تأريخ القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

تأريخ القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الفصل الخامس

شكل القرآن

١٢١
١٢٢

نريد بشكل القرآن فيما يلي ، الإطار الخارجي للنص القرآني ، وهذا الإطار عبارة عن رسمه وإعجامه ونقطه ، وما صاحب ذلك من جهد وتطوير منذ الكتبة الأولى للمصحف.

وهذا كله شيء يختلف عن القرآن نصاً متعبدا بتلاوته ، فالقرآن ألفاظه ومعانيه ، وتشريعه ومراميه ، بسوره وآياته متواترة متكاملة ، وشكله هو صورته المصحفية التي تواضع عليها الناس في الرسم والأعراب والنقط والأعجام للدلالة على ألفاظه في النطق ، وعلى هيئته وتركيبه في التلفظ ، فهو تسجيل ثانوي للوحي الأولي ، بما يؤدي إلى صورة حقيقته المثلى حينما يتلى بالألسن معادا كما أنزل.

وارتباط هذه الظاهرة الشكلية باللفظ المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريم وحياً سماوياً ، لم تأخذ طابع الصدفة أو صيغة العفوية ، وإنما كان أمراً إلهيا مقصودا إليه ، وجهداً رسالياً معنياً بالذات ، ليتضافر على حفظ القرآن الكريم ـ برا بوعده تعالى ـ عاملان :

الحفظ في الصدور ، والرسم في السطور. وهو كما يبدو من استعراض الروايات واستقراء الأحداث أمر مدنوب إليه ومرغوب فيه ، وقد كان تأسيس ذلك منذ عهد مبكر ، اقترن بأول نزول الوحي ـ كما سبقت الإشارة التفصيلية إليه ـ (١) وأوشك على الكمال عند جمع الناس على لغة

__________________

(١) ظ : فيما سبق مقالة : جمع القرآن.

١٢٣

قريش في القراءة المصحفية زمن عثمان ، وكتابة نص متكامل لهذا التوحيد ، في المصحف الأمام المتداول إلى اليوم مرسومه ، إلا أن ذلك النص ـ مضافاً إلى تسويته بالخط الكوفي القديم ـ جاء مجرداً : « من النقط والشكل ، ليحتمل ما صح نقله ، وثبتت تلاوته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان الإعتماد على الحفظ ، لا مجرد الخط » (١).

ورسم المصحف ـ كما سنفصل القول فيه بإذن الله تعالى ـ جاء مجرداً من كل علامات الشكل والنقط والأعجام ، لأنهم كانوا يستحبون تلخيص القرآن من كل الزوائد على الخط الكوفي ، ولما أورده جملة من أهل العلم ـ من قول مشترك يحتمل عدة معان ـ أن السلف كانوا يقولون : « جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء » (٢).

فلم تكتب مضافاً إلى إهمال النقط والأعراب ، حتى أسماء السور ، ولم يدون عدد آياتها ، ولا الإشارة إلى مكيها ومدنيها.

وقد اختلفوا فيما تبين فيه القراءة من الشكل ، وكان اختلافهم مبنياً على قناعات خاصة في أغلب الأحيان.

فقد كره إبراهيم النخعي الكوفي ( ت : ٩٦ ه‍ ) نقط المصاحف (٣).

وكره جملة الزيادات التوضيحية في المصاحف كل من : محمد بن سيرين ( ت : ١١٠ ه‍ ) والحسن البصري ( ت : ١١٠ ه‍ ) (٤).

وكان ذلك منهم بعناية الحفاظ على الشكل الأول للمصحف ، وقد يغلب على ظنهم احتمال التحريف لو أباحوا ذلك ، وقد يكون ذلك بداعي المغالاة في تقديس الرسم الأول ، بينما أفتى النووي باستحباب نقطه وشكله صيانة له عن اللحن والتحريف (٥).

__________________

(١) القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٦٤.

(٢) ظ : أبو عبيد ، غريب الحديث : ٤ / ٤٩ + الداني ، المحكم : ١٠ + السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

(٣) ظ : الداني ، المحكم : ١١ + السيوطي : ٤ / ١٦٠.

(٤) ظ : ابن أبي داود ، المصاحف : ١٤١.

(٥) ظ : القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٣٣٢.

١٢٤

ومهما يكن من أمر ، فقد كان الموقف السلبي من نقط المصحف وشكله منهزماً حينما عمد المسلمون إلى إعجام القرآن ونقطه بشكل منظم ، توافرت فيه النيات الصادقة ، وتعاقبته الأيدي الأمينة ، مما أدى بالأمر الواقع إلى تيسير تلاوة القرآن ، وصيانته عن الالتباس ، ومقاربتنا إلى نقطة الأمثل.

ويبدو أن الرائد الأول لذلك هو أبو الأسود الدؤلي ( ت : ٦٩ ه‍ ) حينما وجدناه قد عالج بادئ ذي بدء مسألة ضبط العلامات الإعرابية في المصحف ، إحترازا من اللحن ، وابتعادا عن العجمة ، ورعاية لسلامة النص ، فاستعمل لذلك ما يفرق فيه بين حالات الرفع والنصب والجر بالتنوين وبدونه ، وابتكر باجتهاد فطري منه طريقته الخاصة الأولى باستعمال النقط للحركات ، بصورة مميزة ، عددا ، وموضعا ، ولونا ، كما سترى هذا من قوله لكاتبه :

« خذ المصحف ، وصنيعا يخالف لون المداد ، فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في اسفله ، فإن أتبعت هذه الحركات غنة ، فأنقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره » (١).

ومن خلال هذه الرواية المستفيضة ، يتضح أن أبا الأسود قد خالف بين لون المداد المدون به المصحف وبين لونه لوضع هذه الحركات ، وقد جعل هذه الحركات على شكل نقاط في مواضعها المعينة ، وقد ظهر من ذلك ما يلي :

أ ـ نقطة فوق الحرف ، علامة للفتحة.

ب ـ نقطة تحت الحرف ، علامة للكسرة.

ج ـ نقطة في خلال أو بجانب الحرف ، علامة للضمة.

د ـ نقطتين على الحرف ، علامة للتنوين.

__________________

(١) السيرافي ، أخبار النحويين البصريين : ١٦ + ابن النديم ، الفهرست : ٤٠ + ابن الأنباري ، إيضاح الوقف والابتداء : ١ / ٣٩ + القلقشندي ، صبح الأعشى : ١ / ١٦٦.

١٢٥

وكان هذا العمل من أبي الأسود متميزاً بقيمة فنية أمكن بوساطتها التمييز بين الحالات الإعرابية بنقط مختلفة المواضع بعد أن كانت هملا ، وبلون يخالف الأصل المدون به المصحف زيادة في الضبط والتفريق.

وفي دوافع أبي الأسود ، ومشجعاته على هذا العمل الضخم روايات وتوجيهات كالآتي :

١ ـ إن الإمام علي عليه‌السلام سمع قارئا يقرأ ( إن الله بريء من المشركين ) (١) بكسر اللام في رسوله وهو كفر ، فتقدم إلى أبي الأسود « حتى وضع للناس أصلاً ومثالاً وبابا وقياسا ، بعد أن فتق له حاشيته ، ومهّد له مهاده ، وضرب له قواعده » (٢).

٢ ـ أن أبا الأسود نفسه قد سمع الآية المتقدمة في جزئها بكسر اللام من ( رسوله ) فقال :

لا يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به لحن هذا ، أو كلاماً هذا معناه (٣).

٣ ـ أن زياد بن أبيه طلب إليه أن يضع للناس علامات تضبط قراءتهم ، فشكل أواخر الكلمات ، وجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحته ، والضمة نقطة إلى جانبه ، وجعل علامة الحرف المنون نقطتين (٤).

وقيل إن زيادا أرسل إليه ثلاثين كاتبا للقيام بهذه المهمة (٥).

٤ ـ وقيل : إن أبا الأسود إنما قام بهذا وبنقط القرآن ـ كما في رواية أخرى ـ بأمر عبد الملك بن مروان (٦).

__________________

(١) التوبة : ٣.

(٢) أبو حيان التوحيدي ، البصائر والذخائر : ١ / ٢٦١.

(٣) البلوي ، الف با : ١ / ٢١٠.

(٤) الأنباري ، نزهة الالباب في طبقات الأدباء : ١٠ وما بعدها.

(٥) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : ٨٨.

(٦) ظ : السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

١٢٦

والملحظان الأخيران يؤكدان استجابة أبي الأسود لهذا الأمر بسبب أمر رسمي من سلاطين عصره ، وهو ما لا يتفق مع عزلة أبي الأسود السياسية ، وعزوفه عن المناخ الرسمي ، ولعل القلقشندي يدفع عنه ذلك صراحة ، ويوضحه فيقول :

« إن أول من نقط القرآن ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه » (١).

والغريب الذي لا يمت إلى أساس علمي أن يستبعد كل ما تقدم به أبو الأسود الدؤلي مع تظاهر الروايات على صدقه أو على شهرته على الأقل ، بعض الدارسين المعاصرين ، فمن يعد انفراد أبي الأسود في ذلك ليس منطقياً ولا معقولاً ، ولا يقوم على أساس عقلي ، وكأنه يستكثر ذلك عليه أن لم يستنكره ، بينما يعتبر أن للحجاج عملاً عظيماً لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن (٢).

ولدى التحقيق ـ كما سترى فيما بعد ـ فليس هناك مصدر واحد يوثق به ، أو نقل ثابت ، ويؤرخ هذه التقولات.

وليت شعري ما المانع العقلي أو المنطقي الذي يراه صبحي الصالح حائلا عن قيام أبي الأسود بذلك ، وأبو الأسود عالم موسوعي في كثير من فنون الأدب واللغة والتراث ، وهو بعد تلميذ الإمام علي عليه‌السلام ولم تشغله سياسة القوم عن النهج العلمي.

ولقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده ، إثنان من تلامذته هما يحيى بن يعمر العدواني ( ت : ٩٠ ه‍ تقريباً ) ونصر بن عاصم الليثي ( ت : ٨٩ ه‍ ) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجاً وإفراداً ، وقد كان وضع النقاط على الحروف حقيقياً لا على سبيل الإستعمال المجازي ، وبذلك تميزت صور الحروف المتشابهة ، وصار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف ، طبقا لما نجده متعارفا في كتابتنا المتداولة اليوم (٣).

__________________

(١) القلقشندي ، صبح الأعشى : ٣ / ١٥١.

(٢) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٩٤.

(٣) ظ : أبو أحمد العسكري ، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف : ١٣ + حمزة الأصبهاني ، التنبيه على حدوث التصحيف : ٢٧.

١٢٧

ثم زاد أتباع أبي الأسود علامات أخرى في الشكل ، فوضعوا ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه سواء كان همزة أم غير همزة ، ووضعوا الألف الوصل جرة في أعلاها متصلة به إن كان قبلها فتحة ، وفي أسفلها إن كان قبلها كسرة ، وفي وسطها إن كان قبلها ضمة (١).

ويأبى التأريخ إلا أن يضيف للحجاج بن يوسف الثقفي ( ت : ٩٥ ه‍ ) أنه أصلح من الرسم العثماني في عدة مواضع حددت بأنها إحدى عشرة كلمة ، فكانت بعد إصلاحه لها أوضح قراءة (٢).

ولا مانع من هذا تأريخيا ، وهو جهد عادي ، إذ ارتبط بإصلاح إملائي لرسم المصحف ، لا في نقطه وإعجامه كما تخيل صبحي الصالح ، الذي اعتبر عمل الحجاج عظيماً ومشكورا لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن ، وهو أمر موهوم كما رأيت.

وحينما ظهرت مشكلة اختلاط نقط الحركات التي وضعها أبو الأسود بنقط الحروف المتشابهة الرسم التي وضعها تلامذته كما أسلفنا ، استطاع الخليل بن احمد الفراهيدي ( ت : ١٧٠ ه‍ ) أن يبتدع أشكال الحركات ، فتميزت حينئذ الحركات عن الحروف ، فقد جعل الحركات حروفا صغيرة بدل النقط ، وابتكر لكل حركة ما يناسبها في الشكل من الحروف ، فالضمة واو صغيرة فوق الحرف ، والكسرة ياء مردفة تحت الحرف ، الفتحة ألف مائلة فوق الحرف.

وقد وفق الخليل مضافاً لهذا إلى ابتكار علامات الهمز والتشديد والروم والاشمام (٣).

وحينما أباح المسلمون لأنفسهم ضبط النص المصحفي في النقط والحركات وقواعد الهمز والتشديد ، أحدثوا النقط عند آخر الآي ، ثم الفواتح والخواتم ، حتى قال يحيى بن أبي كثير : « ما كانوا يعرفون شيئاً مما

__________________

(١) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : ٨٨.

(٢) ظ : ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : ١١٧.

(٣) ظ : البلوي ، ألف با : ١ / ٧٦ + السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

١٢٨

أحدث في المصاحف إلا النقاط الثلاث على رؤوس الآي » (١).

وكان هذا العمل إيذانا بمعرفة حدود الآية ، إذ يفصل بينها وبين الآية التي تليها بمؤشر نقطي ، تطور فيما بعد إلى شكل دائري ، يوضع داخله رقم الآية ، وبذلك تم تأشير أعداد الآيات وضبطها في السورة الواحدة.

وكان ذلك في الوقت نفسه مؤشرا إلى حركة تطويرية في شكل المصحف ، لا تتوقف عند حد من حدود التحسينات الشكلية الإيضاحية ، بل تستقطبها جميعاً فيما يحقق فائدة ، أو يزيل لبسا ، فقد عمدوا بعد ذلك الى كتابة الأخماس والأعشار ، وهو أن يدونوا بعد كل خمس آيات أو عشر آيات رقمها وعددها ، وكان قد كره ذلك جماعة من الأوائل على ما يدعى ، كابن مسعود ومجاهد والنخعي والحليمي (٢).

ولكنه لا يتعارض مع أي أصل ديني بل هو أمر إحصائي لا غبار على عائديته في التدقيق.

وحينما أدخل ما سبق تفصيله على الرسم العثماني ، لم تقف حركة التطوير عند هذا الحد تجاه الرسم الأول بل أضيف إليه كل ما يتعلق بأحكام السجود القرآني الواجب والمندوب ، فوضعوا في الهوامش إشارات إلى مواضع السجود ، بحيث اتضح كونه شيئاً والنص القرآني شيء آخر لانفصاله عنه إلى الجوانب شأنه في ذلك شأن تعيين الأحزاب والأرباع والأجزاء ، وإشارات التجويد في مغايرة رسمها في المدار ، وإن كانت ضمن النص ، مما استحسنه البيهقي فقال :

« ولا يخلط به ما ليس منه ، كعدد الآيات والسجدات والعشرات ، والوقوف ، واختلاف القراءات ، ومعاني الآيات » (٣).

وقد جعلوا لما تقدم بعض الضوابط ، لتمييز القرآن من القراءات ، والنص من الإضافات ، ولجأوا إلى تنويع لون المداد لكل من الرسم

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

(٢) المصدر نفسه : ٤ / ١٦٠.

(٣) المصدر نفسه : ٤ / ١٦١.

١٢٩

والشكل والنقط ، كحل أولي لرفع الالتباس ، وإزالة الإيهام.

قال الداني وهو يشير إلى ما تقدم بل ويفتي به : « لا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم ، ولا استجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة ، لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم ، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة ، والهمزات بالصفرة » (١).

وواضح في النص وغيره من النصوص الأخرى ، أن الرسم المصحفي للآيات كان يكتب بالمداد الأسود ، لهذا استحبوا أن تكون العلامات بالحمرة ، والهمزات بالصفرة ، وليكون ذلك عرفا شائعاً عند العامة والخاصة.

وهكذا جرى الضبط والتدقيق للشكل في القرآن ، فأضيف له بعد رسمه في الخط الكوفي ، النقط والحركات ، والهمز والتشديد ، والتخميس والتعشير ، والفصل بين الآيات وترقيمها ، ثم تطور الأخير إلى دوائر صغيرة ، وضع فيها رقم الآية بحسب تسلسلها من السورة ، ثم كتبت أسماء السور مع عدد آياتها في أول السورة وقبل البسملة متخذة لذلك عنوانا بالاسم ، وإحصاء بالآيات ، ثم قسم هذا النص إلى ثلاثين جزءاً ، وقسم كل جزء إلى أربعة أحزاب ، وكان ذلك بإشارات هامشية وأرقام وكتابات جانبية رسمية غير مختلطة بالنص القرآني الكريم ، وإلى جانب هذا أضيفت علامات التجويد والوقف ، ومواضع السجود وأمثال ذلك مما لم يكن معروفا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام والصحابة (رض) ، وهي زيادات قصد بها الإيضاح والكشف والبيان ، ولم يخالف فيها الرسم المصحفي ، فقد بقيت صور الكلمات على هيئتها ، وحافظت على أشكالها ، كما وصفتها لنا كتب السلف في الموضوع ، وفي طليعتها كتاب : المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ، لأبي عمرو وعثمان بن سعيد الداني ( ت : ٤٤٤ ه‍ ).

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤ / ١٦١ وما بعدها.

١٣٠

وبقي الرسم العثماني للمصحف هو الأساس في خط المصحف الكريم قديماً وحديثاً ، فحينما تطورت عملية الكتابة ، وتبلور فن الخط ، لم يفقد ذلك الأساس أهميته على الإطلاق ، إذ ظل المنار الهادي لدى أغلب خطاطي مختلف العصور ، نظراً لاكتمال الصورة الأولى للمصحف ، وإن انتقل الشكل في العموم من الخط الكوفي إلى الخط النسخي المعروف.

« وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة القديمة أو قطع منها ، بعضها مكتوب على الرق ، وبالخط الكوفي القديم ، مجردة من النقط والشكل ، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آياتها وغير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليه المصاحف الأولى » (١).

وقد شاهدت كثيراً من هذه الآثار المصحفية في المتحف البريطاني في لندن ، مصونة ومحافظا عليها ، بعناية أثارية فائقة ، وبحواجز زجاجية محكمة ، لا تصل إليها يد الناظر ، وقد أشير ببعضها إلى تواريخ قديمة قد يرجع قسم منها إلى القرون الأولى ، ولا نعلم مدى توثيقها.

* * *

أما الرسم المصحفي الأول للقرآن ، أعني كتابته على الكتبة الأولى ، فقد جاء دور الحديث عنه ، وأول ما نفجأ به ، هو الهالة الكبرى من التقديس لهذا الرسم مما يضفي شيئاً كثيراً من المغالاة التي لا مسوغ إليها في أغلب الأحيان ، وإنا وإن كنا لا نعارض تبجيله والاعتداد به ، ولكننا نعارض الغلو في شأنه ، ويبدو أن هذا الغلو والتقديس ، وما صاحب ذلك من هالات ، ما هو إلا تعبير عملي عن احترام جيل الصحابة الذين كتبوا المصحف عند توحيد القراءة ، وإن كانت تلك الكتابة مخالفة لأصول الإملاء ، وقواعد الخط ، إذ الكتابة تصوير لنطق اللفظ ، والعبرة بنطق ذلك اللفظ ، لا بتصويره ، والتطرف في إضفاء صفة التقديس على الكتبة الاولى ،

__________________

(١) نقل هذا النص غانم قدوري ، عن جولد تسهير وغيره ، ظ : محاضرات في علوم القرآن : ٩٣ ، وانظر مصادره.

١٣١

لا يعضده دليل نصي على الإطلاق ، وما قيل هنا وهناك من توقيف كتابة المصحف ؛ لا يستند إلى أساس من نقل أو عقل أو كتاب ، وليس فيه ما هو مرفوع إلى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجماعاً ، بل كان منسجما مع طبيعة ما يحسن الكتبة ، سواء أكان جنس ما يحسنون ممتازا ، أم هو ما تعارفوا عليه ، مما يؤدي إلى النطق الصحيح بالكلمات والآيات ، وهو أمر يرجع إلى مدى الجهد الذي بذله القدامى إملائياً وهجائياً في ضبط الرسم ، وما من شك أن يحصل الاختلاف بين الكتبة بقدر تفاوت الضبط فيما بينهم ، أو على نحو من اختلاف القبائل فيما تكتب ، مما طبع أثره على الاختلاف في الخطوط.

حينما جمع القرآن على لغة قريش ، ووحدت القراءات على حرف معين ، حصل جزء من هذا الاختلاف ، فقد قال الزهري : « واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال : النفر القرشيون : التابوت ، وقال زيد : التابوه ، فرفع اختلافهم إلى عثمان ، فقال : اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش » (١).

وفي رواية مماثلة : « فإنما أنزل القرآن على لسان قريش » (٢).

وأما ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال :

« ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة ، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة : بزيادة الألف ونقصانها ، لأسرار لا تهتدي إليها العقول ، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية ، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز ، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في « مائة » دون « فئة » وإلى سر زيادة الياء في « بأييد » و« بأييكم » أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الأف في « سعوا » بالحج ، ونقصانها من « سعو » بسبأ ؟ وإلى سر زيادتها في « آمنوا » وإسقاطها من « باؤ ، جاؤ ، تبوؤ ، فاؤ » بالبقرة ؟ وإلى سر زيارتها في « يعفوا الذي » ونقصانها من « يعفو عنهم » في النساء ؟ أم كيف

__________________

(١) ابن أبي داود ، المصاحف : ١٩.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١ / ٣٧٦.

١٣٢

تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض ، كحذف الألف من « قرءنا » بيوسف والزخرف ، وإثباتها في سائر المواضع ، وإثبات الألف بعد واو « سموات » في فصلت وحذفها في غيرها ، وإثبات الألف في « الميعاد » مطلقاً ، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال ، وإثبات الألف في « سراجاً » حيثما وقع ، وحذفه من موضع الفرقان ؟ وكيف نتوصل إلى حذف بعض التاءات وربطها في بعض ؟؟

فكل ذلك لأسرار إلهية ، وأغراض نبوية ، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني ، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور ، فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة ، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أشير إليها ، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفاً بحرف » (١).

فهو كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات وافتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه :

الأول : أن الرسم المصحفي لم يرد فيه ولا حديث واحد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يكون توقيفياً ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتهجى ، فكيف يتم هذا الغلو بشأنه ، بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره ، وهو تجاوز على مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمر بما يخطأ فيه ويصاب ، هجاء وإملاء مما نعتبره دون أدنى ريب خارجا عن توجيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوقيفه ، لأنه لا يحسن منه شيئاً ؛ وأما ما ورد بالزعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال لأحد كتبة الوحي :

« الق الدواة ، وحرف القلم ، وأنصب الباء ، وفرق السين ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك » (٢). فموضوع لا أصل له ، ويدل على وضعه ونحله كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميا ، فما أدراه بأصول الخط ؟ وما هي معرفته بالحروف ومميزات كتابتها وهو فاقد لأصل الصنعة ، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون ، وليس في ذلك انتقاص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غض من منزلته ، ولكن

__________________

(١) الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٣٧٦.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ٣٧٠.

١٣٣

الحقيقة التي نطق بها القرآن في أكثر من موضع بأنه أمي ، وهذه الحقيقة صاحبت حياته كلها ، وهي ليست نقصا في شأنه ، بل اقتضتها الحكمة الإلهية ، لدرء تخرصات المشركين وارتياب المبطلين ، فهي كرامة لا منقصة ، وتشريف لا تضعيف ، وتكريم لا توهين.

لقد أوتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوامع الكلم ، وفصل الخطاب ، والنص المتقدم لا ينسجم مع بلاغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القولية ، ولا يتفق مع فصاحته المتناهية ، فالصنعة بادية على النص ، والتكلف بين السمات عليه ، وعدم ارتباطه فنيا يبعده عن كلام أفصح من نطق بالضاد ، ثم ما هي علاقة الكتابة بوضع القلم على الأذن اليسرى ؟ وهل يصدق أن يكون هذا الهراء من كلام الرسول ؟ وأين هي المعاني الجامعة في هذا النص الهزيل ؟ وما هو وجه النظم بين فقراته التائهة ، وما هو المراد منها ؟

الثاني : لو كان رسم المصحف توقيفيا ، لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة ، وليس الأمر كذلك ، فقد أشير كثيراً إلى اختلاف المرسوم منها في جملة من الروايات.

الثالث : ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى ، وأنى توصل لذلك ؟ وكيف يطلق الكلام جزافا ؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل ، أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن ، والقرآن معجزة بتحديه ونظمه وحسن تأليفه ، وتفوقه باستعاراته ومجازاته وكناياته ، وارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب ، والتحدث عن المجهول ، واستقراء الأحداث ، واشتماله على الإعجاز التشريعي ـ مضافاً إلى الإعجاز البلاغي ـ الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن ، وتمكنه بأسراره العلمية ونظرياته الثابتة ، القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة ، والمعنى حقيقة أخرى ، والعلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة ، وهل يقاس هذا بالخط والإملاء ؟ وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء ؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات ، وحذفها من كلمات أخرى ، نعم السر واضح ، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية : خطأ الكاتبين ، ولا علاقة لخطئهم بالنص ، فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه ، ولا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص

١٣٤

القرآني بعد أن ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » (١).

فكتابة المصحف إذن كانت في ضوء ما ألفوه من الهجاء ، واعتادوه من الرسم ، وذلك قصارى جهدهم ، وما ورد فيها من منافيات أصول الخط ، لا يتعارض مع أصول المعاني ومداليل الألفاظ ، فالإملاء لا يغير نطقاً ، ولا يحرف معنى.

الرابع : ليس من المنطق العلمي ولا من المنهج الموضوعي ان نقارن ـ ولو بوجه ضئيل ـ بين الرسم المصحفي الذي كتبه بشر ، وبين أوائل السور القرآنية ذات الحروف المقطعة التي قام الإجماع والتواتر على أنها من الوحي الإلهي والنص القرآني ، وللعلماء فيها آراء واجتهادات ، وفي مضامينها روايات وأخبار ، وفي عرضها رموز وإشارات ، وليس هذا موضع بحثها فلسنا بصددها ، إلا أنها من القرآن المعجز ، وليس الرسم المصحفي من الإعجاز في شيء وإنما هو يخضع لمدى ما يحسن الكاتب ، وأين التحدي من السماء بالإعجاز إلى الصنعة الأرضية التي تتفاوت جودة وضعفا وإتقانا.

وقد حقق عبد الرحمن بن خلدون ( ت : ٨٠٨ ه‍ ) في قضية الرسم القرآني ، وألقى مزيدا من الأضواء الكاشفة ، على فكرة التعصب للرسم العثماني ، وانتهى من فلسفة القول في الخط عند العرب بعامة فقال :

« وكان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والإتقان والإجادة ، ولا إلى التوسط ، لمكان العرب من البداوة والتوحش ، وبعدهم عن الصنائع. انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف ، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم ، وكانت غير محكمة الإجادة ، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم الصناعة الخط عند أهلها.

ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخير الخلق من بعده ، المتلقون لوحيه من كتاب الله

__________________

(١) أبو شامة ، المرشد الوجيز : ١٣٢.

١٣٥

وكلامه ، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ، ويتبع رسمه خطأ أو صواباً.

وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه ، فاتبع ذلك وأثبت رسماً ، ونبه علماء الرسم على مواضعه. ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط ، وأن ما يتخيل من مخالفته خطوطهم لأصول الرسم كما يتخيل ، بل لكلها وجه ، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان الله عليهم ، عن توهم النقص في قلة إجادة الخط ، وحسبوا أن الخط كمال ، فنزهوهم عن قصه ، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته ، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة عن رسمه وليس ذلك بصحيح.

واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم ، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية ، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق ، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ، ولا في الخلال. وإنما يعود على أسباب المعاش ، وبحسب العمران والتعاون عليه ، لأجل دلالته على ما في النفوس.

ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمياً ، وكان ذلك كمالا في حقه ، وبالنسبة إلى مقامه ، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالا في حقنا نحن ، إذ هو منقطع إلى ربه ، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا » (١).

ورأي ابن خلدون واضح الأبعاد في إلقاء التبعة على من يتصور أن الخط كمال مطلق في حد ذاته ، وإن فقدانه يشكل نقصا جليا ، وعيبا لا يطاق ، وصوبوا في كتابته من أخطأ ، وليس الأمر كذلك ، فالإخلال ببعض قواعد الخط ، وجملة من أصول الإملاء ليس نقصا بحقهم ، بل هي الطاقة وجهد المقدور ، والتعظيم لمنزلة الصحابة لا يعني أن نغض الطرف عن خطأ هجائي وأصل إملائي فمنزلتهم شيء ، وحقائق الأمور شيء آخر ،

__________________

(١) ابن خلدون ، المقدمة : ٣٥٠. طبعة بولاق.

١٣٦

ولهذا كان ابن خلدون فيما قدمه من رأي جريئاً في الحكم ، وسخياً في العرض ، وواقعياً في المبادرة.

وهناك موقف للباقلاني ( ت : ٤٠٣ ه‍ ) يتناسب مع الذائقة الفطرية ، لطبيعة الأشياء ، فما لم يفرض فيه أمر ، لا يستنبط منه حكم ، وما لا وجه له لا يحدد بوجه مخصوص لقد بين حقيقة هذا الأمر بقوله :

« وأما الكتابة ، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئاً ، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره ، أوجبهم عليهم وترك ما عداه ، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه : أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلاّ على وجه مخصوص ، وحد محدود ، ولا يجوز تجاوزه ، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية. بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر برسمه ، ولم يبين لهم وجهاً معيناً ، ولا نهى أحدا عن كتابته ، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ؛ فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك.

وإذا كانت خطوط المصحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ؛ عُلم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن ، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دال على الكلمة ، مفيد لوجه قراءتها. تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت.

وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب

١٣٧

عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك » (١).

ورأي الباقلاني قوي الحجة بجواز كتابة المصحف بأي خط اتفق ، يدل على ألفاظ القرآن ويفصح عن قراءته ، بدليل ثبوت كتابته بالحروف الكوفية ، وبالخطوط المحدثة ، وبالهجاء القديم ، وفيما بين ذلك.

ومع اصالة هذا الرأي الذي لم يتأثر بميل أو هوى فقد تجد من يأتي بعده ، ويتكأ على كثير من آرائه يخالفه جملة وتفصيلا ، دون دليل علمي في الموضوع.

قال القسطلاني : ( ت : ٩٢٣ ه‍ ) وأكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية ، إلا أنه قد خرجت أشياء عنها ، يجب علينا اتباع مرسومها ، والوقوف عند رسومها ، فمنها ما عرف حكمه ، ومنها ما غاب عنا علمه » (٢).

والقسطلاني يريد بتعبيره بأن أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد الإملاء العربي ، وأصول الخطوط ، وما خرج عن ذلك يجب اتباعه في نظره ، ولا أعلم من أين استفاد وجوب اتباع مرسوم هذه الخطوط ، والوقوف عند رسومها ، وما هي فلسفة حكمه من الأخطاء الإملائية ، وما غاب عنا علمه من الاشتباهات الهجائية ، وليست تلك إلا أمور موهومة ، دعا إليها الغلو الفاحش ، والطيش في العاطفة ، وهو نفسه يقول :

« ثم إن الرسم ينقسم إلى قياسي ، وهو موافقة الخط للفظ ، واصطلاحي ، وهو مخالفته ببدل ، أو زيادة ، أو حذف ، أو فصل ، أو وصل ، للدلالة على ذات الحرف ، أو أصله ، أو فرعه ، أو رفع لبس ، أو نحو ذلك من الحكم والمناسبات » (٣).

وهذا هو التقسيم الصحيح ، والرسم المصحفي إصطلاحي لا شك ، تواضع عليه كتبة المصاحف الأولى ، واشتمل على مخالفة الخط للفظ ، في

__________________

(١) ط : محمد عبد العظيم الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٣٧٣ وما بعدها.

(٢) القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٢٨٥.

(٣) المصدر نفسه : ١ / ٢٨٤.

١٣٨

وجوه البدلية والزيادة والنقصان والحذف والفصل والوصل ، وكان ذلك شائعاً في جملة من الحروف ، لا سيما في إبدال الألف ياء ، وزيادة الأف بعد واو الجماعة الداخلة على بعض الأسماء ، وحذفها بعد جملة من الأفعال في ذات المكان ، وإثباتها لبعض الأفعال المعتلة بالواو ، وفي إثبات الهمزة في الوصل حيناً ، وحذفها حيناً آخر ، وفي ما فيه قراءتان والرسم على أحدهما ، كما هو ملاحظ في جملة من خطوط الرسم المصحفي.

وقد حصر السيوطي أمر الرسم المصحفي في الحذف ، والزيادة ، والهمز ، والبدل ، والفصل ، وما فيه قراءتان فكتب بأحدهما (١).

ولا حرج مطلقاً في أن يكتب المصحف كاتب ، أو يطبعه طابع ، بأي هجاء شاء ، مادام لا يخرج عن النطق المطلوب ، كما أنزله الله تعالى ، وكما تنطق به العرب ، إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه ومعانيه ، ومقاصده ومراميه ، لا هجاؤه ورسمه وهيكله ، والقرآن ما رسم بهذا الرسم ، ولا كتب بهذا الهجاء ، إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول (٢).

وما القول بوجوب اتباع الرسم القديم ، وعدم مخالفته وتعديه ، إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق من النهج العلمي ، والارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول ، وبهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في « شعب الإيمان » بقوله :

« من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف ، ولا يخالفهم فيها ، ولا يغير مما كتبوه شيئاً ، فإنهم أكثر علما ، وأصدق قلبا ولسانا ، وأعظم أمانة منا ، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم » (٣).

__________________

(١) ظ : السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٤٧.

(٢) ظ : ابن الخطيب ، الفرقان : ٨٤ وما بعدها.

(٣) الزركشي ، البرهان : ١ / ٣٧٩.

١٣٩

بل نذهب إلى جواز المخالفة ، وتيسير القرآن بالخط والهجاء الذي لا لبس فيه ، فلا يؤدي إلى اختلاف ، ولا يؤول إلى إبهام ، وليس في ذلك تحامل على السلف ، فليس الخط ونقصانه مما يشكل استخفافا بهم ، ولا هو يتنافى مع ورعهم وتقواهم ، ولا علاقة له بأنهم أصدق لسانا ، وأعظم أمانة ، ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم.

يقول الاستاذ أحمد حسن الزيات : « الغرض من كتابة القرآن : أن نقرأه صحيحاً لنحفظه صحيحاً ، فكيف نكتبه بالخطأ ، لنقرأه بالصواب ؟ وما الحكمة أن يقيد كلام الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب » (١).

ولقد كان عز الدين بن عبد السلام جريئا ومحافظا في وقت واحد بقوله :

« لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدي إلى دروس العلم ، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة » (٢). فهو يدعو إلى تطوير الرسم المصحفي رفعا لمشاكل القراءة عند المحدثين ، ويدعو إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني كجزء من التراث الذي لا يترك حبا بالأقدمين.

ولقد أوضح السيوطي حقيقة مخالفة الخط المصحفي في بعض الحروف لقواعد الخط العربي فقال : « القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء والوقف عليه ، وقد مهد النجاة له أصولاً وقواعد ، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام » (٣).

وأنى كانت وجهة النظر تجاه الرسم المصحفي ، فهي لا تعني شيئاً ذا أهمية قصوى ، لأنها مسألة شكلية لا تتعلق بجوهر القرآن ، ولا تغير

__________________

(١) مجلة الرسالة المصرية ، عدد ٨ يناير ، ١٩٥٠.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١ / ٣٧٩.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٤٦.

١٤٠