محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

الغيري وقد تقدم انه لا مقتضى لاتصاف المقدمات الداخلية بالوجوب الغيري فما أفاده (قده) من التحقيق خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا.

والصحيح في المقام ان يقال ان منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد امرين على سبيل منع الخلو (أحدهما) قصد امتثال الأمر النفسيّ المتعلق بها مع غفلة المكلف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم الإتيان به كاغتسال الجنب مثلا مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتيان بها ، وهذا يتوقف على وجود الأمر النفسيّ وقد عرفت انه موجود (وثانيهما) قصد التوصل بها إلى الواجب ، فانه أيضا موجب لوقوع المقدمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي من انه يكفي في تحقق قصد القربة إتيان الفعل مضافاً به إلى المولى وان لم يكن امر في البين. وعليه فالآتي بالطهارات الثلاث بقصد التوصل بها إلى الصلاة أو نحوها فقد أوجد المقدمة في الخارج وان لم يكن ملتفتاً إلى الأمر النفسيّ المتعلق بها وقاصداً لامتثاله ، كما ان الآتي بها بقصد امرها النفسيّ موجد للمقدمة وان لم يكن ملتفتاً إلى المقدمية وقد تحصل من ذلك ان لزوم الإتيان بالطهارات الثلاث عبادة لم ينشأ من ناحية امرها الغيري بل من ناحية كون المقدمة عبادة سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها.

وبكلمة أخرى ان مقدمية الطهارات الثلاث تنحل إلى ذوات الأفعال وقصد التقرب بها ، فإذا جاء المكلف بالافعال في الخارج ولم يقصد بها التقرب إلى المولى فلم يوجد المقدمة خارجاً فلا تصح عندئذ العبادة المشروطة بها ، واما إذا قصد بها التقرب سواء أكان من ناحية قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها أو من ناحية قصد التوصل بها إلى الواجب فالمقدمة قد وجدت

٤٠١

في الخارج ، ومعه تصح العبادة المشروطة بها ، ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه. فالنتيجة ان الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأ لعباديتها. وقد ظهر مما ذكرناه امران :

(الأول) انه لا إشكال في صحة الإتيان بالوضوء والغسل بداعي أمرهما النفسيّ ومحبوبيتهما كذلك أو بداعي التوصل إلى الواجب النفسيّ قبل الوقت ، لما عرفت من ان إتيانهما كذلك لا يتوقف على عروض الوجوب الغيري عليهما ، كما انه لا إشكال في الاكتفاء بهما بعد دخول الوقت لفرض ان المقدمة ـ وهي الوضوء والغسل العباديان ـ قد تحققت وكذا لا إشكال في صحة التيمم بداعي امره النفسيّ قبل دخول الوقت والاكتفاء به بعده إذا بقي موضوعه وهو عدم وجد ان الماء. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا شبهة في صحة الإتيان بها أي الطهارات الثلاث بقصد التوصل إلى الواجب بعد الوقت ، وانما الكلام في صحة الإتيان بها بعده بقصد امرها الاستحبابي ، لما قد يتوهم من اتصافها بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت ولازمه اندكاك الأمر الاستحبابي النفسيّ في ضمن الأمر الوجوبيّ الغيري وعدم بقائه حتى يكون داعياً للإتيان بها.

وأجاب عن ذلك السيد الطباطبائي (قده) في عرونه بأنه لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسيّ في شيء واحد من جهتين بناء على ما اختاره (قده) من جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين ، وبما ان في المقام الجهة متعددة ، فان جهة الوجوب الغيري وهي المقدمية غير جهة الاستحباب النفسيّ ـ وهي ذوات الأفعال ـ وعليه فلا مانع من اجتماعهما ، ولا يوجب ذلك اندكاك الاستحباب في الوجوب.

وغير خفي أن تعدد الجهة انما يجدى في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كانت الجهة تقييدية وأما إذا كانت تعليلية كما في المقام فلا أثر لتعددها أصلا

٤٠٢

والصحيح في الجواب هو ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من ان عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحباً في نفسه بناء على نظريتنا لا يوجب اندكاك الاستحباب وتبدله بالوجوب ، بل هو باق على محبوبيته وملاكه الكامنين في الفعل ، وانما يرفع حده ـ وهو الترخيص في الترك ـ وعليه فإذا أتى المكلف بها بداعي المحبوبية فقد تحققت العبادة.

(الثاني) ان المكلف إذا جاء بالطهارات الثلاث بداعي التوصل إلى الواجب النفسيّ وكان غافلا عن محبوبيتها النفسيّة ثم بدا له في الإتيان بذلك الواجب فهل تقع الطهارات عندئذ عبادة فقد ظهر مما ذكرنا ان ذلك لا يكون مانعاً عن وقوعها عبادة ، اما بناء على وجوب المقدمة مطلقا فواضح وأما بناء على عدم وجوبها كذلك كما هو المختار أو بناء على وجوب خصوص المقدمة الموصلة فهي وان لم تتصف بالوجوب الغيري الا انك عرفت ان وقوعها عبادة لا يتوقف على وجوبها الغيري حيث يكفي في ذلك الإتيان بها بداعي التوصل أو بداعي الأمر الاستحبابي النفسيّ ، والمفروض في المقام هو ان المكلف قد أتى بها بداعي التوصل.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو (١) قصد امتثال الأمر الاستحبابي النفسيّ (٢) قصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، ولا صلة للأمر الغيري بعباديتها أصلا

(الأقوال حول وجوب المقدمة)

لا شبهة في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط بناء على ثبوت الملازمة بينهما فلو كان وجوب ذيها مطلقاً لكان وجوب مقدمته أيضاً كذلك ، وان كان مشروطاً كان وجوبها كذلك. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انه بناء على الملازمة المزبورة هل الواجب مطلق

٤٠٣

المقدمة ، أو خصوص حصة خاصة منها ، وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية فيها على أقوال :

(أحدها) ما عن صاحب المعالم (قده) من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على إتيان ذيها.

(وثانيها) ما نسب إلى شيخنا العلامة الأنصاري (قده) من أن لواجب هو المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب ، والفرق بين هذا القول والقول الأول في نقطة واحدة وهي ان القصد على القول الأول قيد للوجوب ، وعلى هذا القول قيد للواجب.

(وثالثها) ما عن صاحب الفصول (قده) من ان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها. وبعد ذلك نتكلم حول تلك الأقوال

وبيان ما فيها من النقد والإشكال

أما القول الأول فهو خاطئ جداً ولا يرجع إلى معنى محصل أصلا وذلك لأن لازم هذا القول أحد محذورين : اما التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وهو خلف بناء على الملازمة كما هو المفروض ، وأما لزوم كون وجوب ذي المقدمة تابعاً لإرادة المكلف ودائراً مدار اختياره وعزمه وهو محال بداهة ان لازم ذلك عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

وأما القول الثاني فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قده) بما حاصله هو ان ملاك وجوب المقدمة بناء على حكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب ذيها هو توقف الواجب النفسيّ عليها وتمكن المكلف من الإتيان بها على إتيان ذيها ، ومن المعلوم ان هذا الملاك مشترك فيه بين المقدمات بشتى اشكالها بلا اختصاص له بحصة خاصة منها دون حصة أخرى ، ومن هنا لو جاء المكلف بالمقدمة بدون قصد التوصل بها لكان

٤٠٤

مجزياً إذا لم تكن عبادة ، وهذا دليل قطعي على عدم أخذ قصد التوصل قيداً لها والا لم يكن الإتيان بها مجرداً عنه كافياً. وان شئت قلت : ان ملاك وجوب المقدمة لو كان قائماً في حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بقصد التوصل فبطبيعة الحال لم يحصل الغرض منها بدون ذلك ، مع انه لا شبهة في حصوله بدونه إذا لم تكن المقدمة عبادة. فالنتيجة انه لا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص تلك الحصة. نعم قصد التوصل انما يعتبر في حصول الامتثال وترتب الثواب لا في حصول أصل الغرض.

وقد يوجه مراد الشيخ (قده) بما ملخصه : ان الواجب انما هو الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل فحسب ، وعليه فلا بد في الإتيان بها من لحاظ هذا العنوان وقصده والا لم يأت بالواجب ، وبما ان قصد التوصل إلى الواجب عين عنوان المقدمية فبطبيعة الحال لزم قصده. نعم ان الإتيان بالافعال الخارجية وحدها مجردة عن قصد التوصل وان كان مسقطاً للغرض المطلوب الا انه لا يكون إتياناً للواجب ومصداقاً له حيث قد عرفت ان الواجب هو ما كان معنوناً بعنوان المقدمة وهو عين قصد التوصل ، وأما سقوط الواجب بغيره فهو يتفق كثيراً ما في الواجبات التوصلية.

وأورد على هذا التوجيه المحقق صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (قدس‌سرهما) بان عنوان المقدمة من الجهات التعليلية لوجوب المقدمة لا من الجهات التقييدية له ، بداهة ان الواجب انما هو ذات المقدمة التي هي مقدمة بالحمل الشائع واما عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأحكام. نعم لو تم التوجيه المزبور لكان لما أفاده (قده) وجه ، بل لا مناص عنه ، نظير ما إذا افترضنا ان الشارع أوجب القيام مثلا بعنوان التعظيم فلا محالة إذا أتى به بدون قصد هذا العنوان لم يأت بما هو مصداق للقيام الواجب.

٤٠٥

وقد تصدى شيخنا المحقق (قده) إلى توجيه مراد الشيخ (قده) بيان امرين : (الأول) ان الجهات التقييدية انما تمتاز عن الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية ، فان العناوين المأخوذة في متعلقاتها كعنوان الصلاة والصوم ونحوهما من الجهات التقييدية ، ومن هنا يعتبر الإتيان بها بقصد العناوين المزبورة والا لم يؤت بما هو مصداق للواجب ، واما الملاكات الكامنة في متعلقاتها فهي جهات تعليلية. فالنتيجة ان الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية غير الجهات التقييدية. وأما في الأحكام العقلية فالجهات التعليلية فيها راجعة إلى الجهات التقييدية وان الأغراض في الأحكام العملية ، أما الأولى فلان حكم العقل باستحالة شيء بسبب استلزامه الدور أو التسلسل حكم باستحالة الدور أو التسلسل بالذات ، وحكمه باستحالة اجتماع الأمر والنهي مثلا من ناحية استلزامه اجتماع الضدين حكم باستحالة اجتماع الضدين كذلك وهكذا فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل. وأما الثانية فلان حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلا حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب ، كما ان حكمه بقبح الضرب للإيذاء حكم في الواقع بقبح الإيذاء وهكذا فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييدية والموضوع للحكم.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي انه لا فرق بين الجهات التعليلية والجهات التقييدية في الأحكام العقلية أصلا. وعلى هذا الضوء فيما ان مطلوبية المقدمة ليست لذاتها ، بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها فالمطلوب الجدي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي انما هو نفس التوصل ، لما عرفت من ان الجهة التعليلية في الحكم العقلي ترجع إلى الجهة التقييدية.

(الثاني) ان متعلقات التكاليف سواء أكانت تعبدية أم كانت توصلية

٤٠٦

لا تقع على صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب الا إذا أتى به عن قصد وعمد حتى في التوصليات ، والسبب في ذلك ان التكليف تعبدياً كان أو توصلياً لا يتعلق الا بالفعل الاختياري ، فالغسل الصادر بلا اختيار وان كان مطابقاً لذات الواجب ومحصلا لغرضه الا انه لا يقع مصداقاً للواجب بما هو واجب ، بل يستحيل أن يتعلق الوجوب بمثله فكيف يكون مصداقاً له ، وعلى ذلك فالواجب بحكم العقل بما انه عنوان المقدمة لا ذاتها فمن الطبيعي أن المكلف إذا أتى بها بداعي المقدمية والتوصل فقد تحقق ما هو مصداق للواجب خارجاً بما هو واجب وان لم يأت بها كذلك لم يتحقق ما هو مصداق للواجب كذلك وان تحقق ما هو محصل لغرضه فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين ان الواجب هو المقدمة بعنوان التوصل لا ذاتها فاذن تم ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (قده)

ولنأخذ بالنقد على كلا الأمرين ، اما الأمر الأول فلان ما أفاده (قده) من ان الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية وان كان في نهاية الصحة والمتانة الا انه أجنبي عن محل الكلام في المقام وذلك لما تقدم في أول البحث من ان وجوب المقدمة عقلا بمعنى اللابدية خارج عن مورد النزاع وغير قابل للإنكار ، وانما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل ، وكم فرق بين الحكم الشرعي الّذي كشف عنه العقل والحكم العقلي ، وقد عرفت ان الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية لا ترجع إلى الجهات التقييدية ، فما أفاده (قده) لا ينطبق على محل النزاع

واما الأمر الثاني فلان ما أفاده (قده) انما يتم فيما إذا كانت القدرة مأخوذة شرعاً في المأمور به وواردة في لسان الخطاب به ، وذلك كآية الحج بناء على تفسير الاستطاعة بالقدرة كما قيل ، وآية التيمم بناء على أن يكون المراد من الوجدان فيها القدرة على الاستعمال شرعاً لا عدم الوجود

٤٠٧

بقرينة ذكر المريض فيها ، والسبب في هذا هو انه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه الموارد الا في خصوص الحصة المقدورة ، وأما الحصة الخارجة عن القدرة فلا طريق لنا إلى إحراز الملاك فيها أصلا ، فالنتيجة ان في كل مورد كانت القدرة مأخوذة فيه شرعاً فالواجب فيه بطبيعة الحال هو خصوص الحصة المقدورة دون غيرها ، ودون الجامع بينها وبين غيرها. وأما إذا كانت معتبرة فيه عقلا فلا يتم ، والوجه في ذلك هو ان المكلف مرة يكون عاجزاً عن إتيان تمام افراد الواجب في الخارج وظرف الامتثال فعندئذ بطبيعة الحال يسقط عنه التكليف ولا يعقل بقاؤه ، ومرة أخرى يكون عاجزاً عن امتثال بعض افراده دون بعضها الآخر كالصلاة مثلا حيث ان المكلف يتمكن من امتثالها في ضمن بعض افرادها العرضية والطولية ولا يتمكن من امتثالها في ضمن بعضها الآخر كذلك ، ففي مثل ذلك لا موجب لتخصيص التكليف بخصوص الحصة المقدورة ، بل لا مانع من تعلقه بالجامع بينها وبين الحصة غير المقدورة ، وقد تقدم ان الجامع بين المقدور وغيره مقدور ، ضرورة انه يكفي في القدرة عليه القدرة على امتثال فرد منه ، وعلى هذا فيما ان اعتبار القدرة في إيجاب المقدمة انما هو بحكم العقل فلا محالة لا يختص وجوبها بخصوص ما يصدر من المكلف عن إرادة واختيار ، بل يعمه وغيره ، فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع كان الإتيان به لا بقصد التوصل مصداقاً له ، وعليه فلا موجب لتخصيصه بخصوص الحصة المقدورة ، فما أفاده (قده) من المقدمتين غير تام أصلا كما هو ظاهر.

ثم ان شيخنا الأستاذ (قده) ادعى انه يظهر من تقريرات بحث شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ان مراده من اعتبار قصد التوصل انما هو اعتباره في مقام الامتثال دون أخذه قيداً في المقدمة ، وعليه فمن جاء بالمقدمة

٤٠٨

بقصد التوصل فقد امتثل الواجب والا فلا. وفيه ان هذه الدعوى لو تمت لكان لما أفاده وجه صحيح ، ضرورة ان الثواب لا يترتب على الإتيان بالمقدمة مطلقا ، وانما يترتب فيما إذا جاء المكلف بها بقصد التوصل والامتثال.

وذكر (قده) مرة ثانية ان مراد الشيخ (قده) من اعتبار قصد التوصل انما هو اعتباره في مقام المزاحمة ، كما إذا كانت المقدمة محرمة ، ونقل (قده) ان شيخه العلامة السيد محمد الأصفهاني (قده) كان جازماً بان مراد الشيخ من اعتبار قصد التوصل هو ذلك ، ولكن كان شيخنا الأستاذ (قده) متردداً بان هذا كان استنباطاً منه أو انه حكاه عن أستاذه السيد الشيرازي (قده) وكيف كان فحاصل هذا الوجه هو انه لو توقف واجب نفسي كإنقاذ الغريق مثلا على مقدمة محرمة بنفسها كالتصرف في مال الغير أو نحوه فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بين الوجوب الغيري والحرمة النفسيّة ، وعليه فان جاء المكلف بالمقدمة قاصداً بها التوصل إلى الواجب النفسيّ ارتفعت الحرمة عنها ، وذلك لأن إنقاذ النّفس المحترمة من الهلاك أهم من التصرف في مال الغير فلا محالة يوجب سقوط الحرمة عنه ، وأما ان جاء بها لا بقصد التوصل ، بل بقصد التنزه أو ما شاكله فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبداً.

وغير خفي ان المزاحمة في الحقيقة انما هي بين الحرمة النفسيّة الثابتة للمقدمة وبين الوجوب النفسيّ الثابت لذيها وان لم نقل بوجوب المقدمة أصلا ، فالتزاحم في المثال المزبور انما هو بين وجوب إنقاذ الغريق وحرمة التصرف في الأرض المغصوبة سواء أكانت المقدمة واجبة أم لا. وبكلمة أخرى ان التزاحم المذكور لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة ، فانه سواء أقلنا بوجوبها مطلقا أو خصوص الموصلة منها أو ما يقصد به التوصل إلى الواجب أم لم نقل به أصلا على الاختلاف في المسألة فالتزاحم بينهما موجود

٤٠٩

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن الواجب في المقام بما انه أهم من الحرام فبطبيعة الحال ترتفع حرمته فالسلوك في الأرض المغصوبة عندئذ إذا وقع في طريق الإنقاذ لا يكون محرماً ، بداهة انه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقف الواجب الأهم عليه ، ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه أي عن خصوص هذه الحصة من السلوك بين أن يكون الآتي به قاصداً التوصل به إلى الواجب المذكور أم لا ، غاية الأمر إذا لم يكن قاصداً به التوصل كان متجرياً ، وأما إذا لم يقع السلوك في طريق الإنقاذ فتبقى حرمته على حالها ، ضرورة انه لا موجب ولا مقتضى لارتفاعها أصلا ، فان المقتضى لذلك انما هو توقف الواجب الأهم عليه ، والمفروض انه ليس هذه الحصة من السلوك مما يتوقف عليه الواجب المزبور كي ترتفع حرمته نعم لو قصد المكلف به التوصل إلى الواجب ولكنه لمانع لم يترتب عليه في الخارج كان عندئذ معذوراً فلا يستحق العقاب عليه.

نعم بناء على القول بوجوبها نقع المعارضة بينه وبين حرمتها ، وذلك لما عرفت من ان عنوان المقدمة عنوان تعليلي فلا يكون موضوعاً لحكم ، وعليه فبطبيعة الحال يرد الوجوب والحرمة على موضوع واحد ويتعلقان بشيء فارد ، وعلى هذا الضوء فان قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة سقطت الحرمة عنها فحسب ، فاذن نتيجة القول بالتعارض والتزاحم واحدة وهي سقوط الحرمة عن خصوص السلوك الواقع في سلسلة علة الإنقاذ لا مطلقا وان قلنا بوجوب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب فالساقط انما هو الحرمة عنها فحسب سواء أكانت موصلة أم لم تكن ، وان قلنا بوجوب المقدمة مطلقا فالساقط انما هو الحرمة عنها كذلك.

وعلى ضوء ذلك تظهر الثمرة بين هذين القولين وبين القول بعدم الوجوب أصلا كما هو الصحيح ، فانه على هذا القول أي القول بعدم

٤١٠

الوجوب فالساقط انما هو حرمة خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها ، وعلى القول الأول فالساقط انما هو حرمة خصوص المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب ، وعلى القول الثاني فالساقط انما هو حرمة مطلق المقدمة وهذه ثمرة مهمة.

ثم ان شيخنا الأستاذ (قده) ذكر ان المقرر رتب على اعتبار قصد التوصل فروعاً يبعد كونها من العلامة الأنصاري (قده) منها : عدم صحة صلاة من كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى جميعها ، حيث ان الإتيان بها إلى تلك الجهات من باب المقدمة وقد اعتبر فيها قصد التوصل ، فالإتيان بصلاة إلى جهة منها بدونه لا محالة تقع فاسدة وان كانت مطابقة للواقع ، لفرض عدم إتيانه بما هو مقدمة وواجب عليه ، اذن لا مناص من الإعادة ، ومن هذا القبيل كل مورد كان الاحتياط فيه مستلزماً للتكرار كالصلاة في ثوبين مشتبهين أو نحو ذلك إذا أتى بصلاة واحدة من دون قصده الإتيان بالجميع.

وفيه ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من الاستبعاد في محله ، والسبب في ذلك واضح هو ان وجوب الصلاة إلى الجهات الأربع أو ما شاكل ذلك انما هو من باب المقدمة العلمية ، وقد تقدم ان وجوبها لا يقوم على أساس القول بوجوب المقدمة وعدمه ، فان الحاكم بوجوبها انما هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل واما محل النزاع في اعتبار قصد التوصل وعدم اعتباره فانما هو في المقدمة الوجودية ولا صلة لإحدى المقدمتين بالأخرى أصلا ، كيف فان ما كان من الصلوات إلى الجهات الأربع مطابقا للواقع كان هو نفس الواجب لا انه مقدمة له ، وما لم يكن مطابقا له فهو أجنبي عنه فلا يكون هنا شيء مقدمة لوجود الواجب أصلا.

نعم ذكر شيخنا العلامة الأنصاري (قده) في أواخر رسالة بحث

٤١١

البراءة ما ملخصه هل الإطاعة الاحتمالية في طول الإطاعة العلمية ولو إجمالا أو في عرضها ، فان قلنا بالأول كان ما جاء به من الامتثال الاحتمالي فاسداً وان كان مطابقاً للواقع ، وذلك لاستقلال العقل الحاكم في هذا الباب بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي ولو كان إجمالياً ، وان قلنا بالثاني كان ما جاء به صحيحاً لفرض تحقق الواجب في الخارج وقد قصد التقرب به احتمالا وهو يكفي في العبادة.

وهذا الّذي ذكره (قده) هناك أيضا أجنبي عن القول باعتبار قصد التوصل في المقدمة وعدم اعتباره ، فان كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي وعدم كفايته معه يقومان على أساس آخر لا صلة له بما يقوم به هذا ان القولان ، فيمكن القول بالكفاية هناك على كلا القولين هنا ، ويمكن القول بعدم الكفاية هناك كذلك على تفصيل في محله. فالنتيجة انه لا صلة لأحد البابين بالآخر أصلا كما هو واضح.

ومنها عدم جواز الإتيان بالغايات المشروطة بالطهارة إذا لم يكن المتوضئ قاصداً به تلك الغايات بل أتى بغاية أخرى فلو توضأ لغاية خاصة كقراءة القرآن مثلا لم يجز له الدخول في الصلاة بذلك الوضوء وهكذا ثم انه (قده) أشكل على ذلك بان هذا لا يتم في الوضوء حيث انه حقيقة واحدة وماهية فاردة فإذا جاء به بأية غاية مشروعة لترتبت عليه الطهارة ومعه يصح الإتيان بكل ما هو مشروط بها ، فاذن لا تكون لاعتبار قصد التوصل إلى غاية خاصة ثمرة في الوضوء ، نعم يتم ذلك في باب الأغسال حيث انها حقائق متباينة وماهيات متعددة وان اشتركت في اسم واحد ، وعليه فلو اغتسل لغاية خاصة فلا يجوز له الدخول إلى غاية أخرى فثمرة اعتبار قصد التوصل تظهر هنا.

٤١٢

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بان ما أفاده بالإضافة إلى الوضوء وان كان متيناً جداً فلا مناص عنه الا ان ما أفاده بالإضافة إلى الأغسال من الغرائب ، فان الاختلاف في ان الأغسال حقيقة واحدة أو حقائق متعددة انما هو باعتبار اختلاف أسبابها كالجنابة والحيض والنفاس ونحو ذلك ، لا باعتبار غاياتها المترتبة عليها ، ضرورة انه لم يحتمل أحد فضلا عن القول بان الأغسال حقائق متعددة باعتبار تعدد غاياتها فهي من ناحية الغايات لا فرق بينها وبين الوضوء أصلا. فالنتيجة ان ما استبعده شيخنا الأستاذ (قده) في محله.

وأما القول الثالث وهو قول صاحب الفصول (قده) من ان الواجب هو حصة خاصة من المقدمة وهي الحصة الموصلة أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها من الحصص فقد نوقش فيه عدة مناقشات :

(الأولى) ما عن شيخنا الأستاذ (قده) من ان تخصيص الوجوب بخصوص هذه الحصة يستلزم أحد محذورين اما الدور أو التسلسل وكلاهما محال أما الأول فلان مرد هذا القول إلى كون الواجب النفسيّ مقدمة للمقدمة لفرض ان ترتب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها ، وعلى هذا يلزم كون وجوب الواجب النفسيّ ناشئاً من وجوب المقدمة وهو يستلزم الدور ، فان وجوب المقدمة على الفرض انما نشأ من وجوب ذي المقدمة فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار. واما الثاني فلان الواجب لو كان خصوص المقدمة الموصلة فبطبيعة الحال كانت ذات المقدمة من مقدمات تحققها في الخارج نظراً إلى ان ذاتها مقومة لها ومقدمة لوجودها فعندئذ ان كان الواجب هو ذات المقدمة على الإطلاق لزم خلاف ما التزم به (قده) من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة وان كان هو الذات المقيدة بالإيصال إليها ننقل الكلام إلى ذات هذا المقيد بالإيصال وهكذا فيذهب إلى ما لا نهاية

٤١٣

له. فالنتيجة أنه لا يمكن القول بان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) ، أما الدور فيرد عليه ان الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة غير ناش من وجوب المقدمة كي يتوقف اتصافه به على وجوبها. نعم الواجب النفسيّ على هذا بما انه مقدمة للواجب الغيري بما هو كذلك فبطبيعة الحال يعرض عليه الوجوب الغيري على نحو الترتب الطبعي بمعنى ان الواجب أولاً هو ذو المقدمة بوجوب نفسي ، ثم مقدمته بوجوب غيري ، ثم أيضاً ذو المقدمة لكن بوجوب غيري ، وعليه فلا يلزم الدور من اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة ، وانما يلزم اجتماع الوجوب النفسيّ والغيري في شيء واحد ـ وهو ذو المقدمة ـ وهذا مما لا محذور فيه أصلاً ، حيث ان مرده إلى اندكاك أحدهما في الآخر وصيرورتهما حكماً واحداً آكد. وأما التسلسل فيرد عليه ان ذات المقيد وان كانت مقومة له الا ان نسبته إليه ليست نسبة المقدمة إلى ذيها لننقل الكلام إليه ونقول أنها واجبة مطلقا أو مقيدة بالإيصال ، وحيث ان الأول خلاف الفرض فالثاني يستلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له ، بل نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب ، إذ على هذا القول المقدمة تكون مركبة من جزءين : (أحدهما) ذات المقيد (والآخر) تقيدها بقيد وهو وجود الواجب في الخارج ـ كما هو الحال في كل واجب مقيد بقيد سواء أكان وجوبه نفسياً أم كان غيرياً ، وعلى هذا فلا يبقى موضوع للقول بان ذات المقيد هل هي واجبة مطلقا أو مقيدة بالإيصال ، هذا كله على تقدير تسليم كون الواجب النفسيّ قيداً للواجب الغيري.

والتحقيق في المقام ان يقال : ان الالتزام بوجوب المقدمة الموصلة لا يستدعى اعتبار الواجب النفسيّ قيداً للواجب الغيري أصلا ، والسبب في ذلك هو ان الغرض من التقييد بالإيصال انما هو الإشارة إلى ان الواجب

٤١٤

انما هو حصة خاصة من المقدمة وهي الحصة الواقعة في سلسلة العلة التامة لوجود الواجب النفسيّ دون مطلق المقدمة. وبكلمة أخرى ان المقدمات الواقعة في الخارج على نحوين (أحدهما) ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه ـ وهو ما يقع في سلسلة علة وجوده ـ (وثانيهما) ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه ـ وهو ما لا يقع في سلسلتها ـ فالقائل بوجوب المقدمة الموصلة انما يدعى وجوب خصوص القسم الأول منهما دون القسم الثاني ، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسيّ قيداً للواجب الغيري ، فاذن لا موضوع لإشكال الدور أو التسلسل أصلا.

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان قضية الارتكاز والوجدان تقتضي وجوب خصوص هذا القسم الملازم لوجود الواجب في الخارج ، بداهة ان من اشتاق إلى شراء اللحم مثلا فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ وجوده لا مطلقا ، ولذا لو فرض ان عبده صرف المال في جهة أخرى لا في طريق امتثال امره بشراء اللحم لم يعد ممتثلاً للأمر الغيري ، بل يعاقبه على صرف المال في تلك الجهة الا إذا كان معتقداً بان صرفه في هذا الطريق يؤدي إلى امتثال الواجب في الخارج ، ولكنه في الواقع غير مؤد إليه فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه على القول بوجوب المقدمة لا مناص من الالتزام بهذا القول

(الثانية) ما عن المحقق صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (قدس‌سرهما) وملخصه هو ان ملاك الوجوب الغيري لو كان قائما بخصوص ما يترتب عليه الواجب النفسيّ خارجاً فلا بد من القول باختصاص الوجوب بخصوص السبب دون غيره كما عن صاحب المعالم (قده) وهذا مما لم يلتزم به صاحب الفصول (قده) ، وان كان ملاكه مطلق التوقف والمقدمية فهو مشترك

٤١٥

فيه بين تمام أقسام المقدمات ، وعندئذ فلا موجب للتخصيص بخصوصها

وغير خفي ان ملاك الوجوب الغيري قائم بخصوص ما يكون توأماً وملازماً لوجود الواجب في الخارج من ناحية وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل لا بمطلق المقدمة وان لم تقع في سلسلتها ، ولا بخصوص الأسباب التوليدية ، فالطهارة من الحدث أو الخبث مثلا ان وقعت في سلسلة مبادئ وجود الصلاة في الخارج فهي واجبة والا فلا ، مع انها ليست من الأسباب التوليدية بالإضافة إلى الصلاة.

(الثالثة) ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الفرض الداعي إلى إيجاب المقدمة انما هو تمكن المكلف من الإتيان بذيها نظراً إلى انه لا يتمكن من الإتيان به ابتداءً بدون الإتيان بها ، ومن المعلوم ترتب هذا الغرض على مطلق المقدمة دون خصوص الموصلة منها.

والجواب عنه ان هذا ليس الغرض من إيجاب المقدمة ، ضرورة أن التمكن من الإتيان بذيها ليس من آثار الإتيان بها ، بل هو من آثار التمكن من الإتيان بالمقدمة لوضوح انه يكفي في التمكن من الإتيان بالواجب النفسيّ وامتثاله التمكن من الإتيان بمقدمته فان المقدور بالواسطة مقدور. أضف إلى ذلك ان القدرة على الواجب لو كانت متوقفة على الإتيان بالمقدمة لجاز للمكلف تفويت الواجب بترك مقدمته ، بداهة ان القدرة ليست بواجبة التحصيل. فالنتيجة ان ما أفاده (قده) لا يمكن أن يكون غرضاً لإيجابها ، بل الغرض منه ليس الا إيصالها إلى الواجب حيث ان الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علة وجوده دون مالا يقع في سلسلتها.

(الرابعة) ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قده) أيضاً وحاصله هو ان المكلف إذا جاء بالمقدمة مع عدم الإتيان بذيها ـ وهو الواجب النفسيّ ـ فلا يخلو الحال من ان يلتزم بسقوط الأمر الغيري عنها أو بعدم

٤١٦

السقوط ، ولا مجال للثاني ، لأنه موجب التكرار ، وعلى الأول فاما ان يكون السقوط للعصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب ، والأول غير حاصل ، لفرض الإتيان بالمقدمة ، وكذا الثاني فيتعين الثالث ، وهذا هو المطلوب ، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري ، فالسقوط كاشف عن ان الواجب هو مطلق المقدمة ولو لم توصل إلى ذيها.

والجواب عنه أولا بالنقض باجزاء الواجب المركب كالصلاة مثلا فان المكلف إذا جاء بأول جزء منها ولم يأت ببقية الاجزاء فبطبيعة الحال يسأل عنه انه هل يلتزم بسقوط الأمر الضمني المتعلق به أولا يلتزم به ، والثاني لا يمكن لاستدعائه التكرار ، وعلى الأول فالسقوط لا يخلو من ان يكون بالعصيان أو بانتفاء الموضوع أو بالامتثال ، ولا يمكن الالتزام بشيء منهما ، فاذن ما هو جوابه عن ذلك فهو جوابنا عن المسألة (وثانياً) بالحل ، وملخصه هو ما عرفت من ان الواجب على هذا القول هو حصة خاصة من المقدمة وهي التي يكون وجودها توأماً وملازماً لوجود ذي المقدمة في الخارج وواقعاً في سلسلة العلة التامة لوجوده ، فإذا كانت منفكة عن ذلك ووقعت مجردة عن بقية اجزاء العلة التامة فيما ان الغرض الداعي إلى إيجابها لم يترتب عليها عندئذ فلا محالة لا تقع في الخارج على صفة الوجوب ، وعليه فبطبيعة الحال يستند سقوط الأمر الغيري إلى العصيان أو نحوه لا إلى الإتيان بالمقدمة ، لفرض انه لم يأت بما هو الواجب منها. فالنتيجة ان وجود الواجب النفسيّ في الخارج كاشف عن تحقق المقدمة فيه وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها كالشرط المتأخر ومن ذلك يظهر الحال في اجزاء الواجب النفسيّ ، فان كل واحد منها انما يقع على صفة الوجوب إذا وقع في الخارج منضما إلى بقية اجزائه ،

٤١٧

وأما إذا وقع منفكاً عنها فلا يقع على هذه الصفة ، لفرض انه ليس بجزء من الواجب.

(أدلة صاحب الفصول)

استدل صاحب الفصول (قده) على إثبات نظريته بأمور :

(الأول) ان الحاكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته انما هو العقل ومن الطبيعي انه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شيء وطلب مقدماته التي في سلسلة علة وجود ذلك الشيء في الخارج بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود الواجب ، وأما ما لا يقع في سلسلة علته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً.

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قده) بان العقل لا يفرق في الحكم بالملازمة بين الموصلة وغيرها نظراً إلى ان ملاك حكمه بالملازمة انما هو حصول التمكن للمكلف من الإتيان بالواجب من قبل الإتيان بها وهو مشترك فيه على الفرض بين تمام أنواع المقدمة. وجوابه قد ظهر مما تقدم حيث بينا ان التمكن المزبور لا يصلح ان يكون ملاكاً للوجوب الغيري وداعياً له ، لفرض انه حاصل قبل الإتيان بالمقدمة.

(الثاني) ان العقل لا يأبى عن تصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدمة الموصلة ، ومن الطبيعي ان عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعي على وجوب خصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة ، مثلا يجوز للمولى ان يقول لعبده أريد الحج وأريد المسير الّذي يوصل إلى بيت الله الحرام ولا أريد المسير الّذي لا يوصل ، ولا يسوغ له ان يقول أريد الحج ولا

٤١٨

أريد جميع مقدماته الموصلة وغيرها ، كما لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص الموصلة ، ومن الواضح ان ذلك كله آية اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

وناقش في ذلك صاحب الكفاية (قده) بأنه ليس للمولى الحكيم غير المجازف التصريح بذلك بعد ما عرفت من ان الغرض مشترك بين الجميع ـ وهو التمكن ـ وجوابه يظهر مما تقدم ، وان ما ذكره من الغرض لا يصلح أن يكون غرضاً ، وعليه فلا بأس بهذا التصريح ، بل الوجدان أصدق شاهد على جواز ذلك.

(الثالث) ان الغرض من إيجاب المقدمة انما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها في سلسلة علة وجوده والا فلا داعي للمولى في إيجاب المقدمة ، فاذن بطبيعة الحال يكون الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة ، والوجدان شاهد صدق على ذلك. فان من أراد شيئاً أراد مقدماته التي توصل إليه ، وأما ما لا يوصل إليه فهو غير مراد له ، مثلا من أراد الطبيب فبطبيعة الحال أراد مقدماته التي توصل إليه دون ما لا يوصل ، وهكذا.

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية (قده) بما يرجع إلى وجهين (أحدهما) إلى منع الصغرى (وثانيهما) إلى منع الكبرى ، اما الأول فملخصه هو ان الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة انما هو التمكن من الإتيان بالواجب النفسيّ لا ترتبه عليه خارجاً ، وهذا الغرض موجود في الموصلة وغيرها فلا موجب لتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة. وجوابه قد تبين مما سبق فلا نعيد. واما الثاني فحاصله هو أن صريح الوجدان قاض بان المقدمة التي أريد لأجل غاية من الغايات وتجردت عنها تقع على صفة لوجوب ، وعلى هذا وان سلمنا ان الغاية لوجوب المقدمة انما هي ترتب وجود ذيها عليها الا انه لا يكون قيداً للواجب بحيث لو تجرد عنه لم يقع

٤١٩

على صفة الوجوب. وجوابه واضح هو ان الشيء إذا وجب لغاية من الغايات فكيف يعقل تحقق الوجوب بدون تحقق تلك الغاية ، فإذا افترضنا ان الغاية من إيجاب المقدمة انما هي إيصالها إلى الواجب النفسيّ وترتبه عليها ، فعندئذ لو تجردت عنها ولم يترتب الواجب عليها فكيف تقع على صفة الوجوب ، ومن هنا قلنا ان وجود الواجب في الخارج كاشف عن تحقق مقدمته الواجبة وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها ، ونظير ذلك ما تقدم من ان المكلف إذا أتى بجزء من الواجب وتجرد عن بقية اجزائه لم يقع على صفة الوجوب.

وعلى الجملة فالغرض بما انه قائم بخصوص المقدمة الموصلة دون غيرها ودون الجامع بينهما فلا مقتضى لإيجاب غيرها ولو بإيجاب الجامع. فالنتيجة ان ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قده) متين جداً ولا مناص عنه لو قلنا بوجوب المقدمة.

قد يستدل على إيجاب خصوص المقدمة الموصلة بوجه آخر ، وحاصله هو انه يجوز للمولى ان ينهى عن المقدمات التي لا توصل إلى الواجب ولا يستنكر ذلك العقل مع انه يستحيل ان ينهى عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها ، ومن الطبيعي ان هذه التفرقة آية عدم وجوب مطلق المقدمة ، ووجوب خصوص الموصلة ، مثلا لو امر المولى عبده بشراء اللحم من السوق فليس له المنع عن مطلق مقدمته أو عن خصوص الموصلة منها ، ولكن له ان يمنع عن المقدمة التي لا توصل إليه ، وهذا الاستدلال منسوب إلى السيد الطباطبائي صاحب العروة (قده)

وأجاب صاحب الكفاية (قده) عن ذلك بوجهين : (الأول) ان هذا الدليل خارج عن مورد الكلام في المسألة ، فان محل الكلام انما هو في المقدمات المباحة في أنفسها ، واما إذا كان بعضها محرماً فعدم

٤٢٠