تأريخ القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

تأريخ القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حقيقته ، لأن اختلاف بعض الخطوط لقواعد الهجاء لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ، ليتحقق بعد هذا كله التأكيد الإلهي بحفظ القرآن ، سالما من التحريف ، مصاناً عن الزيف.

وقد شاءت العناية الإلهية أن يظل شكل القرآن متجاوباً مع اختلافات الرسم في كل العصور ، ومتجانساً مع عملية التطوير الكبرى للخط العربي ، فقد دأب المتخصصون بصياغة الخطوط وطرائقها أن ينقلوه من جيل إلى جيل مطابقاً للأصل الكوفي مع إضافة الأشكال التطويرية زيادة في الإيضاح ، ورفعا للالتباس ، وكان ذلك متواتراً طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان ، فما وجدنا في طول العالم الإسلامي وعرضه نصاً قرآنياً يخالف نصاً آخر ، ولا مخطوطاً يعارض مخطوطاً سواه ، حتى هيأ الله تعالى الطباعة ، لتزود المسلمين بل الناس أجمعين ، بملايين النسخ من القرآن الكريم ، وبمختلف الطبعات الأنيقة والمذهبة والمحكمة ، وهي تعطر كل بيت ، وتشرف كل منتدى ، وتحتل صدر كل مكتبة.

وكان دور الطباعة مهما في نشر القرآن الكريم في كل من أوروبا والبلدان الإسلامية والوطن العربي.

فقد نشر القرآن مطبوعاً للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة ١٥٣٠ م ، بيد أن السلطات الكنسية وقفت منه موقفا متعصبا ، فأصدرت أمراً بإعدامه عند ظهوره ؛ ثم قام هنكلمان بطبع القرآن في مدينة هانبورغ عام ١٦٩٤ م ، وتلاه ( مراتشي ) بطبعه في بادو عام ١٦٩٨ م.

وقد ذكر كل من بلاشير وشزر وبفنلمر أن أول طبعة إسلامية للقرآن كانت في سانت بطرسبورج بروسيا عام ١٧٨٧ م وهي التي قام بها مولاي عثمان ، وبعد هذا قدمت إيران طبعتين حجريتين الأولى في طهران عام ١٨٢٨ م والثانية في تبريز عام ١٨٣٣ م (١).

وفي مصر قام الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي بكتابة مصحف عني فيه بكتابة الكلمات في ضوء الرسم العثماني ، وقدم له بمقدمة

__________________

(١) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٩٩ وانظر مصادره.

١٤١

أبان فيها تحرير المصحف ورسمه وضبطه ، وطبع بمطبعة حجرية هي المطبعة البهية في القاهرة عام ( ١٣٠٨ ه‍ ) (١).

وكانت هذه الطبعة الأولى من نوعها في القاهرة ، وقد استدركت عليها بعض الملاحظات المطبعية عولجت فيما بعد.

وفي القاهرة ، عام ١٣٤٢ ه‍ ـ ١٩٢٣ م تشكلت لجنة عليا من مشيخة الأزهر ، مستعينة بكبار العلماء ، بإقرار من قبل الملك فؤاد الأول ، كان قوامها كل من : شيخ المقارئ المصرية محمد خلف الحسيني ، والأستاذ حفني ناصف العالم اللغوي ، ومصطفى عناني ، وأحمد الإسكندري.

وقد اضطلعت هذه اللجنة بمهمة ضبط المصحف ورسمه وشكله ، فكتب القرآن ـ بإقرارها ـ موافقا للرسم العثماني ، وعلى قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، برواية حفص بن سليمان الكوفي. ثم طبعته طبعة أنيقة بالنسبة لزمنها ، تلقاها العالم الإسلامي بالغبطة ، وكان ذلك أساس انتشار طبعات القرآن الأخرى ، ففي عام ١٩٢٤ تم طبع القرآن في مطبعة بولاق في القاهرة ، وكانت هذه الطبعة هي الطبعة الرسمية للقرآن في نظر المستشرقين (٢). وبعبارة أخرى فهي القرآن الرسمي عندهم.

وكان القرآن قد طبع بحجم صغير في عام ( ١٣٣٧ ه‍ ) في مطبعة بولاق أيضا ، وأعيدت طبعته في ( ١٣٤٤ ، ١٣٤٧ ) (٣).

وقد بقي طبع القرآن في الوطن العربي بل الإسلامي مقتصرا على مصر في أغلبية مشروعاته ، ثم قامت عدة دول بطبع القرآن طبعات أنيقة فاقت ما قدمته مصر ، كان ذلك في عصر تقدم الطباعة وآلاتها ومستلزماتها ، وتحسين الورق وازدهار الخطوط ، وكان ذلك حديثا وفي بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ، حينما استعانت هذه الدول

__________________

(١) ظ : عبد الفتاح القاضي ، تأريخ المصحف الشريف : ٩١ وما بعدها.

(٢) هناك مقالة للمستشرق الألماني الأستاذ نولدكه بعنوان : القرآن : الرسمي ( طبعة بولاق ١٩٢٤ ) بالنظر إلى قراءة أهل مصر ، نشرها في مجلة الإسلام ج ٢٠ ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ١ / ١٤١.

(٣) ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ١ / ١٤١.

١٤٢

بمطابع راقية في الدول الغربية لسحب ملايين النسخ من القرآن الكريم بأبهى حلة لا سيما في مطابع ألمانيا وشركاتها ، وكان في طليعة من تصدى لهذا العمل من دول الشرق الإسلامي وغربه كل من : العراق وتركيا وإيران وسوريا والمغرب والجزائر وتونس وغيرها.

وفي ضوء جميع ما تقدم نجد أن شكل القرآن قد استقر الآن على ما استقر عليه بالتحسينات والإيضاحات والأناقة الطباعية ، مما نقطع معه إن لم يقدر لأي أثر ديني أن يحتفي بهذا القدر من الاحتفاء كما قدر للقرآن الكريم ، كتابة ، وشكلاً ورسماً ، وحفظاً ، وطباعة ، وانتشاراً.

١٤٣
١٤٤

الفصل السادس

سلامة القرآن

١٤٥
١٤٦

لا حاجة بنا إلى القول بأن القرآن الكريم قد وصل إلينا كما نزل ، وقد حفظ بين الدفتين كما أوحي ، فالحديث عن سلامة القرآن وصيانته من البديهيات ، والاعتقاد بخلوه من الزيادة والنقصان من الضروريات.

والقرآن في منأى عن التحريف في نصوصه وآياته ، إذ لم يضف إليها ما ليس منها ، ولم يحذف ما هو منها ، فالموجود بين أيدينا هو النص القرآني الكامل في ضوء ما أسلفناه من وحي القرآن ، ونزول القرآن ، وجمع القرآن ، وقراءات القرآن ، وشكل القرآن ، إذ تضافرت هذه العوامل جميعاً على ضبطه كما أنزل ، زيادة على العناية الإلهية التي رافقت هذه العوامل ، وصاحبت هذا النص.

أن الدلائل العلمية تؤكد حقيقة صيانة القرآن كياناً متماسكاً مستقلاً لم تصل إليه يد التحريف ، ولم تستهدفه نبال العوادي ، وليس هذا أمراً اعتباطيا تحكمت فيه الظروف أو الصدف ، بل هو أمر حيوي قصدت إليه إرادة الغيب بإشاءة الله تعالى ، وتأسيساً على ذلك فلا يغير القرآن غرض طارئ ، ولا عدوان مباغت.

وحديثنا عن سلامة النص القرآني يقتضي دحض أي ادعاء مغاير ، ورد أي اتجاه مناوئ ، وهذا يدعو إلى تصفية دعاوى التحريف وتفنيد أباطيلها من الوجوه كافة.

ودعاوى التحريف لدى غربلتها ، ودراسة مظاهرها ، نجدها تتردد بين عدة ظواهر هي :

١٤٧

الادعاءات ، الافتراضات ، أخبار الآحاد ، الاتهامات ، الشبهات ، المحاولات.

ورصد هذه الظواهر يحتم مسايرة الموضوع لجزئياتها ، ولدى مسايرة الموضوع بجزئياته ، والظواهر بحيثياتها ، تجلى بطلان قسم منها ، وفشل القسم الآخر ، وتعثر الجزء الأخير في تحقيق الدعوى.

وسنقف عند هذه الظواهر وقفة المقوم المتحدي ، والناقد الموضوعي.

أولا : الادعاءات ، ويثيرها عادة زمرة من المستشرقين دون أساس يعتمد عليه ، حتى بدا بعضهم متردداً متخاذلاً ، والبعض الآخر متحاملاً.

فمع الجهد الكبير الذي بذله المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه ( ١٨٣٦ م ـ ١٩٣٠ م ) في كتابه القيم عن تأريخ القرآن ؛ إلا أننا نجد موقفه احياناً غريباً ومتناقضاً ، ففي الوقت الذي يعقد فيه بكتابه فصلاً بعنوان : ( الوحي الذي نزل على محمد ولم يحفظ في القرآن ) والذي يبدو فيه قائلا بالتحريف تلميحاً ، نجده يصرح بذلك في مادة قرآن بدائرة المعارف الإسلامية فيقول : « إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت ويثني على هذا الموضوع الخطي في دائرة المعارف البريطانية ، مادة قرآن فيقول : « إن القرآن غير كامل الأجزاء » (١).

وجملة ما أثاره لا يعدو الادعاءات التي يصعب معها الاستدلال المنطقي ، ويبدو أن نولدكه قد تنازل عن آرائه وتراجع عنها شيئاً ما ، فحينما ظهر كتاب المستشرق الألماني « فوللرز » عن لغة الكتابة واللغة الشعبية عند العرب القدماء ، أثار نقاشا حادا ، فقد زعم « فوللرز » في كتابه هذا أن القرآن الكريم قد ألف بلهجة قريش ، وأنه قد عدّل وهذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية ، وقد انبرى نولدكه نفسه للرد عليه موضحا أن كلامه عار من الصحة والتحقيق العلميين (٢).

__________________

(١) المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : ٣٠ وانظر مصدره.

(٢) ظ : آلبرت ديتريش ، الدراسات العربية في ألمانيا : ١٣.

١٤٨

ثم قرر نولدكه بعد هذا أن النص القرآني يعتبر على أحسن صورة من الكمال والمطابقة (١).

لقد فتح ( نولدكه ) الطريق أمام القول بتحريف القرآن ، ثم بدا مدافعا عنه ، مما بدا فيه متناقضاً بين السلب والإيجاب في الموضوع.

وإذا كان ما قدمه الاستاذ نولدكه قد تضاءل قيمة نظراً لتردده في الأمر ، وعدم وضوح الرؤية له فيه ، فإن ما كتبه الأستاذ بول بكثير من عدم التورع ، لا يمكن أن يتهاون فيه.

لقد ألقت مسألة التحريف التي أثارها بعض المستشرقين ، عند الأستاذ بول بثقلها ، فكتب عنها بحثا في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية (٢).

اعتبر بول التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة ، وأن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود وبتغيير ما أنزل إليهم من كتب وبخاصة التوراة. ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطئ أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود ، فكان في نظرهم مبطلاً.

وقد خلط ( بول ) في هذا البحث خلطا غير متناسق ، واكبته فيه النزعات المنحرفة ، وصاحبه إسراف وإفراط لا يمتان إلى استكناه الحقائق بصلة.

والذي يهمنا من بحثه أن نشير إلى ما يلي (٣) :

أ ـ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه ، وإنما هو تعبير عن وحدة الديانات والشرائع والأنبياء في جميع الأطوار ، وأن أصول هذه الديانات واحدة ، وإن تغيير هذه الحقيقة

__________________

(١) ظ : نولدكه. تأريخ القرآن : ٢ / ٩٣.

(٢) ظ : بول ، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : ٤ / ٦٠٤ ـ ٦٠٨.

(٣) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : ٤٠ ـ ٤١.

١٤٩

الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن : ( يحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضعهِ ) (١).

ب ـ إن الألفاظ التجريحية التي وردت في المقال بالنسبة للرسول الأعظم لا تتفق مع المنهج الموضوعي ، فقد أشار بل صرح بأن القرآن من تلقاء نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه تحدث في القرآن بطريقة مبهمة ، وأن محمداً يستعمل لفظ حرف بدل القرآن.

وهذه مواد لا يفترض بعالم أن يتولى التحدث بها بأسلوب الغمز واللّمز ، وهو ما لا يقبل في بحث علمي ، ولسنا نرى ذلك غفلة أو هفوة بل هو تغافل وجفوة.

ج ـ ادعى الباحث أن خصوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذوا عليه نسخ بعض أحكام القرآن بأحكام أخرى ، مما حدا بعلماء المسلمين أن يذهبوا مذاهب شتى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتهام.

وبإيجاز نقول : إن نسخ الأحكام شيء ، والتحريف شيء آخر ، فالنسخ لا يكون تحريفا ، وإنما هو إحلال لحكم مكان حكم ، أو رفع لحكم من الأحكام من قبل الله تعالى ، تخفيفا عن العباد ، أو رعاية لمصلحة المسلمين ، أو استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم ، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالشريعة أو بمعتنقيها ، ولا مجال إلى الطعن في هذه الناحية على ادعاء التحريف في القرآن.

د ـ يقول الباحث ، وهو يضرب على وتر حساس : « وقد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة. فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا وأثبتوا آيات في القرآن بغية محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد ، معززاً لمذهبهم ، وقد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة » (٢).

وهنا أثار مسألة مهمة في أقدس أثر من تراث المسلمين ، ولم يعط

__________________

(١) النساء : ٤٦.

(٢) ظ : بول ، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : ٤ / ٦٠٨.

١٥٠

دليلاً واحداً على صحتها ، ولم يثبت مرجعا واحداً يتتبع هذا الإتهام.

والمسلمون جميعاً قد اتفقوا على سلامة القرآن من التحريف وتبادل الاتهامات كما سترى فيما بعد ، لا يغير من الحقيقة شيئاً ، وقد كان الأجدر بالباحث أن يتناول الموضوع بشكل آخر ، فيعرض إلى آراء المسلمين بخلو القرآن من التحريف ، بدلاً من تجريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسبة ما لم يكن إلى المسلمين.

إن مما يؤسف له حقا أن يستغل ( بول ) نصاً من نصوص القرآن في إدانة اليهود ( النساء / ٤٦ ) ليبني عليه حكماً طائشاً على إدراك خاطئ ، فيعتبر التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة في القرآن ، ولكنه لم يعطنا نموذجا واحداً على هذا التغيير المباشر ، وهذا المنظور الفاضح لم يوافقه عليه حتى السمتشرقون أنفسهم ، فهناك بضع شهادات لكبار علماء الاستشراق العالمي ، تؤكد سلامة النص القرآني من التحريف والتغيير والتبديل ، دون كتب الديانات الأخرى.

وقد أورد أبو الحسن الندوي جملة من نصوص وأسماء المستشرقين في هذا الموضوع (١).

إن كثيراً من الأحكام الاستشراقية قد تمليها نزعات عدائية حيناً ، وتبشيرية حيناً آخر ، وهنا يكمن الخطر فيجب ـ والحالة هذه ـ أن يعامل الحكم الاستشراقي بكثير من الحذر.

ثانيا : الافتراضات : على مدعي التحريف أن يحدد زمن وقوع التحريف كافتراض أولي لإثارة أصل المشكلة ، وإذا أخفق في تحقيق هذا الافتراض بطلت الدعوى من الأساس.

والتحريف المدعي : إما أن يقع في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما في عهد الشيخين ، وإما في عصر عثمان ، وإما زمن الإمام علي عليه‌السلام ، وإما في الحكم الأموي ، إذ لا يخلو ذلك عن أحد هذه الأزمنة ، إذ لم يدع أحد ـ

__________________

(١) ظ : الندوي ، النبي الخاتم : ٣٠ ـ ٣١.

١٥١

على ما افترض ـ وقوع التحريف بعد العصر الأموي.

أما الافتراض الأول ، وهو وقوع التحريف في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فباطل إجماعاً ، بما تبين لنا من مدارسة ظاهرة الوحي ومعطياتها ، فقد ثبت ان الوحي منفصل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شخصيته المستقلة ، وأنه مؤتمن على الرسالة ، وقد أداها متكاملة غير منقوصة بنص القرآن الكريم : ( اليومَ أكمَلْتُ لكم دينَكُمْ وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً .. ) (١).

فلو كان هناك ما يمنع من الكمال ، لما أيده القرآن ، وأي مانع عنه أفظع من إباحة التحريف في النص الذي ثبت إعجازه ، وكان دليل رسالته ، وبرهان دعواه ، فهذا الافتراض ـ إذن ـ مرفوع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن البيئة التي رافقت القرآن في عصره إذ كان الحاكم والمشرع والآمر.

وأما ادعاء وقوعه في زمن الشيخين ، فلم يعضده دليل نصي أو عقلي ، وحرص الشيخين على النص القرآني أشهر من أن يذكر ، فالدعوى باطلة.

وأما في عهد عثمان ، فعثمان هو الذي وحد المصحف على لغة قريش ، والقراءات التي سبقت هذا التوحيد كانت اجتهادية في أغلب الظن ، ومظنة الخطأ لو وقعت في الاجتهاد ، فلا أساس لها في مس القرآن الكريم ، وانتشار القرآن آنذاك مانع كبير من أن يقع عليه شيء من التحريف ؛ وقد تعرض عثمان لثورة مضادة ، فما ادعى عليه شيء من هذا القبيل على الإطلاق ، فالدعوى ـ إذن ـ باطلة.

وأما في عهد الإمام علي عليه‌السلام فلا يصح أن يقع التحريف للأسباب المتقدمة ، ولاعتبارات أخرى :

١ ـ إن حريجة الإمام علي عليه‌السلام في الدين بل وفي الجزئيات التشريعية معلومة الحال ، فكيف تجاه أصل الدين ، ونظام الإسلام ، وهو القرآن ، فلو سبق أن امتدت له يد التحريف ، لما وقف مترددا في إرجاع الحق إلى

__________________

(١) المائدة : ٣.

١٥٢

نصابه ، وإلغاء سمات التحريف ، فكيف يصح أن يقع في عهده ، وهو من هو في ذات الله.

٢ ـ إن الإمام علي عليه‌السلام احتج بالقرآن على أهل الجمل ، ودعي إليه في التحكيم مع أهل صفين ، فلو كان في القرآن ما ليس منه ، أو أنه لم يشتمل على كل القرآن ، لما صح له به الاحتجاج ، ولا قبوله في التحكيم ، وهذا أمر مشهور لا يحتاج معه إلى برهان.

٣ ـ إن خطب الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة ، تشير إلى القرآن في كثير من التفصيلات هداية واسترشادا وتوجيها للناس ، فلو كان هناك مما يدعى شيء لأبان ذلك على الأقل وأنكره ، ولاحتج فيه على من تقدمه ، فلما لم يفعل ذلك علمنا بسلامة القرآن.

« أما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء لم يدعها أحد فيما تعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية اسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ...

وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ... فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعا ، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة ، وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تأريخه » (١).

إذن فالافتراضات الموهومة جميعاً لا تقوم على أساس علمي أو عقلي ، فهي مرفوضة جملة وتفصيلا ، بعد أن ثبت بطلانها جزئية جزئية ، وفرضية فرضية.

ثالثا : الروايات ، والتي عبرنا عنها بأنها أخبار أحاد ، وهو كذلك ، فهي متناثرة هنا وهناك ، ويستنتج منها وقوع التحريف تصريحاً أو تلميحاً ، ولكنها لا تصلح دليلاً في قضية ، ولا برهاناً على دعوى ، إذ لم تبلغ حد

__________________

(١) الخوئي ، البيان : ٢١٩.

١٥٣

الشهرة فضلاً عن التواتر ، ولأن الضعف الكذب والتدليس واضح الإمارات في الرواة ، والاضطراب والتناقض متوافر في الأسانيد ، وأبرزها كالتالي :

١ ـ نسبوا إلى ابن مسعود (رض) أنه أسقط سورة الفاتحة من مصحفه (١).

أقول وهي رواية يجوز معها الشك والسهو والنسيان وإن لم نقل الكذب للأسباب التالية :

أ ـ قال ابن حزم : هذا كذب على ابن مسعود (٢).

ب ـ إنها معارضة بقراءة ابن مسعود لها في الصلاة ، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.

ج ـ إن صحت الرواية ، فقد غلب على ظن ابن مسعود أن الفاتحة لا يمكن أن تنسى لوجوب تعلمها على المسلمين كافة ، وإن ما كتب من القرآن كان لمخافة النسيان والضياع.

د ـ إن مصحف ابن مسعود وأمثاله ليست إلا مصاحف فردية ، كمن يكتب لنفسه سورة ، ويغفل سورة ، فإن سقط من مصحفه شيء فلا ينسحب ذلك على القرآن.

ه‍ ـ أن المصحف الإمام المتداول بالأمس واليوم عند المسلمين قد اشتمل على الفاتحة ، فلا تحريف إذن بهذا الملحظ.

و ـ يبدو لي أن الرواية مكذوبة على ابن مسعود جملة وتفصيلا للإيهام بدافع سياسي ـ بأن عدم اشتراكه عند جمع المصحف ـ كما يدعى ـ كان لهذا ولامثاله.

٢ ـ ما أورده السيوطي وغيره ، أن هناك سورتين لم تكتبا بالمصحف ، وهما سورة الحفد وسورة الخلع ، وذلك عند الجمع ، وقد علمهما علي وعمر ، وكان أبي يقنت بهما على ما أورده المروزي ، وأنه كان قد كتبهما في مصحفه ، وهناك طائفة من الصحابة تستظهرهما وتقرؤهما في الصلاة أو القنوت (٣).

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ١ / ٨٣.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ٢٢١.

(٣) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٨٤ وما بعدها.

١٥٤

ويرد على هذه الروايات ما يلي :

أ ـ إننا قد رجحنا أن يكون القرآن مجموعاً في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا ثبت ذلك بطلت هذه الدعاوى.

ب ـ لو أن عليا وعمر ، كانا قد علما بأن هاتين سورتان ، فما يمنعهما من إلحاقهما بالمصحف ، وهما من القوة بحيث لا يستطيع أحد معارضتها مجتمعين إطلاقاً.

ج ـ لو كان الإمام علي عليه‌السلام يعلم هاتين السورتين ، فلم لم يشر بهما إلى أحد ذريته وشيعته لحفظهما من الضياع ، وذلك في عهد خلافته ، ولا رواية واحدة تدل على ذلك.

د ـ إن السياق الجملي للسورتين المزعومتين ، لا يتناسب مع مناخ القرآن البلاغي ، ولا أسلوبه الإعجازي ، ولا لغته المتميزة ، فلغة القرآن « سبوح لها منها عليها شواهد ، ولغة هاتين السورتين الموهومتين لغة دعاء مجرد » (١).

٣ ـ نسب إلى عكرمة أنه قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان ، فوجد حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيروها ، فإن العرب ستغيرها ، أو قال ستعربها بألسنتها » (٢).

ولا دلالة في هذا على التحريف إطلاقاً ، وإذا صح ، ففيه دلالة على اشتباه الكتبة ، ولكن الأمر المشكل فيها هو لماذا أمر عثمان بعدم تغييرها ، ولماذا لا يكون هذا الأمر مخترعا لا سيما وأن الرواية منقطعة غير متصلة ـ لأن عكرمة هذا لم يسمع من عثمان شيئاً بل لم يره كما يرى ذلك الداني (٣).

٤ ـ روى ابن عباس عن عمر أنه قال : « إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل إليه آية الرجم ، فرجم

__________________

(١) ظ : نص هاتين السورتين في : السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٨٤ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ١٨٣.

(٣) ظ : الداني ، المقنع : ١١٥.

١٥٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمناه بعده ، ثم قال : كنا نقرأ : ( ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ) أو : ( إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) (١).

ويرد على هذه الرواية ما يأتي :

أ ـ لم ترو هذه الرواية متواترة عن عمر ، وإنما رويت بطريق الآحاد ، وهي بعيدة الصدور عن عمر ، إذ لو اعتقد أنها آية ( آية الرجم ) لأثبتها لأنه كان يحتل الموقع الأول في الدولة مع وجود أبي بكر ، وأية قوة تقف في صدر عمر إذا أراد شيئاً آنذاك ، وعلى فرض صحة وجود الآية فلا دلالة فيها على التحريف لأنها من نسخ التلاوة ، وإن كنا نعارضه. ونعتبره اساساً للقول بالتحريف.

ب ـ إن حكم الرجم ثابت في السنة ، ولا يعني ذلك أن ما ثبت في السنة ثابت في القرآن ، بل كلا هما يشكلان أساس التشريع. وهناك جملة من الأحكام كانت السنة أصلاً لها ولا ذكر لها في القرآن كإعداد الصلاة ، وبعض مراسيم الحج ، وأنصبة الزكاة ، وهكذا.

٥ ـ روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مئتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن » (٢).

ويرد على هذه الرواية إشكالان :

أ ـ إن عروة بن الزبير ضعيف الرواية.

ب ـ لو كانت عائشة وهي أم المؤمنين ومسموعة الكلمة ، ولها أثرها في الدولة الإسلامية آنذاك تعتقد هذا الأمر فلماذا أخفته ، وحينما عارضت عثمان لماذا لم تذكر في معارضتها هذا الأمر وهو خطير جداً.

فالأحرى إذن أن تكون الرواية موضوعة لا أصل لها.

٦ ـ قال لبيب السعيد في نفي أدلة التحريف وذكر رواياتها : ما ادعاه

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٤٧.

(٢) السيوطي ، الاتقان : ٢ / ٤٠.

١٥٦

بعض الغلاة المنتسبين إلى الشيعة : أن عليا عليه‌السلام جمع القرآن فكان فيه ما سموه « فضائح المهاجرين والأنصار » وأن عمر طلب إلى زيد بن ثابت أن يسقط من القرآن هذه الفضائح ... (١).

وهذه الرواية ظاهرة النحل والبطلان من وجوه :

أ ـ إن الروايات متظافرة على جمع الإمام علي للقرآن حتى سمي ذلك بمصحف علي ، وهذا المصحف لا يختلف عن مصاحف بقية الصحابة ممن جمعوا القرآن ، ولا عن القرآن المعاصر بشيء ، لأن الإمام علي عليه‌السلام كان قد ولي الخلافة ، ولو كان في القرآن شيء منه لم يثبت لأثبته وفق ما يراه وهو الإمام الحاكم آنذاك.

ب ـ قد يستفاد من كثير من النصوص ـ كما أسلفنا القول فيه ـ (٢) أن الإمام علي عليه‌السلام قد جمع القرآن ورتبه تأريخيا بحسب النزول وأسبقيته ، ولا مانع من هذا ، كما أنه قد قسمه على سبعة أجزاء بحسب ما أثبته الزنجاني بعنوان ( ترتيب السور في مصحف علي ) وقد طبع في لايبزيك عام ١٨٧١ م (٣).

ومع هذا فلا تختلف سور القرآن ونصوصه عن مصاحف المسلمين في شيء ، إلا أنه قد يجمع التأويل إلى جنب التنزيل ـ كما سترى هذا فيما بعد في دفع الشبهات ـ فيكون مصحفه قد اشتمل على التأويل الصادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبر به الإمام ، أو الصادر عنه هو بالذات مضافاً إلى أصل القرآن الكريم ، ومن قال بغير هذا فأهل البيت والإمامية براء منه.

ج ـ كيف يصح أن تكون هناك سور وآيات قد فاتت جميع المسلمين ، والقرآن منتشر بين ظهرانيهم ، ولم يستطع أحد أن يحفظ منها شيئاً ، وقد سبق لنا القول بأن حفاظ القرآن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمئات (٤).

__________________

(١) لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن.

(٢) ظ : فيما سبق : الفصل الثاني : نزول القرآن.

(٣) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : ٦٩ ـ ٧٣.

(٤) ظ : فيما سبق. الفصل الثالث : جمع القرآن.

١٥٧

د ـ إن ما قدمه المهاجرون والأنصار للإسلام والقرآن يعد مفخرة وأي مفخرة بحد ذاته ، فما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرادى أو مجتمعين ، حتى ينزل فيهم ما يسمها بالفضائح ، وهب أن معدودين تجاوزوا حدودهم ، فما نصنع بأولئك الذين يقول فيهم القرآن جهارا نهارا في سورة الفتح :

( محمَّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معه أشدَّاءُ على الكفَّارِ رحمآءُ بينَهُم تراهم ركَّعاً سُجَّداً يبتغونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً سيماهُمْ في وجوهِهِم من أثر السُّجودِ ذلك مَثَلُهُم في التَّوراةِ ومَثَلَهُم في الإنجيلِ كزرعٍ أخرج شطئَهُ فأزَرَهُ فاستغلَظَ فاستوى على سوقِهِ يُعجِبُ الزُّرّاعَ ليغيظَ بهمُ الكُفّارَ وَعَدَ الله الذين امنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً (٢٩) ) (١).

قال الاستاذ لبيب السعيد : « وعندي أن نسبة هذه المزاعم إلى الشيعة ـ بعامة ـ هو قول تنقصه الدقة فضلاً عن الصحة. فهذه طائفة من علماء الشيعة يتبرأون من هذه المزاعم » (٢).

٧ ـ روى المسور بن مخرمة : « قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : ( أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ) فإنا لا نجدها. قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن » (٣).

ويرد على هذه الرواية أمران :

الأول : ما هي القيمة الكبرى التي يتمتع بها عبد الرحمن بن عوف في المجتمع الإسلامي ـ آنذاك ـ ولا يتمتع بها عمر حتى يسأله عن شيء يجيبه به عبد الرحمن بأنه أسقط فيما أسقط من القرآن.

الثاني : من هؤلاء القوم الذين أسقطوا من القرآن ما هو منهم ، وكيف يصح التصديق بمثل هذه الأباطيل.

وهناك روايات تجري بهذا المضمار أعرضنا عن ذكرها ، ولا كبير أمر

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن : ٤٤٩.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ٢ / ٤٢.

١٥٨

بمناقشتها ، إذ لا تختلف عما تقدم إملاها الكذب والاستهانة بمقدرات الكتاب العظيم. وجميعها لا يشكل دليلاً واحداً مقنعاً على دعوى التحريف.

وفي نهاية هذا الجانب نشير أن صاحب كتاب المباني قد عقد فصلاً قيماً في مقدمته بعنوان الفصل الرابع : ( في بيان ما ادعوا على المصحف من الزيادة والنقصان والخطأ والنسيان والكشف عنها بأوجز بيان ).

وقد تتبع فيه هذا الباب تتبعا إحصائيا وفند فيه مزاعم التحريف (١).

رابعا : الاتهامات ، يبدو أن العصر العباسي الأول قد اختار لدوافع سياسية أن ينمي روح التفرقة والخلاف بين مختلف المسلمين ، وأن يخلق من قضايا جزئية متواضعة أمورا كلية مهمة ، فنشأ عن ذلك القول بخلق القرآن بين قدمه وحدوثه ، وما جر ذلك من الولايات بين المسلمين على أنها قضية فكرية ، ويومها وجدنا التيارات تتقاذف بالآراء على السطح ، لتصم هذا بالكفر تارة ، وغيره بالنفاق تارة أخرى ، وسواهما بالزندقة احياناً ، ونشأت هذه البذرة الخبيثة بين صفوف المسلمين ، ووجدت لها مناخا صالحا في تربة العصر العباسي الثاني ، حيث عمّق الفرقة ، وعصف بالوحدة ، فكانت الاتهامات المتبادلة تحبك بالظلام فتلقي بجرانها بين المسلمين ، فينقض هذا ما أبرم ذلك ، ويردّ ذلك على اتهامات ذه.

وقد وجدت مسألة القول بالتحريف من هذه المسائل ، إذ استثنينا القول بنسخ التلاوة ، فكل طائفة من المسلمين تنزه نفسها عن القول بها ، وبعض المذاهب تنسب القول بها إلى البعض الآخر ، وبالنتيجة تجد الجميع يبرؤون منها ، وهذا هو الصحيح.

فالقاضي ابو بكر الباقلاني ( ت : ٤٠٣ ه‍ ) يكيل في نكت الانتصار السباب والتهم دون حساب لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام في القول بالزيادة والنقصان وعقد لذلك عدة أبواب (٢) من كتابه لا تقوم على أساس علمي على الإطلاق ، ولا تخدم القرآن ولا المسلمين في كل الأحوال.

__________________

(١) مقدمتان في علوم القرآن : ٧٨ ـ ١١٦.

(٢) ظ : الباقلاني ، نكت الانتصار : ٩٥ ـ ٢٠٣ + ٢٣٩ ـ ٢٤٢ وغيرها.

١٥٩

بينما وجدنا الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) ينسب الزيادة والنقصان فيه إلى الحشوية من العامة (١).

إن ما يؤخذ به هو الاعترافات لا الشهادات التي نجدها هنا وهناك وقد لا تمثل واقعاً ، ولا تدفع شبهة ، إن الروايات المتقدمة لم يقل بها الإمامية ، ولم يؤيدها الجمهور ، والدفاع عنها ، أو تبني نسخ التلاوة منها ، يمهد السبيل إلى القول بالتحريف ، وردّها يعني تزييف مضاميينها.

أ ـ وفي هذا الضوء كان ماقرره السيد الخوئي جديراً بالاعتبار ، قال : «المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف ، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعظم وقد صرح بذلك كثير من الأعلام ، ومنهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية ، منهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وصرح بذلك في أول تفسير « التبيان » ونقل القول بذلك أيضاً عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى ، واستدلاله على ذلك بأتم دليل ، ومنهم المفسر الشهير بالطبرسي في مقدمة تفسيره « مجمع البيان » ، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر كاشف الغطاء في بحث القرآن من كتابه « كشف الغطاء » وادّعى الإجماع على ذلك ، ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه « العروة الوثقى » ونسب القول بعدم بالتحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاشاني في كتابيه ( الوافي وعلم اليقين ). ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي وفي مقدمة تفسيره « ألاء الرحمن ».

وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم ، منهم شيخ المشايخ المفيد ، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي ، والمحقق القاضي نور الله ، وأحزابهم » (٢).

ب ـ وتأسيسا على ما تقدم ، فقد نفى السيد المرتضى علم الهدى ( ت : ٤٣٦ ه‍ ) القول بالتحريف جملة وتفصيلا فقال : « إن العلم بصحة نقل

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ١٥.

(٢) الخوئي ، البيان : ٢٠٠ وما بعدها.

١٦٠