تراثنا ـ العدد [ 132 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 132 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣٣٤

إذاً كثرت جهود الشيخ النقدية وتنوّعت وتعدّدت مصادره في النقد ، وعلى الرغم من هذا التنوّع والتعدّد ، إلاّ أنّ هناك خيطاً يجمعها هو أسلوب الشيخ في النقد ، ومن أبرز ملامح هذا الأسلوب هو المنهج الذوقي ، فقد امتلك حاسّة من الذوق المدرّب الذي استطاع من خلاله أن يميّز بين الجيّد والرديء في الأعمال التي تناولها بالدراسة والتحليل ، ومنها نقوده الأدبية التي اشتمل عليها كتابه (مختار من شعراء الأغاني) ولا عجب في ذلك «فالإمام كاشف الغطاء أديب بأدقّ معاني كلمة الأدب ، فقد كتب في جملة من الأنواع الأدبية ، وبرع في أكثر من فنّ ، وما خطبه وكتبه ومقالاته وكلماته إلاّ دليل ذلك»(١).

لقد اختار الشيخ من شعره المختار ما يعطي القارئ فيه صورة عن منزلته الشعرية ونواحي امتيازه فيه ، وهذه ناحية مهمّة في تقريب الإفهام من تلك العصور المشرقة ... فإنّه ليس من المتيسّر على كلّ قارئ تناول تلك الموسوعات(٢).

أمّا عن المنهج المتّبع في هذا الكتاب فقد وضع خطوطه نجله الشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء في قوله : «وقد انتهج سماحته في الاختصار الأمور التالية : حذف السند ، واختصار النسب ، وذكر الأخبار المهمّة ، وحذف النوادر التافهة والماجنة ، وانتخاب الجيّد من نظم الشاعر ، وذكر أبياتاً قليلة من

__________________

(١) أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف : ٢٢٧.

(٢) ينظر مقدّمة مختار من شعراء الأغاني : ٤.

٢٦١

القصائد المشهورة»(١).

لقد كان الشيخ يأخذ على أبي الفرج الأصفهاني اختياره لأشعار يرى أنّها ليست من القوّة والمنزلة الشعرية ، ومن ذلك حديثه عن أبي الأسود الدؤلي في قوله :

«ثمّ إنّ أبا الفرج ذكر جملة وافية من شعره ولكنّه ليس بتلك القوة والمتانة ، ونحن نذكر ما ننتخبه من أشعاره ، وجميع ما أورده من شعره إنّما كان في وقايع خاصّة ، ولكنّه لا يخلو أكثره عن حكم وآداب»(٢).

ومن ملامح النقد عند الشيخ ميله إلى الأسلوب الواضح ، فقد كان الشيخ يرفض الشعر المعقّد والغامض ، وذلك لأنّه يؤمن بقضية أنّ الشعر رسالة ، ومطلوب منه أن يوصل هذه الرسالة إلى كافّة الطبقات ، فهو مع الشعر الهادف والموجّه ، لهذا نجده يستنكر على بعض الشعراء استعمال الأسلوب المعقّد ، الذي يبعد الفكرة ، ويكد الذهن ، ويحتاج من المتلقّي أن يفسّر النصّ حتّى يصل إلى مراده ، وقد ورد هذا في تعليقه على أبيات من الشعر اختارها صاحب الأغاني ومنها :

وَأَهوَجَ مِلجاج تَصامَمتُ قيلَهُ

أَن اسمَعَهُ وَما بِسَمعىَ مِن باسِ

وَلَو شِئتُ ما أَعرَضتُ حَتّى أَصَبتُهُ

عَلى أَنفِهِ خَدباءَ تَعضِلُ بِالآسي

فَإِنَّ الِلسانَ لَيسَ أَهوَنُ وَقعِهِ

بِأَصغَرَ آثاراً مِنَ النَحتِ بِالفاسِ

وَذي إِحنَّة لَم يُبدِها غَيرَ أَنَّهُ

كَذي الخَبلِ تَأبى نَفسُهُ غَيرَ وَسواسِ(٣)

__________________

(١) المنتخب من شعراء الأغاني : ٦.

(٢) المختار من شعراء الأغاني : ١٠.

(٣) مختار من شعراء الأغاني : ١١.

٢٦٢

فقد علّق الشيخ كاشف الغطاء عليها بقوله :

«وهذه الأبيات أكثرها في غاية التعقيد ، وكذا أكثر شعره ، وليته حين أخذ النحو عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أخذ منه علم المعاني والبيان حتّى يفصح في بيان ما يريد»(١).

إذاً الشيخ لاحظ أنّ هذا الشعر يندرج ضمن شعر العلماء الذي يفتقر أحياناً إلى الصورة الفنّية المؤثّرة ، لهذا يؤكّد على مسألة مهمّة وهي أنّ الشاعر عليه أن يتقن فنّ البلاغة العربية ، لأنّه من خلالها يستطيع أن ينتقي الصور الفنّية المؤثّرة التي تستند إلى فنون البلاغة البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام كاشف الغطاء تنبّه إلى مسألة دقيقة تتعلّق بصحّة نسبة الأبيات الشعرية إلى قائليها ، وهي قضيّة مهمّة من قضايا النقد الأدبي ، فعلى الناقد أن يتأكّد من قائل الأبيات الشعرية قبل القيام بعملية النقد والدراسة لأي نصّ من النصوص ، وهي تعدّ الخطوة الأولى ، وقد ورد هذا في حديثه عن الشاعر (ديك الجنّ)(٢) الذي ترجم له صاحب الأغاني واختار له من الأبيات قوله :

__________________

(١) المختار من شعراء الأغاني : ١٢. والأبيات منسوبة إلى أبي الأسود الدؤلي ، ينظر الديوان : ٩٦ وكتاب الأغاني : ٢ / ١٤٣.

(٢) ديك الجنّ لقب غلب عليه ، واسمه عبد السلام ، وهو شاعر مجيد يذهب مذهب أبي تمّام في شعره وهو من شعراء الدولة العبّاسية وكان من ساكني حمص ، وكان يتشيّع تشيّعاً حسناً.

٢٦٣

يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها

وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها

رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما

رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها

قَدْ باتَ سَيْفي في مَجَالِ وِشَاحِها

ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها

فَوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وَطِىَ الحَصَى

شَيء أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها

ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ

أَبكي إذا سَقَطَ الذُّبَابُ عَلَيْها

لكنْ ضَنَنْتُ على العيونِ بِحُسْنِها

وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الحَسُود إِليها(١)

فقد علّق عليها الإمام كاشف الغطاء بقوله :

«وذكر أبو الفرج هنا أنّ هذا الأبيات تروى لغير ديك الجنّ وذكر قصّة لها ... أقول : ولكن الأبيات المتقدّمة إلى شعر ديك الجنّ أقرب ، وهي بأسلوبه ألصق وأنسب ، كما تشهد بذلك بقيّة مراثيه مثل قوله :

أَشْفَقْتُ أَنْ يَرِدَ الزَّمانُ بِغَدرِهِ

أَوْ أُبْتَلى بَعْدَ الوِصَالِ بَهَجْرِهِ

قَمَرٌ أَنا اسْتَخْرجُتُهُ مِنْ دَجْنِهِ

لِبَليّتي وجَلَوْتُهُ مِنْ خِدْرِهِ

فقتلتُهُ ولَهُ عَلَيَّ كَرامَةٌ

مِلء الحَشا ولهُ الفُؤادُ بأَسْرِهِ

عَهْدِي بِهِ مَيْتاً كأَحْسَنِ نائم

والحُزْنُ يَسْفَحُ عَبْرَتي في نَحْرِهِ

لَوْ كانَ يَدري الميْتُ ماذا بَعْدَهُ

بالحىِّ حَلَّ بَكَى لهُ في قَبْرِهِ

غُصَصٌ تكادُ تغيظ مِنها نَفْسُهُ

وتكادُ تُخْرِجُ قَلْبَهُ مِنْ صَدْرِهِ»(٢)

__________________

(١) الأبيات في الديوان : ١٦٦ ، والمختار من شعراء الأغاني : ١٥٨ ، والأغاني : ٤ / ٢٢٣.

(٢) مختار من شعراء الأغاني : ١٥٩.

٢٦٤

نلاحظ أنّ الإمام محمّد حسين رحمه الله يلجأ إلى خبرته ومعرفته الفنّية بأسلوب الشاعر ديك الجنّ ليحكم على نسبة الأبيات إليه وليس إلى غيره كما رأى الأصفهاني ، أي أنّ لكلّ شاعر أسلوب خاصّ به ، وقد كان المعيار هنا هو الاحتكام إلى طريقة الشاعر في الرثاء واستعماله للمفردة الشعرية ، كلّ هذه القرائن مكّنت من الحكم على الأبيات الشعرية التي مرّ ذكرها.

أمّا عن النقد الذوقي فقد كثر عنده ، ومن أمثلة ذلك حديثه عن الأبيات الجيّدة عند الشاعر ديك الجنّ في قوله :

«ومن جيّد شعره قوله من قصيدة طويلة يرثي بها جعفر بن علي الهاشمي :

على هذهِ كانتْ تَدورُ النّوائِبُ

وفي كُلِّ جَمْع للذَّهَابِ مَذَاهِبُ

نَزَلْنَا على حُكْمِ الزَّمانِ وأَمرِهِ

وهل يَقْبَلُ النَّصْفَ الألَدُّ المُشَاغِبُ

وتَضحكُ سِنُّ المرْءِ والقلبُ مُوجَعٌ

ويرضى الفَتَى عن دَهْرِهِ وهوَ عاتِبُ

أَلاَ أَيُّها الرُّكْبانُ والرَّدُ واجبٌ

قِفُوا حَدِّثُونا ما تَقُولُ النّوادِبُ

إلى أَيِّ فِتْيانِ النّدى قَصَدَ الرَّدى

وأَيُّهُمُ نابَتْ حِمَاهُ النّوائِبُ

فيَا لأَبي العَبّاسِ كَمْ رُدَّ راغبٌ

لِفَقْدِكَ مَلهوفاً وكَمْ جُبَّ غَارِبُ»(١)

__________________

(١) المختار من شعراء الأغاني : ١٦٢ ـ ١٦٣. وقد لاحظ بعض الباحثين وجود ظاهرة النقد الذوقي في نتاج الشيخ في قوله : «الذوق الرفيع السليم ودقّة الحسّ ، ولا بدّ أن يكون متوقّد الفكر ، ثاقب الرأي والبصيرة ، وحنكته الحياة ، ويمتلك ثقافة فنّية واسعة

٢٦٥

على الرغم من عدم ذكر السبب الذي يقف وراء اختيار الشيخ لهذه القصيدة إلاّ أنّ كلّ صاحب ذوق يدرك جيّداً القيمة الفنّية التي تشتمل عليها ، بدءاً من التصوير الفنّي إلى العبارات الشعرية التي تتناسب والغرض الشعري في انسجام تامّ ، فضلاً عن المعاني الشريفة التي ضمّنها الشاعر قصيدته.

ويبدو أنّ الشيخ محمّد حسين كان يميل إلى الشعر الرقيق دون غيره من الأغراض الشعرية ، ويكشف عن هذا تعلياقته النقدية التي تناثرت في مختاراته من كتاب الأغاني جاء هذا في حديثه عن الشاعر قيس بن ذريح :

«وله أشعار كثيرة أغلبها يشتمل من الرقّة على ما يقطع قلب الصخر ، ويحقّ لو بكت الخنساء به على قائلها وعلى صخر ، فمن مشجياته قوله :

إذا خَدِرَت رِجلي تَذَكَّرتُ مَن لَها

فَنادَيتُ لُبنى بِاِسمِها وَدَعَوتُ

دَعَوتُ الَّتي لَو أَنَّ نَفسي تُطيعُني

لَفارَقتُها مِن حُبِّها وَقَضَيتُ

بَرَت نَبلَها لِلصيدِ لُبنى وَرَيَّشَت

وَرَيَّشتُ أُخرى مِثلُها وَبَرَيتُ

فَلَمّا رَمَتني أَقصَدَتني بِسَهمِها

وَأَخطَأتُها بِالسَهمِ حينَ رَميتُ

وَفارَقتُ لُبنى ضَلَّةً فَكَأَنَّني

قُرِنتَ إِلى العُيّوقِ ثُمَّ هَوَيْتُ

فَيا لَيتَ أَنّي مِتُّ قَبلَ فِراقِها

وَهَل تَرجِعَن فَوتَ القَضِيَّةِ لَيتُ»(١).

__________________

في أنواع الفنون وطبيعتها وخاصّة إيقاع الأصوات ودلالاتها وسرّ البناء وحقيقته ، فيهتمّ ببناء النصّ والمضمون في وحدة واحدة ، من دون ميل لكفّة أو أخرى ، فيعتمد المنهج الفنّي في النقد» ينظر المنهج النقدي للإمام كاشف الغطاء في (مراجعاته الريحانية) : ٣٠٦.

(١) مختار من شعراء الأغاني : ٢٤ ، والأبيات في الديوان.

٢٦٦

وحديث الإمام هنا يتعلّق بقضيّة الصدق الفنّي في الشعر ، فهو قد لاحظ أنّ الأبيات قد امتازت بأنّها أشدّ إرهافاً وتأثيراً في المتلقّي نتيجة قوّة الانفعال وعمقه ، وأنّ الشاعر امتلك القدرة على نقل عاطفته في نوع من الأداء يثير الإحساس والمشاعر الوجدانية ، ومن ثمّ حقّق الخاصّية الفنّية في الأداء ، وهي سمة يشترك فيها الشعراء المبدعون أمثال قيس بن ذريح ، ومن الباحثين من يرى أنّ «السبب هو أنّ الفنّ لا يقتصر على علاج مشاكل وقتية ، أو قضاء مصالح جزئية في هذا الجانب أو ذاك من حياتنا ،بل هو يتناول هذه الحياة نفسها ، فينفذ إلى صميمها ويضرب أعمق جذورها ، وهو يزيدنا فهماً للحياة الإنسانية نفسها ، إذ يتعمّق عواطفنا فيها ، وردّ فعلنا على تجاربنا فوق ظهر هذه الأرض»(١).

__________________

(١) محاضرات في عنصر الصدق في الأدب : ٢٠.

٢٦٧

المبحث الخامس

ملامح الالتزام في أدب الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء

مرّت كلمة الأدب بمراحل متعدّدة ، وذهب بعض الباحثين إلى أنّ هذه الكلمة من الكلمات التي تطوّر معناها بتطوّر حياة الأمّة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار الحضارة ، وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتّى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم ، وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القرّاء والسامعين ، سواء أكان شعراً أم نثراً(١).

وهذا الوصف ينطبق على ما تركه الشيخ رحمه‌الله من أدب امتاز فنّه بمتعة جاذبة وتأثير كبير نتيجة سحر البيان الذي اشتمل عليه ، إلاّ أنّ هذا الأدب اشتمل على فوائد عظيمة ، لأنّه كان يؤدّي وظائف ، منها تهذيب النفوس وتعليم المتلقّي ، خاصّة وأنّ الشيخ يعرف تأثيره في حياة الناس ، وذلك من خلال تذوّقهم الفطري لسحر الأدب وجمال المعاني.

لقد كان الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء يسعى إلى أن ينبّه الأمّة إلى ضرورة استكمال فكر النهضة الإسلامية في الجانب الأدبي والثقافي ، واثبات شمولية الإسلام ، وأنّه صالح لكلّ عصر وزمان.

فالأدب بطبيعته نشاط إنساني متميّز يرتبط بشكل من الأشكال بطبيعة

__________________

(١) ينظر تاريخ الأدب العربي ، د. شوقي ضيف : ٣. وينظر : نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد ، د. عبد الرحمن رأفت الباشا ، الرياض ، ١٩٨٥م.

٢٦٨

تكوين الأديب : النفسي والفكري والتأريخي ، ويهتمّ بالعلاقات المختلفة بين الأديب وموروثه الثقافي من جهة والخطوط الرئيسة التي تحكم عصره وتشكّل ظواهره العامّة من جهة أخرى(١).

وقد لاحظ أغلب الباحثين أنّ الدين كان رافداً من روافد الشعر في ذلك الوقت ، وأنّ الالتزام في معناه الأدبي هو اعتبار الكاتب فنّه وسيلة لخدمة فكرة معيّنة عن الإنسان لا لمجرّد تسلية غرضها الوحيد المتعة بالجمال(٢).

والملتزم هو الذي يتّخذ موقفاً في النزعات السياسية والاجتماعية معبّراً عن أيدلوجية طبقة ما أو نزعة كأن تكون دينية تخدم الدين أو المذهب الذي يعتنقه الأديب الملتزم(٣).

لقد كان الشيخ رحمه الله من الأدباء الملتزمين بالعقيدة والأخلاق ، وهو يرى أنّ الأديب المسلم عليه أن يلتزم بالمبادئ الإسلامية ، وعليه أن يضع في اعتباره ضرورة أن يكون أديباً مسلماً حقيقيّاً من جانب ، وأنّه يعيش في مجتمع مسلم لابدّ من مراعاة قيمه الأساسية من جانب آخر ، ولهذا ترجم هذه الفكرة في أغلب مؤلّفاته التي وصلت إلينا ومنها كتابه (العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية) فقد كان يحرص على اختيار الأبيات التي تحمل مضموناً إسلاميّاً فيه دعوة إلى الإصلاح ومحبّة الله عز وجلّ ، ومن ذلك ما اختاره

__________________

(١) ينظر : تطوّر الشعر العربي الحديث في العراق : ١٥.

(٢) ينظر : في الأدب الإسلامي (قضاياه وفنون ونماذج منه) : ٧٥.

(٣) ينظر المصدر السابق ، والالتزام الإسلامي في الشعر : ٢٧.

٢٦٩

للشيخ خضر بن يحيى فقد كان فقيهاً متبتّلاً وزاهداً ، فقد قال عنه أنّه «كان يتضلّع بعبادة ربّه ، ويشتاق السكون إلى رحمته وقربه ، ويبرّي قلبه من الذنوب ، ويمحو عن صحيفة نفسه درن العيوب ، مشتاقاً إلى رحمة مولاه ، طالباً الفوز برضاه قائلاً :

طوبى لمن طيّب أوقاته

إذا نأى عنكم بمعناكم

وإن نأت عن داركم داره

داوى الحشى منكم بذكراكم

وقوله :

أكملت في ذا العام ستّين سنة

مرّت وما كأنّها إلاّ سنة

لم تدّخر فيها سوى توحيده

وغير حسن الظنّ فيه حسنه

ما حال من لم يتّعظ بزاجر

وفي مراعي اللهو أرخى رسنه

وإنّما الناس نيام من يمت

منهم أزال الموت عنه وسنه»(١).

وتركيز الشيخ رحمه الله على انتقاء الأشعار التي تتلاءم ومنهجه في التوجيه والإرشاد ، لأنّه يرى أنّ الدين الإسلامي عقيدة راسخة هدفها سعادة الناس في الدارين ، وحلّ مشاكلهم وتوجيههم لكلّ خير ، وإذا كان شأن الأديب الملتزم «أن يكشف كلّ هذه الخيرات وينقلها إلى الآخرين»(٢) ، فإنّه ينطلق من عقيدته ـ وحتماً كانت عقيدة إسلامية ـ لذلك راح يحارب الواقع

__________________

(١) العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة : ١ / ٣٩.

(٢) ينظر : مجلّة أضواء إسلامية ، مقالة بعنوان : حول الأدب الإسلامي الملتزم ، العدد الأوّل : ٣٠ ، ١٩٦٤م.

٢٧٠

غير المرضي محاولاً حثّ النفوس على طلب المعالي والدفاع عن مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، لهذا نراه يختار نماذج من الشعر الرفيع تعود للشاعر سيّد حيدر الحلّي في قوله :

«منها ما كتبه إمام الشعراء في زمانه ، وزين الشرفاء من أقرانه ، الشاعر المشهور ذو الفضل الأشهر ، سيّدنا السيّد حيدر الحلّي المعروف ، من أبيات كثيرة المحاسن ، وكأنّه لم يعثر عليها جامع ديوانه فيرسمها في معجزات فرقانه ، أو لسرّ آخر وهي :

وقائلة أين تبغي بها

رويداً أخا المطلب النازحِ

أرح فلقد غاض ماء السماح

فلا ريّ غاد ولا رائحِ

فقلت سأطرح ثقل الرجاء

لدى صفوة الشرفِ الواضحِ

ثوت من مهديها المكرمات

وقامت مع الخلف الصّالح»(١).

إذاً الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء يرى أنّ هذا النوع من الأدب يتيح قدراً كبيراً من الحرّية والمرونة للأديب كي يعبّر عن خلجاته وأشواقه في إطار التزامه بالفكرة الإسلامية.

لقد سعى الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء إلى بلورة فكرة الالتزام في

__________________

(١) العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة : ٢ / ٩٠ وينظر عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق تحقيق حسن العلمي ج٢ ، ص١٢. ومن الجدير بالذكر أنّ قضيّة رثاء الإمام الحسين عليه السلام اشتهرت عند الشعراء حتّى صاروا يتسابقون فيها حتّى أصبحت مهمّة من مهمّات الشعراء ، ولغرض الوقوف على المزيد ينظر : تطوّر الشعر العر بي في العراق : ٤٣.

٢٧١

بقيّة أعماله الأدبية والثقافية ، وأراد تطبيقها وخاصّة في المقالات الموجّهة التي كتبها ، حتّى قال عنه الأستاذ عبد الحسن الغراوي : «لقد تقدّم العلاّمة كاشف الغطاء خدمات طائلة وأيادي جلّى يشكرها له العلم والأدب ، ونحن إذا ما استعرضنا خدمات الشيخ في كلّ فنّ وباب فلا نكاد نحصيها بالإحاطة الشاملة ، بل ولا نعطيها حقّها من البحث والكتابة ، حيث تجاوزت حدّ الإحصاء ، ونأت عن العدّ والحساب»(١).

والمعروف أنّ المقالة نوع من الأنواع الأدبية التي يعبّر بها الأديب عن حالة من حالات مشاعره وعواطفه نثراً وبصفحات قليلة ، وأنّه في هذه الصفحات أشبه بالشاعر الوجداني ، وأنّ مقالته أقرب إلى القصيدة ، فأنت تحسّ تأثّره وتألّمه ، وأنّه ينقل إليك هذا التأثّر وهذا التألّم وما يصاحبهما من أفكار ونظرات وتأمّلات.

لقد كان الشيخ يحمل همّ العراق بين جنباته ، فقد كان يطمح أن يصل أبناء العراق إلى مستوى من الرقي الاجتماعي ، لهذا نجده وفي مقالة أخرى عنوانها (نهضة العراق الاجتماعية) يتحدّث عن نهضة العراق الاجتماعية قائلا : «هو موضوع جدير بالبحث والعناية ، فإنّ التقدّم العمراني والاقتصادي لا يثمر الثمر الجنيّ النافع ، ولا يعطي الغاية المتوخّاة إذا لم يصحبه الإصلاح الاجتماعي ، فيسير الرقي المادّي للبلاد مع الرقي المعنوي والنفسي لأبنائها

__________________

(١) العلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ومقامه في التوجيه : مقال منشور في مجلّة العرفان العدد ٩ ، ص ٩٥٨ ، لبنان ١٣٦٨هـ.

٢٧٢

جنباً إلى جنب ، وقد تطرّقت لهذه المواضيع مفصّلاً غير مرّة في أكثر خطبي ومؤلّفاتي ، ولازالت هي دعواي وإليها دعوتي»(١).

ومن الجدير بالذكر أنّ دعوة الإمام كاشف الغطاء لم تقتصر على العراق إنّما تعدّته لتصبح دعوات إقليمية للدول العربية ، ومن هنا جاءت كلماته في المقالة التي يتحدّث فيها عن وضع العراق الراهن ووحدة الدول العربية ، فهو يرى أنّ الوحدة سبب النهضة والانتعاش ، فالقصد على حدّ قول الشيخ هو : «تبليغ دعوتنا الصارخة إلى إخواننا العرب بل وعامّة المسلمين لا في العراق فحسب بل في عامّة أقطار الأرض ، أنّ هذا هو يوم الوحدة المنشودة والضالّة المفقودة»(٢).

ومن ملامح الالتزام في أدب المقالة عند الشيخ أنّه كان يوظّف أبياتاً من الشعر ، أغلب هذه الأبيات تدخل ضمن الأبيات الملتزمة ، ومنها حديثه عن فلسطين وما أصابها من نكبة في قوله : «وكنت لا أزال أتمثّل في خطبتي وفتاواي في فاجعة فلسطين الدامية من مقاطيعي القديمة وهو :

ألا هزّة في الكون يعصف ريحها

فنترك أرض الظالمين بوارا»(٣).

لقد كانت مقالات الشيخ طافحة بمعاني الوفاء والنبل ، ومنها مقالته التي يتحدّث فيها عن الإمام علي عليه‌السلام وقد حملت عنوان «علي فوق العبقريات» ،

__________________

(١) نهضة العراق الاجتماعية ، مقال منشور في مجلّة الهاتف ، النجف الأشرف.

(٢) مقال للشيخ محمّد حسين يتحدّث فيه عن وضع العراق ، مجلّة الغري : ١١٦٩ ، العدد ٦٨ ، النجف ، ١٣٦٠هـ.

(٣) المصدر نفسه.

٢٧٣

فقد اشتملت هذه المقالة على معاني شريفة ومنها قوله :

«أمّا الكتابة عن شخصيّة كعلي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي لا تعدّ مناقبه ، ولا تحصى فضائله ، بل لو أراد الكاتب مهما كان أن يكتب في كلّ واحدة من زواياه وخصائصه مؤلّفاً ضخماً لما استطاع أن يوفّيها حقّها ويستوفي جميع خصوصيّاتها ، انظر مثلاً إلى ذلك شجاعته ، ومواقفه في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، وتضحياته العظمى وهو ابن عشرين أو دونها»(١).

الخاتمة

وفي ختام هذا البحث أودُّ أن أسجّل بعض النتائج التي توصّل إليها البحث وأذكر منها :

١ ـ أظهر البحث أنّ الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء تنبّه إلى أنّ للخطابة دوراً هامّاً في حركة الكلمة في العقل والقلب وفي الواقع من خلال تأثيرها الإيجابي على قناعات الناس في مختلف جوانب الحياة ، لهذا راح الإمام يوظّف هذا الفنّ خدمة للقضايا المصيرية التي تهمّ المجتمع كونه من المصلحين الكبار الذين قلّ نوعهم.

٢ ـ بيّن البحث قدرة الشيخ الفنّية على توظيف السمات الفنّية في أدبه ، ومنها طريقته في البدء والعرض والختام ، فضلاً عن التنويع بين الشعر والنثر ،

__________________

(١) عليّ فوق العبقريّات : ٢ ، مقال منشور في مجلّة العدل ، العدد٢٤ الجزء ٣ ، ١٣٧٣هـ.

٢٧٤

وإجادته في كلّ منهما ، من خلال الاستفادة من تقنيّة الاقتباس والتضمين بين ثنايا ما يكتب ، وهذا يدلّ على كثرة خزينه الثقافي ممّا يمكّنه من الاستفادة منه في المواضع الملائمة.

٣ ـ كشف البحث عن سمة فنّية لازمت أغلب نتاج الشيخ الأدبي والنقدي تتمثّل في ميله إلى فنّ الإيجاز في أغلب كتاباته الفنّية ، ومردّ ذلك يعود إلى مهارة الشيخ الفنّية وثروته الفكرية والثقافية.

٤ ـ أثبت الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره ومن خلال مؤلّفاته الأدبية والنقدية ، امتلاكه زمام الخطابة والشعر ، فعنده الخطيب والشاعر صنوان لا يفترقان في قوّة الحسّ وجيشان العاطفة وسرعة البديهة وقوّة التصوير ، ومن ثمّ هو يشرك السامعين معه في عاطفته ، بلسانه وقلمه.

٥ ـ شخّص البحث ظاهرة الالتزام في أدب الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، فقد كان أدبه ينطلق من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده.

وأخيراً آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

٢٧٥

المصادر

القران الكريم.

١ ـ الاتجاهات الادبية في العالم العربي الحديث : أنيس الخوري المقدسي ، الطبعة الاولى ، منشورات كلّية العلوم والآداب ، جامعة بيروت الأمريكية ، (د. ت).

٢ ـ أدب الطفّ أو شعراء الحسين عليه‌السلام من القرن الأوّل الهجري حتّى القرن الرابع عشر : جواد شبّر ، ط١ ، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات بيروتـ لبنانـ ١٣٨٨هـ ـ ١٩٦٩م.

٣ ـ أدب المقالة : زكي نجيب ، الطبعة الأولى ، القاهرة.

٤ ـ أساطين المرجعيّة العليا في النجف الأشرف : الدكتور محمّد حسين علي الصغير ، مؤسّسة البلاغ ، دار سلوني.

٥ ـ أساليب المقالة وتطوّرها في الأدب العراقي الحديث والصحافة العراقية : د. منير بكر التكريتي ، ط١ ، مطبعة الإرشاد ـ بغداد ١٩٧٦م.

٦ ـ الأغاني : لأبي الفرج الأصفهاني (ت٣٥٦هـ) تحقيق : الدكتور يوسف البقاعي ، وغريد الشيخ ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ، ط١ ، ٢٠٠٠م.

٧ ـ الالتزام الإسلامي في الشعر : د. عبد الرحمن ناصر الخنين ، دار الأصالة ، الرياض ، ط١ ، ١٤٠٨هـ.

٢٧٦

٨ ـ تاريخ الأدب العربي : أحمد حسن الزيّات ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، القاهرة ، ط٢٥ ، (د. ت).

٩ ـ تطوّر الشعر العربي الحديث في العراق : د. علي عبّاس علوان ، منشورات وزارة الإعلام ـ الجمهورية العراقية. سلسلة الكتب الحديثة (٩١) سنة ١٩٧٥م.

١٠ ـ جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري : (ت ٣٩٥هـ) تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، عبد المجيد قطامش ، دار الجيل ، بيروت ـ لبنان ، ط٢ ، ١٩٨٨م.

١١ ـ ديوان ديك الجنّ الحمصي : تحقيق : عبد المعين الملوحى ومحيي الدين الدرويشي ، حمص ، ١٩٦٠.

١٢ ـ الريحاني في ميزان النقد : مقال للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، منشور في جريدة النجف ، ٢٨ مايس ١٩٢٦م.

١٣ ـ سحر بابل وسجع البلابل : السيّد جعفر الحلّي ، تحقيق : الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، الطبعة الأولى ، دار الأضواء ، بيروت ـ لبنان ، ٢٠٠٣م.

١٤ ـ سلسلة روّاد التقريب (الإمام كاشف الغطاء) : محمّد جاسم الساعدي ، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ، إيران ، طهران ، ٢٠٠٧م.

١٥ ـ الشعر العراقي الحديث وأثر التيّارات السياسية والاجتماعية فيه.

١٦ ـ العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة : العلاّمة الكبير الإمام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، ج١ ، تحقيق : الدكتور جودت القزويني ، والجزء الثاني ، تحقيق : لجنة التحقيق في مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة ، النجف الأشرف ، ٢٠١١م.

١٧ ـ عليّ فوق العبقريّات : مقال منشور في مجلّة العدل ،العدد٢٤ الجزء ٣ ، ١٣٧٣هـ.

٢٧٧

١٨ ـ في الأدب الإسلامي (قضاياه وفنون ونماذج منه) : د. محمّد صالح الشنطي ، دار الأندلس ، حائل ، ط٢ ، ١٤١٨هـ.

١٩ ـ محاضرات في عنصر الصدق في الأدب : الدكتور محمّد النويهي ، معهد الدراسات العربية العالية ، ١٩٥٩م.

٢٠ ـ المختار من شعراء الأغاني : سماحة الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء ، النجف الأشرف ، ذي القعدة ، ١٣٦٩هـ.

٢١ ـ المراجعات الريحانية : الإمام محمّد حسين كاشف الغطاء ، تحقيق وتعليق : محمّد عبد الحكيم الصافي ، الناشر : ذوي القربى ، إيران سنة (١٤٢٧هـ).

٢٢ ـ معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأشرف خلال ألف عام : محمّد هادي الأميني ط١ مطبعة الأداب ، النجف ، ١٣٨٤ هـ ١٩٦٤م.

٢٣ ـ معجم مؤرّخي الشيعة : صائب عبد الحميد ، الجزء الثاني ، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.

٢٤ ـ النقد الأدبي : الدكتور علي جواد الطاهر ، الطبعة الثانية ، بغداد ، ١٩٦٢م.

٢٥ ـ نهضة العراق الاجتماعية : مقال للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، منشور في مجلّة الهاتف ، العدد ٢١٨ ،٢٣ ربيع الثاني ، ١٣٥٩هـ.

٢٧٨

من ذخائر التراث

٢٧٩
٢٨٠