تأريخ القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

تأريخ القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

القرآن كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإن العناية اشتدت ، والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد ... إن العلم بتفسير القرآن وإبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما عم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني ، فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتى لو أن مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنه ملحق ، وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه ، أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعر » (١).

ج ـ قال الشيخ الطوسي ( ت : ٤٦٠ ه‍ ) في مقدمة تفسيره :

« المقصود من هذا الكتاب علم معانيه ، وفنون أغراضه ، وأما الكلام في زيادته ونقصانه فما لا يليق به أيضا ، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان منه ؛ فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق الصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى رحمه الله ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة ، من جهة الخاصة والعامة ، بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما وعملا ، والأولى الإعراض عنها ، وترك التشاغل بها ، لأنه يمكن تأويلها » (٢).

د ـ وقال الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) :

« ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنه لا يليق بالتفسير ،

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ١٥.

(٢) الطوسي ، التبيان : ١ / ٣.

١٦١

فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأما النقصان منه ، فقد روى جماعة من أصحابنا ، وقوم من حشوية العامة : أن في القرآن تغييرا أو نقصانا ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه ، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات » (١).

ه‍ ـ وتعرض أعلام المعاصرين للمسألة ويهمنا رأي كل من :

١ ـ السيد محسن الحكيم ، وهو يصرح : « إن سلف المسلمين كافة ، وعلماء الإسلام عامة ، منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا ، يرون أن القرآن في ترتيب سوره وآياته ، هو كما بين أيدينا ، ولم يعتقد أحد من السلف في التحريف » (٢).

٢ ـ السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي ، وهو يقول : « إن أي حديث ، حول أي تحريف في القرآن ، لا يعدو أن يكون خرافة ، فإن القرآن الكريم لم يعتره أي تغيير من أي نوع » (٣).

وفي ضوء ما تقدم من هذه الأقوال الصريحة من قبل أعاظم علماء الإسلام ، لا يبقى أدنى شك ، في أن لغة الاتهام والتهجم لا يكتب لها الاستمرار في التضليل ، لهذا فقد كان الدكتور محمد عبد الله دراز مخطئا إن لم يكن مفتريا بقوله : « ولقد ظن بعض الشيعة أن عثمان قد بدل في نص القرآن ، أو أنه على وجه التحديد أسقط شيئاً يتعلق بعلي بن أبي طالب » (٤).

فإنه لم يثبت مرجعا واحداً لاتهامه هذا بل على العكس من ذلك ، فقد أورد ما يناقض زعمه ، وأورد رأي الشيخ الطوسي بقوله :

« ومهما يكن من أمر ، فإن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي ـ بما فيه فرق الشيعة ـ منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان.

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ١٥.

(٢) (٣) لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن : ٤٥١ وما بعدها وانظره مصدره.

(٤) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن الكريم : ٣٩.

١٦٢

ونذكر هنا رأي الشيعة الإمامية ( أهم فرق الشيعة ) ، كما ورد بكتاب أبي جعفر الأم :

« إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر ، وعدد السور المتعارف عليه بين المسلمين هو (١١٤) سورة ، أما عندنا فسورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة ، وكذلك سورتا الفيل وقريش ، وأيضاً سورتا الأنفال والتوبة. أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب » (١).

وهنا يتجلى أن الاتهامات التي لا تستند إلى أصل وثيق ، تذهب أدراج الرياح.

خامسا : الشبهات ، قد يتذرع القائلون بالتحريف بتوافر بعض الشبهات الدالة على ذلك ، وليس في هذه الشبهات ـ كما سترى ـ أدنى دليل على ما يدعون ، وسنشير إلى أهمها ، ونتعقب ذلك بالرد والدفع والمناقشة (٢).

أ ـ إن التحريف سنة قد جرت في حياة الأمم السابقة ، والقرون الغابرة ، فاشتمل حتى على التوراة والإنجيل وسائر الكتب الدينية ، فلم لا يشمل القرآن ما شمل غيره.

وللرد على هذه الشبهة نرصد ما يلي :

١ ـ ليس من سنة الكون التحريف ، ولا من طبيعة خرق النواميس الحقة ، فموجده أتقن كل شيء صنعا ، وأنزله بمقدار ، ولا يمثل سنة الكون من يتلاعب بمقدارته من شعوب وأمم وقبائل وأجيال.

٢ ـ إن التوراة والإنجيل لم يتعهد الله سبحانه وتعالى ـ كشأن الكتب السماوية الأخرى ـ بحفظهما ، ولا بصيانتهما ، وإنما أوكل ذلك البشر ، محنة منه وابتلاء على طاعته أو معصيته ، فاستحفظ على ذلك الأحبار والربانيين بدلالة قوله تعالى :

__________________

(١) المرجع نفسه : ٣٩ وما بعدها ، وانظر مصادره.

(٢) ظ : الخوئي ، البيان : ٢٢٠ وما بعدها في ذكر مجمل ومفصل هذه الشبه.

١٦٣

( إنّا أنزلنا التوراةَ فيهَا هدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيُّونَ الذينَ أسلَمُوا للَّذينَ هادُوا والرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ بما استُحفظُوا من كتابِ اللهِ وكانُوا عليهِ شهدآءَ فلا تخشَوا النَّاسَ واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكُم بما أنزلَ اللهُ فأولئك هم الكافرونَ (٤٤) ) (١).

٣ ـ إن القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي فوجب حفظه تأبيداً ، وتلك الكتب جاءت للبيان التوقيتي فلا يستلزم حفظها كحفظه ، ولم يرد أنها نازلة على سبيل الإعجاز والتحدي.

ب ـ هناك روايات تشير صراحة إلى أن كل ما وقع في الأمم السابقة ، لا بد أن يقع في هذه الأمة ، ومنه التحريف ، بدلالة ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل ما كان في الأمم السالفة ، سيكون في هذه الأمة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة » (٢).

وغير هذه من الروايات الدالة على هذا المعنى ويرد عليها ما يلي :

١ ـ إن هذه الروايات أخبار آحاد ، ولم يدع فيها التواتر ، وإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تفيد علماً ولا عملاً.

٢ ـ على فرض صحة هذه الروايات فإنها تدل على مشابهة الأحداث من بعض الوجوه بين الأمم لا في كل جزئياتها وتفصيلاتها فإن وقع التحريف عندها في كتبها ، فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن وإن أقاموا حروفه (٣).

٣ ـ هناك كثير من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة ولم تقع في أمة محمد ، ولم تصدر من المسلمين أمثالها ونظائرها ، كعبادة العجل ، وتيه بني إسرائيل ، وغرق فرعون ، وملك سليمان عليه‌السلام ، ورفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء ، وموت هارون عليه‌السلام وهو وصي موسى عليه‌السلام قبل موت موسى عليه‌السلام نفسه ، وولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب ، وعذاب الاستئصال وغيرها (٤).

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) المجلسي ، بحار الأنوار : ٨ / ٤.

(٣) (٤) ظ : الخوئي ، البيان : ٢٢١.

١٦٤

ج ـ تشير روايات الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام إلى أن علياً كان له مصحف غير المصحف المتداول ، وهذا يعني التغاير بين المصحفين ، أو فرضية الزيادة والنقصان بين النصين ، وروايات هذا الباب كثيرة ، أبرزها ، قول الإمام عليعليه‌السلام :

« يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد عندي بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط يدي ، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد وكل حلال أو حرام ، أو حد ، أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط يدي ، حتى أرش الخدش ... (١).

ومنها ما في احتجاجه عليه‌السلام على الزنديق من أنه : « أتى بالكتاب كملا مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه ألف ولا لام ، فلم يقبلوا ذلك » (٢).

ومنها ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « سمعت أبا جعفر يقول ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم‌السلام » (٣).

وفي التوفيق بين هذه الروايات وبين نفي التحريف عن القرآن الكريم ، نرى أن الإمام علي عليه‌السلام ـ كما أسلفنا القول ـ (٤) قد جمع القرآن وفق ترتيب خاص ، جمع فيه إلى جنب التنزيل التأويل ، وفصل فيه بين الناسخ والمنسوخ ، ورتب فيه السور أو الآيات ترتيبا تأريخيا بعناية زمن النزول ، ولكن لا يعني ذلك أي اختلاف أو تناقض بين ما جمعه وبين القرآن ، وقد يستفاد من جملة روايات أخرى أنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع كونه مجموعاً في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وفق هذا الترتيب الذي لو صح ، لقلنا إن ترتيب القرآن اجتهادي ، أو أن الإمام علي عليه‌السلام قد علم من

__________________

(١) ظ : الخوئي البيان : ٢٢٢ وما بعدها وانظر مصادره.

(٢) (٣) المصدر نفسه : ٢٢٢ وما بعدها.

(٤) ظ : فيما سبق ، الفصل الثاني نزول القرآن : + الفقرة : ٦ من هذا الفصل.

١٦٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يعلمه غيره ، فكان أن جمع القرآن كما أنزل ، فقد روى السدي عن عبد خير عن الإمام علي :

« إنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداء حتى يجمع القرآن ، قال : فجلس في بيته حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن ، جمعه من قبله ، وكان عند آل جعفر » (١).

وليس في جميع الروايات دلالة على أن المجموع من قبل علي يختلف عن نص القرآن المتداول اليوم ، إذ لو كان مخالفا له في شيء لظهر أيام خلافته أو عند ورثته من الأئمة عليهم‌السلام ، فلما لم يكن من هذا شيء يذكر ، علمنا سلامة القرآن.

د ـ وهناك بعض الروايات عن الأئمة تدل بظاهرها على التحريف ، منها ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون ، المصحف والمسجد والعترة. يقول المصحف : يا رب حرفوني ومزقوني ، ويقول المسجد : يا رب عطلوني وضيعوني ، وتقول العترة : يا رب قتلونا وطردونا ، وشردونا » (٢).

ومنها قول الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام : « أؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه » (٣).

ولا دليل في هذه الروايات على التحريف بالمعنى المشار إليه ، فهي تحمل أن القرآن قد حرّف بحدوده وضوابطه ، فهو لا يعمل به ، ولم يحرف بنصوصه وأصوله ، فهي ثابتة لم تتغير ، وسالمة لم تتحرف ، أما أن القرآن لا يعمل به ، ويشتكي غدا عند الله ، فهو ما تحمل عليه هذه الروايات دون سواه من المفاهيم.

ه‍ ـ وهناك شبهة تتلخص في أن كيفية جمع القرآن ـ بحسب روايات الجمع الموهوم ـ بشهادة الشهود ، وإقامة البينة ، تستلزم نسيان بعض

__________________

(١) الخوئي ، البيان : ٥٠٣.

(٢) (٣) المصدر نفسه : ٢٨٨ وانظر مصادره.

١٦٦

القرآن ، إما بموت من معه شيء من القرآن فضاع ، وإما على سبيل السهو والخطأ ، وعدم الضبط ، شأنه في ذلك شأن المجاميع الأخرى التي تتعرض للطوارئ.

والإجابة عن هذه الشبهة ودفعها ، نرى أن القرآن ـ كما سبق بيانه ـ (١) قد جمع متكاملاً على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتفت الشبهة جملة وتفصيلاً.

قال السيد المرتضى علم الهدى ( ت : ٤٣٦ ه‍ ) :

« إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعاً ، مؤلفاً على ما هو عليه الآن ، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدة ختمات ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث ، وأن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم ، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ، ظنوا صحتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته » (٢).

سادساً : المحاولات ، ما زلت أتذكر ، قبل عشرين عاماً خلت ، ونحن طلبة في الجامعة ، أن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد عبد الستار الجواري عضو المجمع العلمي العراقي ، قد لفت أنظارنا ـ من على كرسي التدريس ـ إلى حادث خطير ، يجب على العرب والمسلمين أن يحتدوا طاقاتهم لمحاربته ، والوقوف بحزم يدا واحدة لصده ، وهو قيام إسرائيل بمحاولة جادة لتحريف القرآن. وأتذكر أيضا أننا أصبنا بما يشبه وقع الصاعقة ، وقلبنا وجوه الاحتمالات في الموضوع ، وبعد حين ظهر صدق الحديث ، فقد جاء في الإعلام المصري ما يؤيد هذا النبأ الجلل ، وقرأنا آنذاك عن الخطوات التي اتخذت تجاهه.

__________________

(١) ظ : فيما سبق ، الفصل الثالث ـ جمع القرآن.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ١٥.

١٦٧

١ ـ في أيلول عام ١٩٦٠ م أفادت أنباء القاهرة : أن إسرائيل قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم ، وقد أدخلت عليها التحريف ، وذلك بإحداث أكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمد ، في طبعة محرفة للقرآن ، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرفة في جملة من البلدان الآسيوية والإفريقية ، كالمغرب ، وغانا ، وغينيا ، ومالي ، ودول أخرى. وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة ، فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة ، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرفة (١).

٢ ـ وكان نتيجة هذا العمل اطلاعنا على أبرز مظاهر التحريف المهمة ، وهي كالآتي :

أ ـ حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم ، ومنع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة :

( لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذينَ لم يقاتلوكُمْ في الدِّينِ ولم يخرجوكُم من دياركُمْ أن تبرُّوهُم وتقسطوا إليهم إنَّ اللهَ يحبُّ المقسطينَ (٨) إنما ينهاكُمُ اللهُ عن الّذين قاتلوكُمْ في الدِّينِ وأخْرَجوكُم من دياركُمْ وظاهَرُوا على إخراجِكُمْ أن تولَّوْهُمْ وَمَن يتولهم فأولئك هُمُ الظَّالمونَ (٩) ) (٢).

ب ـ حذف كلمة « غير » لينقلب المعنى عكسياً من قوله تعالى :

( ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يقبَلَ منه وهو في الآخرةِ من الخاسرينَ (٨٥) ) (٣).

ج ـ حذف كلمتي « ليست » من الآية الكريمة :

( وقالتِ اليهودُ ليستِ النَّصارى على شيءٍ وقالتِ النَّصارى ليستِ اليهودُ على شيءٍ ... (١٣) ) (٤).

__________________

(١) ظ : جريدة الأهرام القاهرية عدد : ٢٨ ديسمبر ١٩٦٠ + مجلة آخر ساعة ، عدد : ١١ يناير ١٩٦١ م ، للمقارنة.

(٢) سورة الممتحنة : ٨ ـ ٩.

(٣) سورة آل عمران : ٨٥.

(٤) سورة البقرة : ١١٣.

١٦٨

د ـ إبدال عبارة « والله عزيز حكيم » بعبارة « والله غفور رحيم » من قوله تعالى :

( السَّارقُ والسَّارقَةُ فاقطعُوا أيديَهُمَا جزاءَ بما كَسَبَا نكالاً من اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ (٣٨) ) (١) (٢).

٣ ـ لقد أحدث هذا العمل ضجة في الجمهورية العربية المتحدة دون سواها من البلدان العربية والإسلامية آنذاك ، وكان دور الأستاذ الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر رحمه الله ، دورا كبيرا مشرفاً فبالإضافة إلى تشاوره مع وزير الأوقاف المصري في الإجراءات الإحترازية لصد هذه الظاهرة ، وذلك بتشكيل لجنة مشتركة لمراجعة المصحف المحرّف ، وتعرية الأخطاء المطبعية المتعمدة ، وتحذير المسلمين من تداوله ، فقد أرسل ببرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر يستشير حميته وغيرته ، ومما جاء فيها :

« إن إسرائيل التي قامت على البغي والطغيان والاعتداء على المقدرات والمقدسات ما زالت تعيش في هذا العبث ، وتحيا في إطار هذا الطغيان ، وإنها ـ بتحريفها القرآن الكريم ـ تريد القضاء على معتقداتنا وديننا ، وهي بذلك تمارس ما كان عليه آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه ابتغاء كبت الدعوة الإسلامية وإعاقتها.

إن المسلمين في أنحاء الأرض يهرعون إليكم ـ وكلهم أمل في قوة إيمانكم ، وغيرتكم على دينكم ـ أن تعملوا على حفظ كتاب الله ، فتقفوا في وجه هذا العدوان الأثيم ... » (٣).

٤ ـ وفيما عدا مصر لم نجد صوتا حيويا للبلاد العربية والإسلامية لشجب هذا الاعتداء الساخر ، باستثناء الإفتاء السوداني ، والحكومة الأردنية.

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) ظ : في المقارنة بين ما أوردناه في كل من : سليمان حسف عبد الوهاب ، تحريف اليهود للقرآن قديماً وحديثاً ، مقال في مجلة منبر الإسلام المصرية ، عدد جمادى الآخرة ، ١٣٨٥ + لبيب السعيد ، الجمع الصوتي للقرآن : ٤٧٣ وما بعدها.

(٣) جريدة الأهرام عدد : ٢٩ ديسمبر ١٩٦٠ + جريدة الجمهورية القاهرة بالتأريخ نفسه.

١٦٩

فقد أمر مفتي الديار السودانية موظفي المحاكم الشرعية وأصحاب المكتبات العامة بضرورة مراجعة المصاحف قبل تداولها للتأكد من سلامتها من التحريف ، وذلك عن طريق تسرب هذا المصحف الذي نشرته إسرائيل (١).

وأصدرت الحكومة الأردنية بيانا استنكرت فيه جريمة التحريف ، وبيّنت عرض إسرائيل على الدول الإفريقية التي وزعمت فيها المصحف المحرف ، أن ترسل لها من يقوم بتدريس اللغة العربية في إطار النسخة المشوهة من المصحف (٢).

ولم تنجح المؤامرة الإسرائيلية في تحريف القرآن ، إذ تم اكتشاف الجريمة مبكراً ، وأمكن القضاء عليها في مهدها ، وتنبه المسلمون في شرق الأرض وغربها إلى هذه الحركة ، فعزلت هذه النسخ المزورة وقضي عليها قضاء نهائياً.

٥ ـ ولقد كان حدثاً عالمياً كبيرا ما توصل إلى ابتكاره الأصيل ، الأستاذ لبيب السعيد من تفكيره في تسجيل المصحف المرتل ، وبعد محاولات ومشاريع وأوليات وعقبات ، تم تسجيل القرآن الكريم كاملاً ، وحفظ صوتاً مسموعاً مرتلاً برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، بصوت المرحوم الشيخ محمود خليل الحصري ، عدا تسجيلات سواه من القراء ، وخصصت مصر وإلى اليوم إذاعة خاصة يتلى بها ليل نهار اسمتها : إذاعة القرآن الكريم.

لقد تم هذا الحدث في صورته النهائية التنفيذية في : ٢٣ يوليو ١٩٦١ (٣).

وتقرر توزيع اسطوانات المصحف المرتل في الدول التي وزعت فيها اسرائيل المصاحف المحرفة (٤).

__________________

(١) ظ : جريدة المساء القاهرية ، عدد : ١٠ فبراير ، ١٩٦١ م.

(٢) ظ : جريدة الأخبار القاهرية ، عدد : ٨ أبريل ١٩٦١ م.

(٣) ظ : لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم : ١١٤.

(٤) ظ : جريدة الجمهورية القاهرية ، عدد : ٢ يناير ١٩٦١ م.

١٧٠

وكأنما جاء هذا الحدث ردا حاسماً لدرء محاولة التحريف.

وبذلك تحقق لسلامة القرآن الكريم عاملان : الكتابة في المصحف كما نزل ، والتلاوة على الأسماع من خلال المصحف المرتل تسجيلاً كاملاً ، محافظا فيه على أصول القراءة ، وشرائط العربية ، وترتيل الصوت ، ذلك مضافاً إلى الحفظ المتجاوب معه في الصدور.

لقد تحقق في هذا الزمان بالذات ، وهو زمان ابتعد عن القرآن ، ما لم يتحقق له في الأزمان السالفة ، من ضبط وشكل ، ورسم ، وقراءة ، وتلاوة ، وطباعة ، وعناية من كل الوجوه ، بما يتناسب مع التأكيد الإلهي بقوله تعالى :

( إنّا نحنُ نزَّلنَا الذكْرَ وإنَّا له لحافظونَ ) (١).

وذلك من معاجز القرآن وأسراره.

__________________

(١) سورة الحجر : ٩.

١٧١
١٧٢

خاتمة البحث

١٧٣
١٧٤

كنت فيما سبق ، قد توخيت الدقة في البحث ، والموضوعية في الاستنتاج ، والحيطة في المقارنة ، فعرضت أمهات المسائل ، وأثرت عشرات الجزئيات ، وانتهيت إلى العديد من النتائج ، وكان الرائد الأول في جميع ذلك هو استقراء الحقيقة وحدها ، وما يدريك فلعلي قد أصبت الهدف ، ولعلي قد أخطأت التقدير ، والله أعلم وهو المسدد إلى الصواب.

مهما يكن من أمر ، فقد توصلت إلى بعض المؤشرات في النتائج يمكن إجمالها ـ بكل تواضع ـ على الشكل الآتي :

١ ـ انتهينا في الفصل الأول من معالجة ظاهرة الوحي معالجة علمية ، فرقنا فيها بين الوحي والكشف والإلهام ، ووجدنا الوحي عملية مرتبطة بحوار ثنائي : بين ذات أمرة ، وذات متلقية ، ورأينا ظاهرة الوحي مرئية ومسموعة ، ولكنها خاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده.

ولم يكن الوحي ظاهرة ذاتية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إطلاقاً ، بل كانت منفصلة عنه انفصالاً تاماً ، ربما صاحبه من خلالها إمارات خارجية في شحوب الوجه أو تصبب الجبين عرقا ، ولكنها إمارات لم تكن لتمتلك عليه وعيه نهائياً ، وكان الداعي لبحث ذلك هو الرد على هجمات طائفة من المستشرقين الذين يرون الوحي نوعا من الإغماء ، أو مثلاً من التشنج ، والأمر ليس كذلك ، بل هو استقبال لظاهرة ، أعقبه هذا الوقع ، استعداد للنشر والتبليغ. بعد هذا أرسينا مصطلح الوحي على قاعدة من الفهم القرآني.

٢ ـ انتهينا في الفصل الثاني من تحديد بداية نزول القرآن زمنياً ، وتعيين ما نزل منه أول مرة ، ثم أشرنا للنزول التدريجي ، وضرورة تنجيم القرآن ، وعالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها ، وتقييم

١٧٥

لأبعادها ، وأوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول ، وتعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي ومدني ، وسلطنا الضوء على ضوابط السور المكية والمدنية ، وحمنا حول أسباب النزول وقيمتها الفنية ، وما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانياً ومكانياً ، وتتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولاً بأول ، وما نزل بالمدينة أولاً بأول ، معتمدين على أصح الروايات وأشهرها ، أو بما يساعد عليه نظم القرآن وسياقه ، وختمنا الفصل بجدول إحصائي إستقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي والمصحفي والزماني والمكاني.

٣ ـ وانتهينا في الفصل الثالث إلى القول : بأن القرآن الكريم قد كان مجموعاً في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل ومدونا في المصحف ، وذلك بمناقشة روايات الجمع وغربلتها ، وكانت أدلتنا في هذا الحكم هو سيل الروايات المعتبرة ، ووجود مصاحف في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظاهرة الختم والإقراء في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودليل الكتابة وتواتر الكتاب ، وأدلة قطعية أخرى مما يؤكد لنا جمع القرآن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان القصد وراء ذلك إبراز القرآن سليماً من الوجوه كافة ، يحضى بعناية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإشارة من الوحي ودليل من الكتاب ، وكان مصحف أبي بكر يتسم بالفردية لا بالصفة الرسمية ، وانتهينا في ذلك إلى رأي قاطع بالموضوع ، وبحثنا جمع عثمان للمصحف ، فكان توحيدا للقراءة ، وإلغاء للاختلاف ، وكان هذا التوحيد هو النص القرآني الوحيد الذي لا يختلف في صحته إثنان.

٤ ـ وانتهينا في الفصل الرابع إلى : اعتبار الشكل المصحفي ، وطريق الرواية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعدد لهجات القبائل ، مضافاً إلى المناخ الإقليمي القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة ، أسسا قابلة للاجتهاد والأثر في تعدد القراءات القرآنية ، وانتهينا إلى أن الاختلاف كان في الأقل ، والاتفاق في الأكثر ، وحددنا وجهة النظر العلمية تجاه القراء السبعة والقراءات السبع ، وأعطينا الفروق المميزة بين القراءة والاختيار ، وأوردنا مقاييس القراءة المعتبرة ، وأشرنا إلى تواتر هذه القراءات عند قوم ، وإلى اجتهاديتها عند قوم آخرين ، وفرقنا بين حجية هذه القراءات ، وبين جواز الصلاة فيها ، بما كان فيه بحق بحثاً طريفاً جامعاً لشؤون القراءات كافة.

٥ ـ وانتهينا في الفصل الخامس إلى : تحقيق القول في شكل القرآن

١٧٦

ورسمه ، وبحث جملة الزيادات التوضيحية ، ولاحظنا ما أسداه أبو الأسود الدؤلي ، وما ابتكره في إعجام القرآن ونقطه حتى تيسر للخليل بن أحمد الفراهيدي أن يشاركه هذه المكرمة.

وقد وجدنا توسع المسلمين وتجوزهم بوضع التحسينات على الخطوط بقصد معرفة النص وإيضاحه ، ونعيهم على من منع ذلك دون مسوّغ ، ثم وجدنا الرسم المصحفي وهو يحتل مكانته بشيء من المغالاة حيناً ، والتقديس غير المعقول حيناً آخر ، وظهر لنا أن الرسم ليس توقيفياً ، وإنما الخط المصحفي كان باجتهاد ممن كتب ، ولم تكن صناعتهم في هذا الفن متكاملة ، فكان ما قدموه من سنخ ما يحسنون لا أكثر ولا أقل ، وتعقبنا ظاهرة استنساخ القرآن الكريم حتى وقفنا بها عند حدود انتشار القرآن في الطباعة الأنيقة النموذجية.

٦ ـ وانتهينا في الفصل السادس إلى : القول بسلامة القرآن وصيانته من التحريف ، وتوثيق النص القرآني جملة وتفصيلا ، وناقشنا شبه القائلين بالتحريف ، فزيفنا الادعاءات ، ودحضنا الافتراضات ، وعالجنا الروايات فكانت أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، وناقشنا الاتهامات ، وفندنا الشبهات ، وتعقبنا المحاولات ، وخلصنا من وراء ذلك إلى إنجاز الوعد الإلهي بحفظ القرآن.

ما قدمناه خلاصة مركزة في « تأريخ القرآن » آثرنا فيها المعاناة على الدعة ، والمواجهة على الاستكانة فعادت صفحات مشرقة فيما نعتقد ، أخلصنا فيها القصد لخدمة كتاب الله ، فإن أصبنا الحقيقة فذلك ما نتمناه ، وإن كانت الأخرى ، فلي من حسن النية ما يسدد الزلل.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين

النجف الأشرف / كلية الفقه

الجامعة المستنصرية

د. محمد حسين علي الصغير

١٧٧
١٧٨

المصادر والمراجع

١٧٩
١٨٠