محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

الإطلاق. ونتيجة هذا ان الصادر الأول من الله تعالى لا بد ان يكون مسانخاً لذاته ومعاصراً معها ، وإلا استحال صدوره منه. ومن الطبيعي ان ذلك لا يكون إلا الوجود المنبسط في إطاره الخاصّ.

وغير خفي انه لا شبهة في بطلان النقطة المذكورة وانه لا واقع موضوعي لها أصلا. والسبب في ذلك واضح وهو ان سلطنته تعالى وان كانت تامة من كافة الجهات ولا يتصور النقص فيها أبداً ، إلا ان مردّ هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، كوجوب صدور المعلول عن العلة التامة ، بل مردّه إلى ان الأشياء بكافة اشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامة ، وانه تعالى متى شاء إيجاد شيء أوجده بلا توقف على اية مقدمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته حتى يحتاج في إيجاده إلى تهيئة تلك المقدمة ، وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا يشذ شيء عن إطارها.

ومن البديهي ان وجوب وجوده تعالى ، ووجوب قدرته ، وانه تعالى وجود كله ، ووجوب كله ، وقدرة كله لا يستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأن الضرورة ترتكز على ان يكون اسناد الفعل إليه تعالى كإسناد المعلول إلى العلة التامة ، لا اسناد الفعل إلى الفاعل المختار فلنا دعويان : (الأولى) ان اسناد الفعل إليه ليس كإسناد المعلول إلى العلة التامة (الثانية) ان اسناده إليه كإسناد الفعل إلى الفاعل المختار.

اما الدعوى الأولى فهي خاطئة عقلاً ونقلاً.

اما الأول : فلان القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى ، فان مردّ هذا القول إلى ان الوجودات بكافة مراتبها الطولية والعرضية موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم ، وتتولد منه على سلسلتها الطولية تولد المعلول عن علته التامة ، فان المعلول من مراتب وجود العلة النازلة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه ـ مثلا ـ الحرارة من مراتب

٤١

وجود النار وتتولد منها ، وليست أجنبية عنها ، وهكذا. وعلى هذا الضوء فمعنى علية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها غاية الأمر ان النار علة طبيعية غير شاعرة ، ومن الواضح ان الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فاذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة. على ان لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفاء شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية ، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علته.

واما الثاني فقد تقدم ما يدل من الكتاب والسنة على ان صدور الفعل منه تعالى بإرادته ومشيئته.

ومن هنا يظهر ان ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري وهو ان يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث انه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري لا يرجع إلى معنى محصل ، بداهة ان علم العلة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها ، فان العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلا لزم الخلف. فما قيل من ان الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو ان الأول غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا ان ما صدر من الأول غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري لا واقع موضوعي له أصلا ، لما عرفت من ان مجرد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض ان نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة

٤٢

المعلول إلى العلة التامة.

واما الدعوى الثانية فقد ظهر وجهها مما عرفت من ان إسناد الفعل إليه تعالى اسناد إلى الفاعل المختار ، وقد تقدم ان صدوره باعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال ان سلطنة الفاعل مهما تمت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث ان سلطنة الباري عزوجل تامة من كافة الجهات والحيثيات ، ولا يتصور فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق ، وفاعل ما يشاء ، وهذا بخلاف سلطنة العبد ، حيث انها ناقصة بالذات فيستمدها في كل آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له ، وان كان له اختيار وسلطنة من ناحية أخرى ، وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته. واما سلطنته تعالى فهي تامة وبالذات من كلتا الناحيتين.

لحد الآن قد تبين ان القول بالوجود المنبسط بإطارة الفلسفي الخاصّ وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى ، ونفي القدرة والسلطنة عنه أعاذنا الله من ذلك.

(الثاني) ان ما أفاده (قده) من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جداً ، فان الظاهر منه بقرينة تعلق الخلق بكل من المشيئة والأشياء تعدد المخلوق ، غاية الأمر ان أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة والآخر مخلوق له بواسطتها.

وان شئت قلت ان تعدد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدد المخلوق ، والمفروض انه لا تعدد على المعنى الّذي ذكره (قده) تبعاً لبعض الفلاسفة فان المخلوق على ضوء هذا المعني هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من الأشياء ، لأن موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بإيجاد آخر مع ان ظاهر الرواية بقرينة تعدد الخلق ان موجوديتها بإيجاد آخر.

وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده (قده) لا يمكن الالتزام به ثبوتاً ولا إثباتاً.

٤٣

(٣) نظرية الأشاعرة

مسألة الجبر ونقدها

استدلوا على الجبر بوجوه :

(الأول) ما إليكم نصه : «لو كان العبد موجداً لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب ان يعلم تفاصيلها واللازم باطل ، وأما الشرطية أي الملازمة فلان الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن ، إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان ، فوقوع ذلك المعين منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة ، فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بد أن تكون مقصودة معلومة ، وأما بطلان اللازم فلان النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب آخر ، ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته».

والجواب عنه ان دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار أمر لا يعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان ، وبدون ذلك لا يكون اختيارياً هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان العلم المعتبر في ذلك انما هو العلم بعنوان الفعل والالتفات إليه حين صدوره بان يعلم الإنسان ان ما يصدر منه في الخارج ينطبق عليه عنوان شرب الماء مثلا أو الصلاة أو الصوم أو الحج أو قراءة القرآن أو السفر إلى بلد أو التكلم أو ما شابه ذلك ومن الواضح انه لا يعتبر في صدور هذه الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك فإذا علم الإنسان بالصلاة بما لها من الاجزاء والشرائط وأتى بها كذلك فقد

٤٤

صدرت منه بالاختيار وان كان لا يعلم حقيقة اجزائها ودخولها تحت اية مقولة من المقولات.

فالنتيجة ان ملاك صدور الفعل بالاختيار هو سبقه بالالتفات والتصور على نحو الإجمال في مقابل صدوره غفلة وسهواً.

وبعد ذلك نقول : ان أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها وحقيقتها الموضوعية فيرده : أولا ان ذلك لا يتيسر لغير علام الغيوب فان حقائق الأشياء بكافة أنواعها واشكالها مستورة عنا ، ولا طريق لنا إليها ، لأن أفكارنا لا تملك قوة إدراكها ، والوصول إلى واقعها ومغزاها وثانياً ـ ان هذا العلم لا يكون ملاكا لاتصاف الفعل بالاختيار ، كما عرفت ، وان أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر كأن يعلم بان ما يفعله خارجاً ويأتي به شرب ماء مثلا لا شرب خل ، وهكذا وان لم يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح ، كما مر ، إلا ان اللازم على هذا ليس بباطل ، لفرض أن كل فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصة

وان أراد منه العلم بحدها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه : أولا ـ أن ذلك العلم لا يتيسر لأغلب الناس ، بداهة ان العامي لا يعرف جنس الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتى يعرف حدها التام أو الناقص أو رسمها التام أو الناقص. وثانياً ـ قد سبق ان هذا العلم لا يكون مناطاً لصدور الفعل بالاختيار.

ومن هنا يظهر ان ما ذكره لبيان بطلان اللازم من ان النائم وكذا الساهي قد يفعله باختياره غريب جداً ، بداهة ان ما يصدر منهما من الحركة كالتقلب من جنب إلى جنب آخر أو نحو ذلك غير اختياري ، ولذا لا يستحقان عليه المدح والذم والعقاب والثواب. وقد تقدم ان الالتفات إلى الفعل على نحو الإجمال ركيزة أساسية لاختياريته ، وبدونه لا يعقل صدوره بالاختيار.

٤٥

(الثاني) ما إليك نصه : «ان العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالا فلا بد ان يتمكن من فعله وتركه ، والا لم يكن قادراً عليه مستقلا فيه ، وان يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح ، إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقياً ، لا اختيارياً ، ويلزم أيضاً ان لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب ، فينسد باب إثبات الصانع ، وذلك المرجح لا يكون من العبد باختياره ، والا لزم التسلسل ، لأنا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه ويكون الفعل عنده أي عند ذلك المرجح واجباً أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه والا لم يكن الموجود أي ذلك المرجح المفروض تمام المرجح ، لأنه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز ان يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى ، مع وجود ذلك المرجح فيهما ، فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت ، فلا يكون ما فرضناه مرجحاً تاماً ، هذا خلف ، وإذا كان الفعل مع المرجح الّذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطراريا لازماً لا اختيارياً بطريق الاستقلال كما زعموه».

يتضمن هذا النص عدة نقاط :

(الأولى) ان العبد لو كان مستقلا في فعله ومختاراً فلازمه ان يكون متمكناً من تركه وفعله.

(الثانية) ان ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقف على وجود مرجح ، إذ لو وجد بدونه لكان اتفاقياً لا اختيارياً.

(الثالثة) ان وقوع أحد الجائزين (الوجود والعدم) في الخارج لو كان ممكناً من دون وجود مرجح وسبب لانسد باب إثبات الصانع ولا مكن وجود العالم بلا سبب وعلة.

(الرابعة) ان المرجح لا يمكن ان يكون تحت اختيار العبد ، والا

٤٦

لزم التسلسل.

(الخامسة) ان وجود الفعل واجب عند تحقق المرجح ، ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط.

اما النقطة الأولى فالصحيح على ما سيأتي بيانه بشكل واضح ان يقال : ان ملاك صدور الفعل عن الإنسان بالاختيار هو ان يكون باعمال القدرة والسلطنة ويعبر عن هذا المعنى بقوله : له ان يفعل وله ان لا يفعل ولا ينافى ذلك ما سنحققه إن شاء الله تعالى في المبحث الآتي وهو بحث الأمر بين الأمرين ان العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال حيث ان كافة مبادئ الأفعال كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من الله تعالى آناً فآناً وخارجة عن اختياره بحيث لو انقطعت الإفاضة آنا ما لانتفت تلك المبادي بأسرها وعلى هذا الضوء فان أريد من استقلال العبد استقلاله من كافة النواحي فهو باطل ، لا ما هو لازمه ، فانه صحيح على تقدير ثبوته. وان أريد منه استقلاله في فرض تحقق تلك المبادي وإفاضتها فهو صحيح ، وكذا لازمه. وعلى كلا التقديرين فالتالي صادق.

وأما النقطة الثانية فهي خاطئة جداً ، وذلك لأنها ترتكز على ركيزة لا واقع لها ، وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجح والسبب في ذلك ان المحال انما هو وجود الفعل في الخارج بلا سبب وفاعل ، واما صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجح له ليس بمحال ، لما عرفت من ان وجوده خارجاً يدور مدار اختياره وإعمال قدرته من دون توقفه على شيء آخر كوجود المرجح أو نحوه. نعم بدونه يكون لغواً وعبثاً.

وقد تحصل من ذلك انه لا دخل لوجود المرجح في إمكان الفعل أصلاً ولا صلة لأحدهما بالآخر. على ان وجود المرجح لاختيار طبيعي الفعل كاف وان كانت افراده

٤٧

متساوية من دون ان يكون لبعضها مرجح بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ولا يلزم وجوده في كل فعل شخصي اختاره المكلف ، ودعوى ان الاختيار هو المرجح في فرض التساوي ساقطة بان الاختيار لا يمكن ان يكون مرجحاً لوضوح ان المرجح ما يدعو الإنسان إلى اختيار أحد فردين متساويين أو افراد متساوية ، فلا يعقل ان يكون هو المرجح ، على انه لو كان مرجحاً لم يبق موضوع لما ذكر من ان ترجيح وجود الفعل على عدمه يتوقف على وجود مرجح ، لفرض انه موجود وهو الاختيار ، ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر من ان الفعل الصادر من دون وجود مرجح اتفاقي لا اختياري.

وأما النقطة الثالثة فقد ظهر فسادها مما أشرنا إليه في النقطة الثانية من ان المحال انما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل ، لا وجوده بدون وجود مرجح. وقد وقع الخلط في كلامه بين هذا الأمرين ، وذلك لأن ما يوجب سد باب إثبات الصانع انما هو وجود الممكن بدونه حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجح الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل ، لأن حاجة الممكن إليه داخلة في كمون ذاته وواقع مغزاه ، لفرض انه عين الفقر والحاجة لا ذات له الفقر والحاجة ، فلا يمكن تحققه ووجوده بدونه.

وأما وجوده بدون وجود مرجح كما هو محل الكلام فلا محذور فيه أصلا.

وأما النقطة الرابعة فقد عرفت ان الفعل الاختياري لا يتوقف على وجود مرجح له ، وعلى تقدير توقفه عليه وافتراضه فلا يلزم ان يكون اختيارياً دائما ، لوضوح ان المرجح قد يكون اختيارياً ، وقد لا يكون اختيارياً. وعلى تقدير ان يكون اختيارياً فلا يلزم التسلسل ، وذلك لأن الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود مرجح ، واما المرجح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجح آخر ، بل هو ذاتي له ، فلا يحتاج إلى سبب ، كما هو ظاهر.

وأما النقطة الخامسة فيظهر خطأها مما ذكرناه من انه لا دخل للمرجح

٤٨

في صدور الفعل بالاختيار ، فيمكن صدوره عن اختيار مع عدم وجود المرجح له أصلا ، كما انه يظهر بذلك ان وجوده لا يوجب وجوب صدور الفعل وضرورة وجوده في الخارج ، وذلك لأن الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، سواء أكان هناك مرجح أم لم يكن ، بداهة أن المرجح مهما كان نوعه لا يوجب خروج الفعل عن الاختيار ، ولو كان ذلك المرجح هو الإرادة ، لما سنشير إليه إن شاء الله تعالى من ان الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا توجب سلب الاختيار عن الإنسان.

(الثالث) ما إليكم لفظه : «ان فعل العبد ممكن في نفسه ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لما مرّ من شمول قدرته للممكنات بأسرها ، وقد مرّ مخالفة الناس من المعتزلة ، والفرق الخارجة عن الإسلام في ان كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ، لامتناع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد» (١).

والجواب عنه اما ما ذكره من الصغرى والكبرى يعني ان فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى وان كان صحيحاً ، ضرورة ان الممكنات بشتى أنواعها واشكالها مقدورة له تعالى ، فلا يمكن خروج شيء منها عن تحت قدرته وسلطنته ، إلا ان ما فرّعه على ذلك ـ من انه لا شيء مما هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد ، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد ـ خاطئ جداً. والسبب في ذلك ما سيأتي بيانه بشكل واضح من ان افعال العباد رغم كونها مقدورة لله تعالى من ناحية ان مباديها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضا وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم ، فلا منافاة بين الأمرين أصلاً.

__________________

(١) شرح المواقف ص ٥١٥ ـ المرصد السادس.

٤٩

وبكلمة أخرى ان كل مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة بينهما ، بداهة انه لا مانع من كون فعل واحد مقدوراً لشخصين لعدم الملازمة بين كون شيء مقدوراً لأحد وبين صدوره منه في الخارج ، فالصدور يحتاج إلى امر زائد عليه وهو إعمال القدرة والمشيئة. ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون افعال العباد مقدورة لله تعالى وبين وقوعها خارجا باعمال قدرته وعليه فما ذكره من الكبرى وهي استحالة اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد خاطئ جداً. نعم لو أراد من القدرة المؤثرة إعمالها خارجاً فالكبرى المزبورة وان كانت تامة إلا انها فاسدة من ناحية أخرى وهي ان افعال العباد لا تقع تحت مشيئة الله وإعمال قدرته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وانما تقع مباديها تحت مشيئته وإعمال قدرته لا نفسها ، فاذن لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على شيء واحد.

لحد الآن قد تبين بطلان هذه الوجوه وعدم إمكان القول بشيء منها.

ثم ان من الغريب ما نسب في شرح المواقف (١) إلى أبي الحسن الأشعري وإليك نصه «ان افعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بان يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير ان يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري».

ووجه الغرابة اما أولا ـ فلا دليل على ثبوت هذه العادة لله تعالى. وأما ثانياً ـ فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلا ،

__________________

(١). ٥١٥ المرصد السادس.

٥٠

توضيح ذلك ان الكلام من هذه الناحية تارة يقع في المعاليل الطبيعية المترتبة على عللها. وأخرى في الأفعال الاختيارية.

اما الأولى فلأنها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصة التي أودعها الله تعالى في كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معين وهي مبدأ السنخية والتناسب. والسر في ذلك ان العلل تملك معاليلها في واقع ذواتها وكمون طبائعها بنحو الأتم والأكمل ، وليست المعاليل موجودات أخر في قبال وجوداتها ، بل هي تتولد منها ومن مراتب وجودها النازلة ، وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها مثلا معنى كون الحرارة معلولة للنار هو ان النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولد منها وتكون من مراتب وجودها ، وهذا هو التفسير الصحيح لاعتبار السنخية والتناسب بينهما.

فالنتيجة ان الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعاً خاضعة لقانون التناسب والتسانخ ، ولا تتخلف عن السير على طبقه أبداً وعلى ضوء هذا فلا يمكن القول بان ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة الله تعالى بذلك من دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما رغم ان العادة لا تحصل الا بالتكرار ، وعليه فما هو المبرر لصدور أول معلول عن علته مع عدم ثبوت العادة هناك ، وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها. ومن الطبيعي انه ليس ذلك الا من ناحية ارتباطه معه ذاتاً ووجودا ، فإذا كان المعلول الأول خاضعاً لقانون العلية ، فكذلك المعلول الثاني ، وهكذا بداهة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، وكيف يمكن ان يقال ان وجود الحرارة مثلا عقيب وجود النار في أول سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخية والمناسبة وخاضع له ، وأما بعده فهو من جهة جريان عادة الله تعالى بذلك ، لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ. فالنتيجة ان مرد هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلية وهو لا يمكن.

٥١

وأما الثانية وهي الأفعال الاختيارية فقد تقدم انها تصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج ، وليس الفاعل بمنزلة الآلة كما سيأتي بيانه بصورة مفصلة. على انه كيف يمكن ان يثبت العادة في أول فعل صادر عن العبد فاذن ما هو المؤثر في وجوده فلا مناص من أن يقول ان المؤثر فيه هو إعمال القدرة والسلطنة ومن الطبيعي انه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية فالنتيجة ان ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنى محصل أصلا هذا تمام الكلام في هذه الوجوه ونقدها.

بقي هنا عدة وجوه أخر قد استدل بها على نظرية الأشعري أيضاً.

(الأول) المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً ان الأفعال الاختيارية بشتى أنواعها مسبوقة بالإرادة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انها إذا بلغت حدها التام تكون علة تامة لها ، وتبعهم في ذلك جماعة من الأصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية وشيخنا المحقق قدس‌سرهما. فالنتيجة على ضوء ذلك هي وجوب صدور الفعل عند تحقق الإرادة واستحالة تخلفه عنها ، بداهة استحالة تخلف المعلول عن العلة التامة. وإلى هذا أشار شيخنا المحقق (قده) بقوله : «الإرادة ما لم تبلغ حداً يستحيل تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل ، لأن معناه صدور المعلول بلا علة تامة ، وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلفه عنها ، والا لزم تخلف المعلول عن علته التامة» وقال : صدر المتألهين «ان إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه لم تكن صالحة لأحد ذينك الطرفين على الآخر ، واما إذا صارت حد الوجوب لزم منه وقوع الفعل» ومراده من التساوي بعض مراتب الإرادة كما صرح بصحة إطلاق الإرادة عليه ، كما ان مراده من صيرورتها حدّ الوجوب بلوغها إلى حدها التام ، فإذا بلغت ذلك الحد تحقق المراد في الخارج وقد صرح بذلك في غير واحد من الموارد ، وكيف كان

٥٢

فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم ان الوجدان لا يقبله. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان الإرادة بكافة مبادئها من التصور والتصديق بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختيارية وتحصل في أفق النّفس قهراً من دون ان تنقاد لها. نعم قد يمكن للإنسان ان يحدث الإرادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شيء بالتأمل فيما يترتب عليه من الفوائد والمصالح ، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق المحرك للتأمل فيه ومن الطبيعي ان حصوله للنفس ينتهى بالاخرة إلى ما هو خارج عن اختيارها ، والا لذهب إلى ما لا نهاية له.

وعلى ضوء ذلك ان الإرادة لا بد ان تنتهي اما إلى ذات المريد الّذي هو بذاته وذاتياته وصفاته وأفعاله منته إلى الذات الواجبة وإما إلى الإرادة الأزلية.

وقد صرح بذلك المحقق الأصفهاني (قده) بقوله : «ان كان المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى ، لفرض إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب ، فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن الممكنات ، فان العبد بذاته وبصفاته وأفعاله لا وجود لها الا بإفاضة الوجود من الباري تعالى ، ويستحيل ان يكون الممكن مفيضاً للوجود».

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا مناص من الالتزام بالجبر وعدم السلطنة والاختيار للإنسان على الأفعال الصادرة منه في الخارج.

ولنأخذ بنقد هذه النظرية على ضوء درس نقطتين (الأولى) ان الإرادة لا تعقل أن تكون علة تامة للفعل (الثانية) ان الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.

أما النقطة الأولى ـ فلا ريب في ان كل أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في صميم ذاته حتى الأشعري يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش

٥٣

وحركة يد غيره ، وبين حركة النبض وحركة الأصابع ، وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد يمنة ويسرة ، وهكذا. ومن الطبيعي انه لا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكار ذلك الفرق بين هذه الحركات ، كيف حيث ان إنكاره بمثابة إنكار البديهي كالواحد نصف الاثنين ، والكل أعظم من الجزء ، وما شاكلهما ولو كانت الإرادة علة تامة وكانت حركة العضلات معلولة لها كان حالها عند وجودها حال حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما ، مع ان ذلك ـ مضافاً إلى انه خلاف الوجدان والضمير ـ خاطئ جداً ولا واقع له أبداً.

والسبب في ذلك : ان الإرادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علته التامة ، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحققها كذلك يكون تحت اختيار النّفس وسلطانها ، فلها ان تفعل ولها ان لا تفعل.

وان شئت قلت : انه لا شبهة في سلطنة النّفس على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة ، وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرفها واختيارها. وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها وهي مؤثرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها في ذلك ، ولو كانت الإرادة علة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها تمام التأثير لم تكن للنفس تلك السلطنة ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها ، وهو خاطئ وجداناً وبرهاناً.

اما الأول فلما عرفت من ان الإرادة ـ مهما بلغت من القوة والشدة ـ لا تترتب عليها حركة العضلات كترتب المعلول على العلة التامة ، ليكون الإنسان مقهوراً في حركاته وأفعاله.

وأما الثاني فلان الصفات التي توجد في أفق النّفس غير منحصرة بصفة الإرادة بل لها صفات أخرى كصفة الخوف ونحوها هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان صفة الخوف إذا حصلت في النّفس تترتب عليها آثار قهراً

٥٤

وبغير اختيار وانقياد للنفس كارتعاش البدن واصفرار الوجه ونحوهما ، ومن المعلوم ان تلك الأفعال خارجة عن الاختيار حيث كان ترتبها عليها كترتب المعلول على العلة التامة. فلو كانت الإرادة أيضاً علة تامة لوجود الأفعال فاذن ما هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الإرادة والأفعال المترتبة على صفة الخوف ، إذ على ضوء هذه النظرية فهما في إطار واحد فلا فرق بينهما إلا بالتسمية فحسب من دون واقع موضوعي لها أصلا ، مع ان الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأولية. ومن هنا يحكم العقلاء باتصاف الطائفة الأولى بالحسن والقبح العقليين واستحقاق فاعلها المدح والذم ، دون الطائفة الثانية. ومن الطبيعي ان هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعية ، وهي اختيارية الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية لا على مجرد تسمية الأولى بالافعال الاختيارية والثانية بالافعال الاضطرارية ، مع عدم واقع موضوعي لها. ومن ذلك يظهر ان الإرادة تستحيل أن تكون علة تامة للفعل.

ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين : (الأول) اننا إذا افترضنا شخصا تردد بين طريقين : أحدهما مأمون من كل خطر على النّفس والمال والعرض وفيه جميع متطلباته الحيوية وما تشتهيه نفسه. والآخر غير مأمون من الخطر ، وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأول واتخاذه مسلكاً له دون الطريق الثاني ، ولكن مع ذلك نرى بالوجدان ان اختياره هذا ليس قهراً عليه ، بل حسب اختياره وإعمال قدرته ، حيث ان له والحال هذه ان يختار الطريق الثاني.

(الثاني) إذا فرضنا ان شخصاً سقط من شاهق ودار امره بين ان يقع على ولده الأكبر المؤدي إلى هلاكه وبين ان يقع على ولده الأصغر

٥٥

ولا يتمكن من التحفظ على نفس كليهما معاً ، فعندئذ بطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه الأصغر مثلا من جهة شدة علاقته بابنه الأكبر حيث انه بلغ حد الرشد والكمال من جهة وارتضى سلوكه من جهة أخرى ومن البديهي ان اختياره السقوط على الأول ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له ، بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار وإعمال القدرة ولو كانت الإرادة علة تامة للفعل لكان صدوره منه محالا لعدم وجود علته وهي الإرادة. ومن المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علته.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه امران : (الأول) ان الإرادة في اية مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة أخرى لا تكون علة تامة للفعل ولا توجب خروجه عن تحت سلطان الإنسان واختياره.

(الثاني) على فرض تسليم ان الإرادة علة تامة للفعل الا ان من الواضح جداً ان العلة غير منحصرة بها ، بل له علة أخرى أيضاً وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس ، ضرورة انها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالا عند عدمها وقد عرفت ان الأمر ليس كذلك.

ومن هنا يظهر ان ما ذكره الفلاسفة وجماعة من الأصوليين منهم شيخنا المحقق (قده) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الإرادة خاطئ جداً.

ولعل السبب المبرر لالتزامهم بذلك ـ أي يكون الإرادة علة تامة للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم ، واستلزامه التوالي الباطلة : منها كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ـ هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، حيث انهم قد عمموا هذه القاعدة في كافة الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها ، ولم يفرقوا بين الأفعال

٥٦

الإرادية والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية ، وقالوا : سر عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلة. ومن الطبيعي انه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى حيث انهم لم يجدوا في الصفات النفسانيّة صفة تصلح لأن تكون علة للفعل غير الإرادة فلذلك التزموا بترتب الفعل عليها ترتب المعلول على العلة التامة.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان كل ممكن ما لم يجب وجوده من قبل وجود علته يستحيل تحققه ووجوده في الخارج. ومن هنا يقولون ان كل ممكن محفوف بوجوبين : وجوب سابق ـ وهو الوجوب في مرتبة وجود علته ـ ووجوب لا حق ـ وهو الوجوب بشرط وجوده خارجاً ـ.

ولنبحث هنا عن امرين : (الأول) عن الفرق الأساسي بين المعاليل الطبيعية والأفعال الاختيارية (الثاني) عدم جريان القاعدة المذكورة في الأفعال الاختيارية اما الأمر الأول ـ فقد سبق بشكل إجمالي ان الأفعال الإرادية تمتاز عن المعاليل الطبيعية بنقطة واحدة وهي انها تحتاج في وجودها إلى فاعل وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فأثبت عز من قائل بذلك احتياج الفعل إلى فاعل وخالق وبدونه محال ، والفاعل لهذه الأفعال هو نفس الإنسان ، فانها تصدر منها بالاختيار وإعمال القدرة والسلطنة ، وليس في إطارها حتم ووجوب ، فلها ان تشاء وتعمل ، ولها ان لا تشاء ولا تعمل ، فهذه المشيئة والسلطنة لا تتوقف على شيء آخر كالإرادة ونحوها ، بل هي كامنة في صميم ذات النّفس حيث ان الله تعالى خلق النّفس كذلك. وهذا بخلاف المعاليل الطبيعية ، فانها تحتاج في وجودها إلى علل طبيعية تعاصرها وتؤثر فيها على ضوء مبدأ السنخية ، في إطار الحتم والوجوب ، ولا يعقل فيها الاختيار.

وان شئت فقل ان الفعل الاختياري حيث كان يخضع لاختيار الإنسان

٥٧

ومشيئته فلا يعقل وجود نظام له كامن في صميم ذاته ، ليكون سيره ووجوده تحت إطار هذا النظام الخاصّ من دون تخلفه عنه ، والوجه في هذا واضح وهو ان مشيئة الإنسان تختلف باختلاف افراده كما تختلف باختلاف حالاته النفسيّة ودواعيه الداخلية والخارجية ، فلهذا السبب جعل لها نظم وقوانين خاصة ، ليكون سيرها الوجوديّ تحت إطار هذه النظم ، وهذا بخلاف سلسلة المعاليل الطبيعية ، فانها تخضع في سيرها الوجوديّ نظاماً خاصاً وإطاراً معيناً الّذي أودعه الله تعالى في كمون ذاتها ، ويستحيل ان تتخلف عنه ، ولذا لا يعقل جعل نظام لها من الخارج ، لعدم خضوعها له واستحالة تخلفها عن نظمه الطبيعية ، وهذا برهان قطعي على ان السلسلة الأولى سلسلة اختيارية ، فأمرها وجوداً وعدماً بيد فاعلها دون السلسلة الثانية ، فانها مقهورة ومجبورة في سيرها على طبق نظمها الطبيعية الموضوعة في صميم ذاتها وكمون واقعها.

لحد الآن قد تبين افتراق السلسلة الأولى عن السلسلة الثانية بنقطة موضوعية ، فلو كانت السلسلة الأولى كالسلسلة الثانية مقهورة ومجبورة في سيرها الوجوديّ لم يمكن الفرق بينهما.

وأما الأمر الثاني فالقاعدة المذكورة وان كانت تامة في الجملة الا انه لا صلة لها بالافعال الاختيارية. والسبب في ذلك ان هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية التي هي النقطة الأساسية لمبدإ العلية ، فان وجود المعلول ـ كما تقدم ـ مرتبة نازلة من وجود العلة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه. وعلى هذا فبطبيعة الحال ان وجود المعلول قد أصبح ضرورياً في مرتبة وجود العلة ، لفرض انه متولد منها ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزاها وهذا معنى احتفاف وجوده بضرورة سابقة. ومن الطبيعي انه لا يمكن تفسير الضرورة في القاعدة المذكورة على ضوء مبدأ العلية الا

٥٨

في المعاليل الطبيعية ، ولا يمكن تفسيرها في الأفعال الاختيارية أصلا ، وذلك لأن الأفعال الاختيارية سواء أكانت معلولة للإرادة أم كانت معلولة لاعمال القدرة والسلطنة ، فلا يستند صدورها إلى مبدأ السنخية ، بداهة انها لا تتولد من كمون ذات علتها وفاعلها ، ولا تخرج من واقع وجوده وصميم ذاته لتكون من شئونه ومراتبه ، بل هي مباينة له ذاتاً ووجوداً ، وعلى هذا فلا يمكن التفسير الصحيح لاحتفافها بالضرورة السابقة ، فان معنى هذا كما عرفت وجود المعلول في مرتبة وجود علته ، وهذا لا يعقل إلا في المعاليل الطبيعية ، ومن هنا يظهر اننا لو قلنا بان الإرادة علة تامة لها فمع ذلك لا صلة لها بالقاعدة المزبورة ، لوضوح انه لا معنى لوجوب وجودها في مرتبة وجود الإرادة ، ثم خروجها من تلك المرتبة إلى مرتبتها الخاصة.

وعلى الجملة فإذا كانت العلة مباينة للمعلول وجوداً ولم تكن بينهما علاقة السنخية فبطبيعة الحال لا يتصور هنا وجوب وجود المعلول من قبل وجود علته ، فاذن ليس هنا الا وجوده بعد وجودها من دون ضرورة سابقة ، ومرد هذا بالتحليل العلمي إلى عدم قابلية الإرادة للعلية. وقد تحصل من ذلك ان الفعل في وجوده يحتاج إلى فاعل ما ، ويصدر منه باختياره وإعمال قدرته ولا تأثير للإرادة فيه بنحو العلة التامة نعم قد يكون لها تأثير فيه بنحو الاقتضاء.

فالنتيجة انه لا مجال للقاعدة المتقدمة في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية فتختص بسلسلة المعاليل الطبيعية.

وأما النقطة الثانية وهي ان الفعل الاختياري ما أوجده الإنسان باختياره وإعمال قدرته فقد تبين وجهها على ضوء ما حققناه في النقطة الأولى من ان الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوة لن تكون علة تامة للفعل ، وعليه فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل في الخارج إلى امر آخر ، وهذا الأمر هو إعمال

٥٩

القدرة والسلطنة المعبر عنهما بالاختيار. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الله عزوجل قد خلق النّفس للإنسان واجدة لهذه السلطنة والقدرة ، وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النّفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة أخرى.

ومن هنا يظهر فساد ما قيل من ان الاختيار ممكن ، والمفروض ان كل ممكن يفتقر إلى علة ، فاذن ما هو علة الاختيار. ووجه الظهور ما عرفت من ان الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق ، لا إلى علة ، والفاعل لهذه الصفة أي صفة الاختيار هو النّفس غاية الأمر انها تصدر منها بنفسها أي بلا توسط مقدمة أخرى وسائر الأفعال تصدر منها بواسطتها.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه امران :

(الأول) ان الفعل الاختياري انما يصدر عن الفاعل باعمال قدرته لا بالإرادة نعم الإرادة قد تكون مرجحة لاختياره.

(الثاني) ان اختيار النّفس للفعل وان كان يفتقر غالباً إلى وجود مرجح إلا انه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه ، بل من ناحية خروجه عن اللغوية.

ولشيخنا المحقق (قده) في هذا الموضوع كلام حيث انه (قده) بعد ما أصر على ان الإرادة علة تامة للفعل أورد على ما ذكرناه من ان الفعل الاختياري ما أوجده الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة وليس معلولا للإرادة بعدة وجوه وقبل بيان هذه الوجوه تعرض (قده) لكلام لا بأس بالإشارة إليه ونقده وإليكم نصه :

«ان الالتزام بالفعل النفسانيّ المسمى بالاختيار اما لأجل تحقيق استناد حركة العضلات إلى النّفس حتى تكون النّفس فاعلا ومؤثراً في العضلات

٦٠