ويهتك سترك.

٤٣

فأمّا من تأنس به وتستريح إليه وتلج امورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك ، وميّز عوامك وجرّب الفريقين فإن رأيت هنالك رشدا فشأنك وإيّاه.

وإيّاك أن تعطي درهما أو تخلع ثوبا أو تحمل على دابّة في غير ذات الله لشاعر أو مضحك أو ممتزح إلاّ أعطيت مثله في ذات الله.

ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقوّاد والرسل والأحفاد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس ، وما أردت أن تصرفه في وجوه البرّ والنجاح والفتوّة والصدقة والحجّ والمشرب والكسوة التي تصلّي فيها وتصل بها والهديّة التي تهديها الى الله عزّ وجلّ والى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أطيب كسبك.

يا عبد الله ، اجهد ألاّ تكنز ذهبا ولا فضّة فتكون من أهل هذه الآية التي قال الله عزّ وجلّ : « الذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله » (١).

ولا تستصغرن من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية ليسكن بها غضب الله تبارك وتعالى ، واعلم أني سمعت من أبي يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوما : ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع ، فقلنا : اهلكنا يا رسول الله ، فقال : من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفون بها غضب الرب.

فخرج أمير المؤمنين من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحد حتّى لقي الله محمودا غير ملوم ولا مذموم ، ثمّ اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم ، لم يتلطّخوا

__________________

(١) التوبة : ٣٤.

٤٤

بشيء من بوائقها صلوات الله عليهم أجمعين وأحسن مثواهم.

وقد وجّهت إليك بمكارم الدنيا والآخرة ، فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت الله أن يتحامى عنك جلّ وعزّ بقدرته.

يا عبد الله إيّاك أن تخيف مؤمنا فإن أبي محمّد حدّثني عن أبيه عن جدّه علي بن أبي طالب عليهم‌السلام أنه كان يقول : من نظر الى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ، وحشره في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتّى يورده مورده.

وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من أغاث لهفانا من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ، وآمنه الله يوم الفزع الاكبر ، وآمنه عن سوء المنقلب ، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة إحداها الجنّة ، ومن كسا أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنّة واستبرقها وحريرها ، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منها سلك ، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيّبات الجنّة ، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلّدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين ، ومن حمل أخاه المؤمن من رحله حمله الله على ناقة من نوق الجنّة وباهى به الملائكة المقرّبين يوم القيامة ، ومن زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح إليها زوّجه الله من الحور العين ، وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته واخوانه وآنسهم به.

ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام ، ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجة منه إليه كتب من زوّار الله ، وكان حقيقا على الله أن يكرم زائره.

٤٥

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه‌السلام أنه سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأصحابه يوما ، معاشر الناس إنه ليس بمؤمن من لعن بلسانه ولم يؤمن بقلبه (١) فلا تتبعوا عثرات المؤمنين ، فإنه من اتبع عثرة مؤمن اتبع الله عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته.

وحدّثني أبي عن علي عليه‌السلام قال : أخذ الله في ميثاق المؤمن ألاّ يصدّق (٢) في مقالته ، ولا ينتصف من عدوّه ، ولا يشفي غيظه إلاّ بفضيحة نفسه ، لأن كلّ مؤمن ملجم ، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة.

أخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها مؤمن مثله يقول بمقالته يتعبه ويحسده ، والشيطان يغويه ويعينه ، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته ، وكافر بالذي هو مؤمن به يرى سفك دمه دينا ، وإباحه حريمه غنما ، فما بقاء المؤمن بعد هذا.

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول : اشتققت للمؤمن اسما من أسمائي سمّيته مؤمنا فالمؤمن منّي وأنا منه ، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عليهم‌السلام عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال يوما : يا علي لا تناظر رجلا حتّى تنظر في سريرته ، فإن كانت سريرته حسنة فانّ الله عزّ وجلّ لم يكن ليخذل وليّه ، وإن كانت سريرته رديّة فقد يكفيه مساويه ، فلو جهدت أن تعمل به اكثر ممّا عمله من معاصي الله عزّ وجلّ ما قدرت عليه.

__________________

(١) يريد أنه من يذكر الناس بسوء بغير ما يعتقده فيهم.

(٢) بالبناء للمفعول.

٤٦

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها ، اولئك لا خلاق لهم.

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه‌السلام أنه قال : من قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت اذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ).

يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه‌السلام أنه قال : من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروّته وثلبه أو بقه الله بخطيئته حتّى يأتي بمخرج ممّا قال ، ولن يأتي بالمخرج منه أبدا ، ومن أدخل على أخيه المؤمن سرورا فقد أدخل على أهل البيت عليهم‌السلام سرورا ، ومن أدخل على أهل البيت سرورا فقد أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرورا ، ومن أدخل على رسول الله سرورا فقد سرّ الله ، فحقيق عليه أن يدخله الجنّة حينئذ.

ثمّ إنّي اوصيك بتقوى الله وإيثار طاعته والاعتصام بحبله ، فإنه من اعتصم بحبل الله فقد هدي الى صراط مستقيم ، فاتق الله ولا تؤثر أحدا على رضاه وهواه ، فإنّه وصيّة الله عزّ وجلّ الى خلقه ، لا يقبل منهم غيرها ولا يعظّم سواها ، واعلم أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى فإنّه وصيّتنا أهل البيت ، فإن استطعت ألاّ تنال شيئا من الدنيا تسأل عنه غدا فافعل.

قال عبد الله بن سليمان : فلمّا وصل كتاب الصادق عليه‌السلام الى النجاشي نظر فيه فقال : صدق والله الذي لا إله إلاّ هو مولاي ، فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إلاّ نجا فلم يزل عبد الله يعمل به في أيام حياته (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٧١ / ١١٢.

٤٧

فكّر أيها القارئ الكريم في هذه النصائح القدسيّة ، وأعد النظر في فقراتها ، وانظر ما ذا سيبلغه البشر من نهاية السعادة لو وضع الامراء وأرباب الدولة هذا الكتاب نصب أعينهم ، ودرج عليه الناس في معاملاتهم بعضهم مع بعض ، ولكن البشر لا يزال في سكرته لا يستيقظ لسماع مثل هذه المواعظ.

ومن وصاياه لشيعته :

قال زيد الشحّام : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اقرأ من ترى أنه يطيعني منكم ويأخذ بقولي السلام ، واوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم عليها برّا أو فاجرا ، فإن رسول الله كان يأمر بأداء الخيط والمخيط ، صلوا عشائركم ، واشهدوا جنائزهم ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل : هذا جعفري ، ويسرّني ذلك ، ويدخل عليّ منه السرور ، وقيل : هذا أدب جعفر ، وإذا كان غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : هذا أدب جعفر ، فو الله لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي عليه‌السلام فيكون زينها ، أدّاهم للأمانة ، وأقضاهم للحقوق ، وأصدقهم للحديث ، إليه وصاياهم وودائعهم ، تسأل العشيرة عنه ، ويقولون :

من مثل فلان؟ إنّه أدّانا للأمانة ، وأصدقنا للحديث (١).

__________________

(١) الكافي ، كتاب العسرة ، باب ما يجب من العشرة : ٢ / ٦٣٦ / ٥.

٤٨

وصيّته لمؤمن الطاق (١) :

نقتطف من وصيّته لمؤمن الطاق زهرا غضّة ، قال عليه‌السلام : يا ابن النعمان إيّاك والمراء فإنه يحبط عملك ، وإيّاك والجدال فإنه يوبقك ، وإيّاك وكثرة الخصومات فإنها تبعد من الله ، إن من كان قبلكم يتعلّمون الصمت وأنتم تتعلّمون الكلام ، كان أحدهم اذا أراد التعبّد يتعلّم الصمت قبل ذلك بعشر سنين ، فإن كان يحسنه ويصير عليه تعبّد ، وإلاّ قال : ما أنا لما أروم بأهل ، إنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء ، وصبر في دولة الباطل على الأذى ، اولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقا وهم المؤمنون ، والله لو قدّم أحدكم ملء الأرض ذهبا على الله ثمّ حسد مؤمنا لكان ذلك الذهب ممّا يكوى به في النار.

يا ابن النعمان من سئل عن علم فقال : لا ادري فقد ناصف العلم ، والمؤمن يحسد في مجلسه فإذا قام ذهب عنه الحقد.

يا ابن النعمان إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشارنّه (٢) ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك ، فإن الصديق قد يكون عدوّك يوما.

يا ابن النعمان ليست البلاغة بحدّة اللسان ، ولا بكثرة الهذيان ، ولكنها أصابة المعنى وقصد الحجّة (٣).

وصيّته لحمران بن أعين (٤) :

قال عليه‌السلام : يا حمران انظر الى من هو دونك ، ولا تنظر إلى من هو

__________________

(١) محمد بن النعمان الصيرفي الكوفي ، وسنذكره في المشاهير ، وقد كتبت فيه رسالة مستقلّة.

(٢) تخاصمنه.

(٣) البحار : ٧٨ / ٢٩٢.

(٤) سنذكره في المشاهير من رواته.

٤٩

فوقك في المقدرة فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك ، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك ، واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين ، واعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم الله والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم ، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق ، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي ، ولا جهل أضرّ من العجب (١).

وصيّته للمفضّل بن عمر (٢) :

قال عليه‌السلام للمفضّل بن عمر : اوصيك ونفسي بتقوى الله وطاعته ، فإن من التقوى الطاعة والورع والتواضع لله والطمأنينة والاجتهاد والأخذ بأمره والنصيحة لرسله ، والمسارعة في مرضاته ، واجتناب ما نهى عنه ، فإن من يتّق الله فقد أحرز نفسه من النار بإذن الله وأصاب الخير كلّه في الدنيا والآخرة ومن أمر بتقوى الله فقد أفلح الموعظة جعلنا الله من المتّقين برحمته (٣).

وصيّته لجميل بن درّاج (٤) :

قال عليه‌السلام لجميل بن درّاج : خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم ، ومن صالح الأعمال البرّ بالاخوان والسعي في حوائجهم ، وذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران ، ودخول في الجنان ، يا جميل اخبر بهذا الحديث

__________________

(١) روضة الكافي ، ٨ / ٢٠٤ / ٢٣٨.

(٢) سيأتي ذكره في المشاهير أيضا ، وهو صاحب التوحيد الذي تقدم ذكره في الجزء الأول ص ١٤٩.

(٣) بصائر الدرجات : ٥٢٦ / ١.

(٤) سنذكره في المشاهير إن شاء الله تعالى.

٥٠

غرر أصحابك قال : فقلت له : جعلت فداك ومن غرر أصحابي؟ قال عليه‌السلام : هم البارّون بالاخوان في العسر واليسر.

قال : يا جميل أما أن صاحب الجميل يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله عزّ وجلّ صاحب القليل فقال : « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون » (١).

وصيّته للمعلّى بن خنيس :

قال للمعلّى بن خنيس وقد أراد سفرا : يا معلّى أعزز بالله يعززك ، قال : بما ذا يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال عليه‌السلام : يا معلّى خف الله تعالى يخف منك كلّ شيء ، يا معلّى تحبّب الى اخوانك بصلتهم ، فإن الله تعالى جعل العطاء محبّة ، والمنع مبغضة ، فأنتم والله إن تسألوني وأعطيكم أحبّ إليّ من ألاّ تسألوني فلا أعطيكم فتبغضوني ، ومهما أجرى الله عزّ وجل لكم من شيء على يدي فالمحمود هو الله تعالى ولا تبعدون من شكر ما أجرى الله لكم على يدي (٢).

وصيّته لسفيان الثوري (٣) :

قال سفيان : لقيت الصادق ابن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، فقلت : يا ابن رسول الله أوصني ، فقال لي : يا سفيان لا مروّة لكذوب ، ولا أخ

__________________

(١) خصال الصدوق رحمه‌الله ، باب الثلاثة ، والآية ٩ من سورة الحشر.

(٢) مجالس الشيخ الطوسي ، المجلس / ١١.

(٣) مرّ ذكره في مناظراته في الجزء الأول وفي زهده وسيأتي في الأعلام الذين رووا عنه عليه‌السلام من السنّة.

٥١

لملول ، ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق.

فقلت : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زدني ، فقال لي : يا سفيان ثق بالله تكن مؤمنا ، وارض بما قسم الله لك تكن غنيّا ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما ، ولا تصحب الفاجر يعلّمك من فجوره ، وشاور في أمرك الذين يخشون الله عزّ وجل.

فقلت : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زدني ، فقال لي : يا سفيان من أراد عزّا بلا عشيرة ، وغنى بلا مال : وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته (١).

وقال للصادق مرّة : لا أقوم حتّى تحدّثني ، قال له : أنا أحدّثك وما كثرة الحديث لك بخير ، يا سفيان اذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فاكثر من الحمد والشكر عليها ، فإن الله عزّ وجلّ قال في كتابه : « لئن شكرتم لأزيدنكم » (٢) واذا استبطأت الرزق فاكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه : « استغفروا ربّكم إنه كان غفّارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنّات ويجعل لكم أنهارا » (٣).

يا سفيان اذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره فاكثر من : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنّة ، فعقد سفيان بيده وقال : ثلاث وأيّ ثلاث (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٩٢ / ٦.

(٢) إبراهيم : ٧.

(٣) البقرة : ١٧١.

(٤) حلية الأولياء لأبي نعيم : ٣ / ١٩٣.

٥٢

وصيّته لعنوان البصري (١) :

كان عنوان البصري يختلف الى مالك بن أنس فأحبّ أن يأخذ عن الصادق عليه‌السلام فلمّا ورد عليه قال له الصادق عليه‌السلام : إني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار فلا تشغلني عن وردي وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه ، يقول : فاغتممت ، فدخلت مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد الى الروضة وصلّيت فيها ركعتين وقلت : أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به الى صراطك المستقيم ، ولمّا عيل صبري وضاق صدري قصدت جعفرا فلمّا حضرت بابه استأذنت عليه فخرج خادم له فقال : حاجتك؟ فقلت : السلام على الشريف ، فقال : هو قائم في مصلاّه ، فجلست بحذاء بابه ، فما لبثت إلاّ يسيرا إذ خرج خادم فقال : ادخل على بركة الله ، فدخلت وسلّمت عليه فردّ السلام وقال : اجلس غفر الله لك ، فجلست فأطرق مليّا ثمّ رفع رأسه وقال : أبو من؟ قلت : أبو عبد الله ، قال ثبّت الله كنيتك ووفّقك يا أبا عبد الله ، ما مسألتك؟ فقلت في نفسي لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيرا ، ثمّ رفع رأسه وقال : ما مسألتك؟ فقلت :

سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك ، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته ، فقال : يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك ، قلت :

__________________

(١) ليس له ذكر في كتب رجالنا.

٥٣

يا شريف فقال : قل يا أبا عبد الله ، قلت : يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟ قال :

ثلاثة أشياء ، ألاّ يرى العبد لنفسه فما خوّله الله ملكا ، لأن العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ولا يدبر العبد تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكا هان عليه الانفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما الى المراء والمباهاة مع الناس ، فإذا اكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا وابليس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند الناس عزّا وعلوّا ، ولا يدع أيامه باطلا ، فهذا أول درجة التقى ، قال الله تبارك وتعالى : « تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ». (١)

قلت : يا أبا عبد الله أوصني ، قال : اوصيك بتسعة أشياء ، فإنها وصيّتي لمريدي الطريق الى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك لاستعمالها ، ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم ، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها ، قال عنوان : ففرّغت قلبي له ، فقال : أمّا اللواتي في الرياضة فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه ، فإنه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل إلاّ عند الجوع ، واذا اكلت فكل حلالا وسمّ الله واذكر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه » ، فاذا كان ولا بدّ فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ، وأمّا اللواتي في الحلم ، فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشرا ، فقل له : إن قلت عشرا لم تسمع واحدة ، ومن شتمك فقل له : إن كنت

__________________

(١) القصص : ٨٣.

٥٤

صادقا فيما تقول فاسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذبا فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك ، ومن وعدك بالخناء فعده بالنصيحة والرعاء ، وأمّا اللواتي في العلم ، فاسأل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا. قم عنّي يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي فإني امرؤ ضنين بنفسي ، والسلام على من اتبع الهدى » (١).

من ثمين وصاياه :

ما اكثر الغالي من نصائحه والثمين من وصاياه ، فإنه لم يترك نهجا للنصح إلاّ سلكه ، ولا بابا للارشاد إلاّ ولجه ، فتارة يحثّنا على التقوى والورع والاجتهاد وطول السجود والركوع ، ويقول : كونوا دعاة الى انفسكم بغير ألسنتكم ، وكونوا زينا ولا تكونوا شينا (٢).

واخرى يريد منّا أن نرتقي فوق تلك الرتب فنكون من أرباب الشكر والدعاء والتوكّل فيقول : من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا ، من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ، ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ، ومن اعطى التوكّل اعطي الكفاية ، ثمّ قال : أتلوت كتاب الله عزّ وجلّ : « ومن يتوكّل على الله فهو حسبه » (٣) وقال : « ولئن شكرتم لأزيدنكم » (٤) وقال : « ادعوني أستجب لكم ». (٥)

__________________

(١) بحار الأنوار : ١ / ٢٢٤ / ١٧.

(٢) الكافي ، باب الورع.

(٣) الطلاق : ٣.

(٤) إبراهيم : ٧.

(٥) المؤمن : ٦٠.

٥٥

ويرشدنا الى الأرفع من هذا منزلة فيقول : اذا أراد أحدكم ألاّ يسأل الله شيئا إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ، ولا يكون له رجاء إلاّ عند الله ، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلاّ أعطاه (١).

وطورا يرغّبنا في الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة فيشير الى التواضع ويصف لنا بعض مواضعه فيقول : من التواضع أن ترضى من المجلس دون المجلس ، وأن تسلّم على من تلقى ، وأن تترك المراء (٢) وإن كنت محقا ، ولا تحبّ أن تحمد على التقوى (٣).

ويذكر عدّة خصال يزدان بها المرء ويسمو بها مرتقى عليّا فيقول لأصحابه :

اسمعوا منّي كلاما هو خير من الدهم الموقّفة (٤) لا يتكلّم أحدكم بما لا يعنيه ، وليدع كثيرا من الكلام فيما يعنيه ، حتّى يجد له موضعا ، فربّ متكلّم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه ، ولا يمارينّ أحدكم سفيها ولا حليما ، فإن من مارى حليما أقصاه ، ومن مارى سفيها أرداه ، واذكروا أخاكم اذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون أن تذكروا به اذا غبتم ، واعملوا عمل من يعلم أنه مجازى بالإحسان (٥).

ويصف لنا حسن الخلق بما يدفعنا على المسارعة بالتخلّق به فيقول : اذا خالطت الناس فإن استطعت ألاّ تخالط أحدا منهم إلاّ كانت يدك العليا عليه

__________________

(١) الكافي ، باب الاستغناء عن الناس.

(٢) الجدال.

(٣) الكافي ، باب التواضع.

(٤) الدهم : الخيل الشديدة السواد ، والموقّفة ـ بتضعيف القاف جمع موقف كعظم ـ من الخيل الأبرش أعلى الاذنين ، كأنهما منقوشان بالبياض.

(٥) مجالس الشيخ الطوسي ، المجلس / ٢.

٥٦

فافعل ، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن الخلق ، فيبلغه الله بخلقه درجة الصائم القائم (١).

وما اكثر ما يحثّ به على التجمّل بلباس الخلق الحسن ، وقرينه السخاء ومن ذلك قوله : إن الله ارتضى لكم الاسلام دينا فاحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق (٢).

وأوصانا على لسان المفضّل بن عمر الجعفي بخصال ست لا توزن بقيمة ، قال له : اوصيك بستّ خصال تبلغهنّ شيعتي ، قال : وما هي يا سيّدي؟ قال عليه‌السلام : « أداء الأمانة الى من ائتمنك ، وأن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك ، واعلم أن للامور أواخر فاحذر العواقب ، وأن للامور بغتات فكن على حذر ، وإيّاك ومرتقى جبل سهل اذا كان المنحدر وعرا ، ولا تعدنّ أخاك وعدا ليس في يدك وفاؤه » (٣) قل لي بربّك أيّ خصال هذه!! وكم حملنا على أمثالها ممّا يجعلنا في مصافّ الملائكة المقرّبين؟ ولكن أين السامع.

ونهانا عن خصال بارتكابها الضعة والسقوط ، فقال عليه‌السلام : لا تمزح فيذهب نورك ، ولا تكذب فيذهب بهاؤك. وإيّاك وخصلتين : الضجر والكسل ، فإنك إن ضجرت لا تصبر على حق ، وإن كسلت لم تؤدّ حقا.

وقال عليه‌السلام : وكان المسيح عليه‌السلام يقول : من كثر همّه سقم بدنه ، ومن ساء خلقه عذّب نفسه ، ومن كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر كذبه ذهب بهاؤه ، ومن لاحى الرجال ذهبت مروّته (٤).

__________________

(١) الكافي ، باب حسن الخلق.

(٢) الكافي ، باب كظم الغيظ ، وباب المكارم.

(٣) بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٥٠ / ٩٤.

(٤) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٩٩ / ٢٦.

٥٧

وممّا أوصى به أصحابه قوله : تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ظللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم (١).

أقول : حقّا إن الرشد والنجاة بالتمسّك بأقوالهم ، والضلال والهلاك بالصفح عن نصائحهم ، لأنهم لم يدعوا سبيلا للإرشاد إلاّ دلّوا عليه ، ولا طريقا للإضلال إلاّ نهوا عنه.

وقال عليه‌السلام : اجعلوا أمركم هذا لله (٢) ولا تجعلوه للناس ، فإنه ما كان لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد الى السماء ، ولا تخاصموا بدينكم ، فإن المخاصمة ممرضة للقلب ، إن الله عزّ وجل قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء » (٣) وقال « أفأنت تكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين » (٤) ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن علي عليه‌السلام ولا سواء ، وأني سمعت أبي يقول : اذا كتب الله على عبد أن يدخله في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير الى وكره. (٥)

أقول : فكم كانت محاججات مبتنية على اصول صحيحة يفحم بها أحد الجانبين فلا ينقلب عمّا كان عليه مع وضوح الحقّ لديه وتجلّي الحقيقة ، وكم من ملحد أو كافر اعتنق دين الاسلام بأقلّ دلالة ، وأدنى سبب.

__________________

(١) الكافي ، باب تذاكر الاخوان.

(٢) أحسبه يريد به ولاء أهل البيت.

(٣) القصص : ٥٦.

(٤) يونس : ٩٩.

(٥) الكافي ، باب ترك دعاء الناس.

٥٨

وقال عليه‌السلام وهو يريد من أصحابه التوطين والنظر الى الأمر من بعيد :

اصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة ، فما مضى منه فلا تجد له ألما ولا سرورا ، وما لم يجىء فلا تدري ما هو ، وإنما هي ساعتك التي أنت فيها ، فاصبر فيها على طاعة الله ، واصبر فيها عن معصية الله (١).

أقول : إن هذه الكلمة تصوّر لك حال المرء في هذه الحياة ، لأن الماضي منسى حزنا كان أو سرورا ، ولآتي مجهول لا يدرى ، وإنما المرء ابن ساعته ، وصبر ساعة سهل ، سواء كانت طاعة فيأتي بها ، أو معصية فيصفح عنها ، فالإنسان في كلّ ساعة هو لتلك الساعة ، والى هذا أشار الشاعر بقوله :

ما مضى فات والمؤمّل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

وقال عليه‌السلام : اجعل قلبك (٢) قريبا برّا ، وولدا مواصلا ، واجعل عملك والدا تتبعه ، واجعل نفسك عدوّا تجاهده ، واجعل مالك عارية تردها (٣).

وقال عليه‌السلام : إن قدرت ألاّ تعرف فافعل ، ما عليك ألاّ يثني عليك الناس ، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله (٤).

وقال يحثّ على الدعاء : الدعاء يردّ القضاء ما ابرم ابراما ، فاكثر من الدعاء فإنه مفتاح كلّ رحمة ، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله عزّ وجل إلاّ بالدعاء ، وأنه ليس باب يكثر قرعه إلاّ ويوشك أن يفتح لصاحبه (٥).

وقال ، وما أشرفها كلمة : لا تطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودّته ولا

__________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٣١١.

(٢) أحسب أنه يريد من القلب هاهنا ـ العقل ـ فإنه جاء ذلك كثيرا في الأحاديث.

(٣) البحار ، في أحواله ج ١١.

(٤) بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٢٤ / ٩٥.

(٥) الكافي ، باب الدعاء يردّ البلاء والقضاء.

٥٩

توقفوه على سيّئة يخضع لها ، فإنها ليست من أخلاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من أخلاق أوليائه (١).

وقال عليه‌السلام ، وما أنفعها كلمة : احسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله وانصحوا لأنفسكم ، وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في جهله ، فإن لدين الله أركانا لا تنفع من جهلها شدّة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته ، ولا يضرّ من عرفها فدان بها حسن اقتصاده ، ولا سبيل الى أحد الى ذلك إلاّ بعون من الله عزّ وجلّ (٢).

العشرة :

كان من الجميل النافع أن نجمع وصاياه ومواعظه حسب الموضوعات.

ولئن فاتنا ذلك كلّه فلا يفوتنا بعضه ، فنحن ذاكرون الآن نبذا في بعض الموضوعات ممّا هو في متناول أيدينا. ونبتدئ بالعشرة.

لا شكّ أن الانسان من غريزته المحاكاة والتقليد لمعاشريه وأقرانه ، فإن كانوا أخيارا اقتبس منهم محاسنهم ، وإن كانوا أشرارا انطبع بمساوئهم وذلك طبعا في الأكثر الغالب من البشر ، ولأجله وجّه إمامنا نصيحته الى الناس فقال عليه‌السلام :

إيّاكم وعشرة الملوك وأبناء الدنيا ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقا ، وذلك داء ردي لا شفاء له ، ويورث قساوة القلب ويسلبكم الخشوع.

وعليكم بالإشكال من الناس (٣) والأوساط من الناس فعندهم تجدون

__________________

(١) روضة الكافي.

(٢) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه ، في أحواله عليه‌السلام : ص ٢٨٣.

(٣) أحسبه يريد بالإشكال الأمثال أي عليكم بأمثالكم من الناس دون الأعلون.

٦٠