محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

العمل به في الحقيقة مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل. وبالجملة لا معني لكون التقييد خلاف الأصل الا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً. وكأنه توهم ان إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ورفع اليد عن العمل به تارة لأجل التقييد ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به وهو فاسد ، لأنه لا يكون إطلاق الا فيما جرت هناك المقدمات. نعم إذا كان التقييد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة فتأمل.

وأما شيخنا الأستاذ (قده) فقد وافق شيخنا العلامة الأنصاري (قده) في القرينة المتصلة والمنفصلة. اما في المتصلة فقد ذكر (قده) ان الواجب فيها إرجاع القيد إلى نفس المادة لسببين :

(الأول) ان رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة بما انها منتسبة ومعروضة للنسبة الطلبية متيقن على كل حال وانما الشك في رجوعه إليها بعد الانتساب ، وبما انه يحتاج إلى بيان زائد من ذكر نفس القيد فالشك فيه يدفع بالإطلاق ، ومن ذلك يظهر ان ما نحن فيه ليس من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح كونه قرينة ، بداهة انه إنما يكون كذلك فيما إذا لم يكن التقييد محتاجاً إلى مئونة أخرى مدفوعة بالإطلاق كما في موارد إجمال القيد مفهوماً ، وموارد تعقب الجمل المتعددة بالاستثناء ونحو ذلك. وأما فيما نحن فيه فحيث ان القدر المتيقن موجود في البين والمفروض ان احتمال رجوع القيد إلى المادة المنتسبة مدفوع بالإطلاق فلا

٣٤١

يمكن للمولى ان يكتفي بما ذكره من القيد لو كان مراده تقييد المادة المنتسبة دون غيرها.

(الثاني) ان القيد إذا كان راجعاً إلى المادة بعد الانتساب فلا بد ان يؤخذ مفروض الوجود كما هو شأن كل واجب مشروط بالإضافة إلى شرطه وبما ان أخذ القيد مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار يحتاج إلى عناية زائدة على ذكر ذات القيد والمفروض عدمها فبطبيعة الحال احتمال أخذه كذلك يدفع بإطلاق القيد وانه لم يلحظ كذلك ، ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه والوجه الأول وهو ان احتمال رجوع القيد إلى مفاد الهيئة في الأول يدفع بإطلاق المادة المنتسبة وفي الثاني بإطلاق القيد.

وأما في المنفصلة فلا يخلو الأمر من ان تكون القرينة المزبورة لفظية أو لبية ، وأما إذا كانت لفظية فحالها حال المتصلة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، بل الأمر فيها أوضح ، لعدم جريان شبهة احتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة فيها ، لأن المفروض انعقاد الظهور. وأما إذا كانت لبية فيجري فيه الوجهان المذكوران لدفع الشك في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة بإطلاق المادة أو إطلاق القيد. وقد تحصل مما ذكرناه انه إذا شك في رجوع القيد إلى الواجب أو الواجب فالإطلاق يقتضى رجوعه إلى الواجب.

التحقيق في المقام ان يقال : ان القيد إذا كان قيداً للهيئة واقعاً فمرده إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار من دون فرق في ذلك بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري ، وإذا كان قيداً للمادة واقعاً فمرده إلى اعتبار تقيد المادة به في مقام الجعل والإنشاء من دون فرق في ذلك أيضا بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري. غاية الأمر إذا كان غير اختياري فلا بد من أخذه مفروض الوجود ، وذلك لما تقدم من ان كون

٣٤٢

القيد غير اختياري لا يستلزم كون الفعل المقيد به أيضاً كذلك ، ضرورة ان القدرة عليه لا تتوقف على القدرة على قيده ، فان الصلاة المتقيدة إلى القبلة مثلا مقدورة مع ان قيدها ـ وهو وجود القبلة ـ غير مقدور.

فالنتيجة ان تقييد كل من الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لما اشتمل عليه الآخر من الخصوصية ، فان تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض الوجود ، وتقييد المادة مستلزم لكون التقيد به مطلوباً للمولى ، وعلى ضوء هذا الأساس فليس في البين قدر متيقن لنأخذ به وندفع الزائد بالإطلاق.

وبكلمة أخرى قد سبق في ضمن البحوث السالفة ان معنى الإطلاق هو رفض القيود عن شيء وعدم ملاحظتها معه لا وجوداً ولا عدماً ، وعلى ذلك فمعنى إطلاق الهيئة عدم اقتران مفادها عند اعتباره بوجود قيد ولا بعدمه وفي مقابله تقييده بقيد ، فان مرده إلى ان المجعول في طرفها هو حصة خاصة من الوجوب ـ وهي الحصة المقيدة بهذا القيد ـ ومعنى إطلاق المادة هو ان الواجب ذات المادة من دون ملاحظة دخل قيد من القيود في مرتبة موضوعيتها للحكم ، وفي مقابله تقييدها بخصوصية ما ، فان مفاده هو ان المولى جعل حصة خاصة منها موضوعاً للحكم ومتعلقاً له ـ وهي الحصة المقيدة بهذه الخصوصية ـ.

ومن هنا يظهر ان النسبة بين تقييد المادة وتقييد الهيئة عموم من وجه فيمكن ان يكون شيء قيداً لمفاد الهيئة دون المادة ، وذلك كما إذا افترضنا ان القيام مثلا قيد لوجوب الصلاة دونها ، فعندئذ جاز الإتيان بالصلاة جالساً بعد تحقق القيام ، بل لا مانع من تصريح المولى بذلك بقوله إذا قمت فصل قاعداً وكالاستطاعة ، فانها قيد لوجوب الحج دون الواجب ومن هنا لو استطاع شخص ووجب الحج عليه ولكنه بعد ذلك أزال الاستطاعة باختياره فحج متسكعاً صح حجه وبرئت ذمته فلو كانت الاستطاعة

٣٤٣

قيداً لنفس الحج أيضا لم يصح جزماً لفرض انتفاء قيده ، ومن هذا القبيل ما نسب إلى بعض من ان السفر قيد للوجوب دون الواجب فلو كان المكلف مسافراً في أول الوقت ثم حضر وجب عليه القصر دون التمام فالنتيجة انه لا ملازمة بين كون شيء قيداً للوجوب وكونه قيداً للواجب أيضاً.

وعلى الجملة فقد يكون الشيء قيداً للهيئة دون المادة كما عرفت ، وقد يكون قيداً للمادة دون الهيئة ، وذلك كاستقبال القبلة وطهارة البدن واللباس وما شاكل ذلك ، فانها بأجمعها تكون قيداً للمادة ـ وهي الصلاة ـ دون وجوبها وقد يكون قيداً لهما معاً ، وذلك كالوقت الخاصّ بالإضافة إلى الصلاة مثلا كزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر ، فان هذه الأوقات من ناحية كونها شرطاً لصحة الصلاة فهي قيد لها ومن ناحية انها ما لم تتحقق لا يكون الوجوب فعلياً فهي قيد له.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر ان القيد المردد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة ان كان متصلا فهو مانع عن أصل انعقاد الظهور ، لفرض احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، لوضوح ان القيد المزبور على أساس ما حققناه صالح لأن يكون قرينة على تقييد كل منهما ، ومعه لا ينعقد الظهور لهما جزماً ، فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أن المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية يقوم على أساس ما ذكره من وجود القدر المتيقن في البين وهو تقييد المادة والرجوع في الزائد إلى الإطلاق ولكن قد تقدم خطأ ذلك وعرفتم ان رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة فليس الأول متيقناً ، فاذن لا مناص من القول بالإجمال ودخول المقام في تلك الكبرى. وأما ما أفاده (قده) من ان رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة المنتسبة متيقن فهو خاطئ جداً وذلك لأن المراد من المادة المنتسبة هي المادة المتصفة بالوجوب ، والمراد

٣٤٤

من تقييدها تقييد اتصافها به ، ومن الواضح ان هذا عبارة أخرى عن تقييد مفاد الهيئة فلا يكون في مقابله ولا مغايرة بينهما الا باللفظ ، وقد سبق ان رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة فلا متيقن في البين

وان شئت فقل : ان المتيقن انما هو رجوع القيد إلى ذات المادة الجامعة بين رجوعه إليها قبل الانتساب ورجوعه إليها بعد الانتساب ، واما رجوعه إليها قبل الانتساب فهو كرجوعه إليها بعده مشكوك فيه وليس شيء منهما معلوماً. فما أفاده (قده) مبنى على عدم تحليل معنى تقييد المادة في مقابل تقييد الهيئة وما هو محل النزاع هنا. هذا في التقييد بالمتصل

وأما إذا كان منفصلا فظهور كل منهما في الإطلاق وان انعقد الا ان العلم الإجمالي بعروض التقييد على أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار فلا يمكن التمسك بشيء منهما ، وذلك لما عرفت من ان معنى تقييد المادة مطابقة هو ان الواجب حصة خاصة منها في مقابل إطلاقها ومعنى تقييد الهيئة كذلك هو ان الوجوب حصة خاصة منه في مقابل إطلاقها ، والمدلول الالتزامي للمعنى الأول هو تعلق الوجوب بتقييد المادة به والمدلول الالتزامي للثاني هو أخذه مفروض الوجود. هذا من ناحية ومن ناحية. أخرى ان الحصتين المفروضتين متباينتان فتحتاج إرادة كل منهما إلى مئونة زائدة وعناية أكثر ، وليست إحداهما متيقنة بالإضافة إلى الأخرى. فالنتيجة على ضوئهما هي : ان المكلف إذا علم بان المولى أراد بدليل منفصل إحدى الحصتين المزبورتين دون كلتيهما معاً فبطبيعة الحال لا يمكن التمسك بالإطلاق لا لدفع كون الوجوب حصة خاصة ، ولا لدفع كون الواجب كذلك ، وكذا لا يمكن التمسك به لا لنفي أخذ القيد مفروض الوجود ، ولا لنفي وجوب التقيد به ، ضرورة ان العلم الإجمالي كما يوجب وقوع التكاذب والتنافي

٣٤٥

بين الإطلاقين من الناحية الأولى ، كذلك يوجب التكاذب والتنافي بينهما من الناحية الثانية.

وبكلمة أخرى ان التمسك بالإطلاق كما لا يمكن لنفي المدلول المطابقي للتقييد كذلك لا يمكن لنفي مدلوله الالتزامي ، وذلك لأن كلا منهما طرف للعلم الإجمالي من دون خصوصية في ذلك لأحدهما ، وعليه فبطبيعة الحال يقع التكاذب بين الإطلاقين بالإضافة إلى كل منهما.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي بطلان الدعاوي المتقدمة وعدم واقع موضوعي لشيء منها وانها جميعاً تقوم على أساس عدم تنقيح ما هو محل النزاع في المقام. بيان ذلك.

اما ما ادعاه شيخنا الأنصاري (قده) من استلزام تقييد الهيئة تقييد المادة فهو مبتن على أساس تخيل ان المراد من تقييد المادة هو عدم وقوعها على صفة المطلوبية الا بعد تحقق قيد الهيئة ، وقد تقدم ان هذا المعنى ليس المراد من تقييدها ، بل المراد منه معنى آخر ، وقد سبق انه لا ملازمة بينه وبين تقييد الهيئة أصلا.

واما ما ادعاه المحقق صاحب الكفاية (قده) في خصوص القرينة المنفصلة فمبنى على توهم ان تقييد الهيئة وان لم يستلزم تقييد المادة الا انه يوجب بطلان محل الإطلاق فيها ، وهو كتقييدها في الأثر ، ولكن قد ظهر مما ذكرناه خطأ هذا التوهم وان تقييد الهيئة كما لا يستلزم تقييد المادة كذلك لا يوجب بطلان محل الإطلاق فيها وعليه فالعلم الإجمالي بوجود القرينة المنفصلة الدالة على تقييد أحدهما لا محالة يوجب سقوط كلا الإطلاقين عن الاعتبار بعد ما عرفت من عدم مزية لأحدهما على الآخر.

وأما ما ادعاه شيخنا الأستاذ (قده) فهو مبتن على أساس ان تقييد المادة متيقن وتقييد الهيئة يحتاج إلى خصوصية زائدة ومئونة أكثر ، ولكن

٣٤٦

قد تقدم فساد ذلك وان تقييد كل منهما يحتاج إلى خصوصية مباينة لخصوصية الآخر فليس في البين قدر متيقن ، ولا فرق في ذلك بين موارد القرينة المتصلة وموارد القرينة المنفصلة. نعم فرق بينهما في نقطة أخرى وهي ان القرينة إذا كانت متصلة أوجبت إجمالهما من الأول ، وإذا كانت منفصلة أوجبت سقوط إطلاقهما عن الاعتبار. وقد تحصل من ذلك ان تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة بالمعنى الّذي ذكرناه ـ وهو كون التقيد تحت الطلب كغيره من الاجزاء ـ نعم تقييدها وان استلزم تقييد المادة بمعنى آخر وهو عدم وقوعها على صفة المطلوبية الا بعد تحقق قيدها الا انه غير قابل للبحث حيث انه يترتب على تقييد الهيئة قهراً ولا صلة له بمحل البحث أصلاً.

(الواجب المعلق)

قسم المحقق صاحب الفصول (قده) الواجب إلى واجب مشروط وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد الهيئة ، ومطلق وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد المادة ، ثم قسم المطلق إلى واجب منجز وهو ما كان الواجب فيه كالوجوب حالياً ، ومعلق وهو ما كان الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً يعنى مقيداً بزمن متأخر. وان شئت قلت ان الواجب تارة مقيد بقيد متأخر خارج عن اختيار المكلف من زمان أو زماني ، وتارة أخرى غير مقيد بقيد كذلك ، وعلى الأول فالوجوب حالي والواجب استقبالي ، وعلى الثاني فكلاهما حالي ، ويمتاز هذا التقسيم عن التقسيم الأول في نقطة واحدة وهي ان التقسيم الأول بلحاظ الوجوب ، وهذا التقسيم بلحاظ الواجب ، وعليه فتوصيف الواجب بالمطلق والمشروط توصيف بحال الغير.

وقد أنكر هذا التقسيم شيخنا العلامة الأنصاري (قده) وقال بأنا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلق. ولكن

٣٤٧

غير خفي ان إنكاره (قده) للواجب المعلق يرجع في الحقيقة إلى إنكاره للواجب المشروط عند المشهور دون الواجب المعلق عند صاحب الفصول (قده) وذلك لأنه (قده) حيث يرى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وتعين رجوعه إلى المادة فبطبيعة الحال الواجب المشروط عنده ما يكون الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً وهو بعينه الواجب المعلق عند صاحب الفصول (قده) وعليه فالنزاع بينهما لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب.

وقد أشكل عليه المحقق صاحب الكفاية (قده) بما إليك قوله : «نعم يمكن أن يقال انه لا وقع لهذا التقسيم ، لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصية كونه حالياً أو استقبالياً لا يوجبه ما لم يوجب الاختلاف في المهم والا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ولا اختلاف فيه ، فان ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا كما يأتي انما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته لا من استقبالية الواجب».

والظاهر ان التزام صاحب الفصول (قده) بهذا التقسيم انما هو للتفصي عن الإشكال الّذي أورد على وجوب الإتيان بالمقدمات قبل مجيء زمان الواجب كمقدمات الحج وما شاكلها ، وسيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية وما عليه من النقد إن شاء الله تعالى.

نعم الّذي يرد عليه هو أن المعلق ليس قسماً من الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه ، وذلك لما تقدم من ان وجوب كل واجب لا يخلو من ان يكون مشروطاً بشيء من زمان أو زماني مقارن له أو متأخر عنه أو يكون غير مشروط به كذلك ولا ثالث لهما ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وعلى الأول فالواجب مشروط ، وعلى الثاني مطلق ، وعلى هذا فلا بد من ملاحظة ان وجوب الحج مثلا مشروط بيوم عرفة أو مطلق ، لا شبهة في ان ذات الفعل وهو الحج مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق

٣٤٨

التكليف به وكذا إيقاعه في زمان خاص (يوم عرفة) وأما نفس وجود الزمان فهو غير مقدور له فلا يمكن وقوعه تحت التكليف ، وبما ان التكليف لم يتعلق بذات الفعل على الإطلاق وانما تعلق بإيقاعه في زمن خاص فعلم من ذلك ان للزمان دخلا في ملاكه والا فلا مقتضى لأخذه في موضوعه وعليه فبطبيعة الحال يكون مشروطاً به ، غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر ومن هنا إذا افترضنا عدم مجيء هذا الزمان الخاصّ وعدم تحققه في الخارج من جهة قيام الساعة أو افترضنا ان المكلف حين مجيئه خرج عن قابلية التكليف بجنون أو نحوه كشف ذلك عن عدم وجوبه من الأول.

فالنتيجة ان هذا قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر لا من الواجب المطلق ، فان المشروط بالشرط المتأخر على نوعين : قد يكون متعلق الوجوب فيه أمراً حالياً ، وقد يكون امراً استقبالياً كالحج في يوم عرفة ، وكلاهما مشروط ، فما سماه في الفصول بالمعلق هو بعينه هذا النوع الثاني من المشروط بالشرط المتأخر ، وعليه فجعله من المطلق خطأ محض وقد ذكرنا انه لا بأس بالالتزام به ثبوتاً. نعم وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل ، وقد أشرنا إلى ان ظاهر قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت ... إلخ» وقوله عزوجل : «فمن شهد منكم الشهر ... إلخ» هو ذلك وقد تحصل من ذلك انه لا يرد على هذا التقسيم شيء عدا ما ذكرناه ، وكيف كان فقد يقال كما قيل باستحالة هذا النوع من الواجب ، واستدل على ذلك بعدة وجوه.

الأول ما حكاه المحقق صاحب الكفاية (قده) عن بعض معاصريه ، وملخصه ان الإرادة لا يمكن ان تتعلق بأمر متأخر بلا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، إذا لا فرق بينهما الا في ان الأولى تتعلق بفعل نفس المريد ، والثانية تتعلق بفعل غيره. ومن المعلوم ان الإيجاب والطلب بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد ، فكما ان الإرادة التكوينية لا تنفك

٣٤٩

عن المراد زمناً حيث انها لا تنفك عن التحريك وهو لا ينفك عن الحركة خارجاً وان تأخرت عنه رتبة ، فكذلك الإرادة التشريعية لا تنفك عن الإيجاب زمناً وهو غير منفك عن تحريك العبد في الخارج ، ولازم ذلك استحالة تعلق الإيجاب بأمر استقبالي ، لاستلزامه انفكاك الإيجاب عن التحريك وهو مستحيل ، وبما ان الالتزام بالواجب المعلق يستلزم ذلك فلا محالة يكون محالا.

وأجاب صاحب الكفاية (قده) عن ذلك بما هو لفظه : «قلت فيه ان الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر حالي وهو أوضح من ان يخفى على عاقل فضلا عن فاضل ، ضرورة ان تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المئونة ليس الا لأجل تعلق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إياه لا يكاد يحمله على التحمل الا ذلك ، ولعل الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد ، وتوهم ان تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد وقد غفل عن ان كونه محركاً نحوه يختلف حسب اختلافه في كونه مما لا مئونة له كحركة نفس العضلات أو مما له مئونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات يكون أعم من ان يكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع ان يكون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشوق الّذي يكون هو الإرادة وان لم يكن هناك فعلا تحريك ، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق امراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة ان شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك ، هذا مع انه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة ان البعث انما يكون لإحداث الداعي للمكلف

٣٥٠

إلى المكلف به بان يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو امر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب.

وملخص ما أفاده (قده) امران : (الأول) ان الإرادة مرتبة خاصة من الشوق الحاصل في أفق النّفس ، وهي المرتبة التي يكون من شأنها انبعاث القوة العاملة في العضلات لتحريكها نحو المراد ، غاية الأمر إذا كان امراً حالياً فهي توجب تحريكها نحوه حالا ، وإذا كان امراً استقبالياً فان كانت له مقدمة خارجية فكذلك ، وان لم تكن له مقدمة خارجية غير مجيء زمانه لم توجب التحريك ، مع انه بهذه المرتبة الخاصة موجود في عالم النّفس ، فأخذ الوصف المزبور في تعريف الإرادة انما هو للإشارة إلى انها عبارة عن تلك المرتبة الخاصة وان لم توجب التحريك فعلا من جهة عدم الموضوع لا من جهة قصور فيها ، فاذن لا مانع من تعلق الإرادة بأمر متأخر كما تتعلق بأمر حالي ، وهذا لعله من الواضحات.

(الثاني) انه لا شبهة في انفكاك الوجوب عن متعلقه زماناً وتأخره عنه كذلك ، بداهة ان الغرض من البعث انما هو احداث الداعي للمكلف نحو الفعل ، ومن الواضح ان الداعي إلى إيجاده انما يحصل بعد تصور الأمر وما يترتب عليه ، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى زمان ما لو كان في غاية القصر ، فإذا جاز الانفكاك بينهما في ذلك جاز في زمن طويل أيضاً ، لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان.

وينبغي لنا ان نتعرض لنقده على الشكل التالي : ان أريد بالإرادة الشوق النفسانيّ إلى شيء الحاصل في أفق النّفس من ملائمتها له أو ملائمة إحدى قواها ، وهي التي توجب هيجانها وميلها إليه إلى ان بلغ حد العزم والجزم

٣٥١

فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة ان الشوق النفسانيّ كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي ، وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان ، بل هو امر وجداني ضروري يعلمه كل ذي وجدان بمراجعة وجدانه ، بل ولا مانع من تعلقه بالأمر الممتنع كالجمع بين الضدين أو النقيضين أو ما شاكل ذلك فضلا عن الأمر الممكن المتأخر ، كاشتياق الإنسان إلى دخول الجنة والتلبس بالملاذ الأخروية. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد ذكرنا سابقاً بشكل موسع ان الإرادة بهذا المعنى مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو الفعل.

وان أريد بها الاختيار وإعمال القدرة فقد سبق الكلام في ذلك بصورة موسعة وانها لا تتعلق بفعل الغير بلا فرق بين اختياره عزوجل وإعمال قدرته واختيار غيره. نعم له تعالى إيجاد الفعل عن الغير بإيجاد أسبابه ولكنه أجنبي عن تعلق مشيئته تعالى واختياره به مباشرة ، بل قد عرفت انها لا تتعلق بفعل الإنسان نفسه إذا كان في زمن متأخر فضلا عن فعل غيره ومن هنا لا يمكن تعلقها بالمركب من اجزاء طولية زمناً وتدريجية وجوداً دفعة واحدة الا على نحو تدريجية اجزائه ، وذلك كالصلاة مثلا ، فانه لا يمكن إعمال القدرة على القراءة قبل التكبيرة وهكذا. هذا من جانب ومن جانب آخر قد سبق منا أيضاً انه لا أصل للإرادة التشريعية في مقابل الإرادة التكوينية سواء أكانت الإرادة بمعنى الشوق النفسانيّ أو بمعنى الاختيار وإعمال القدرة ، اما على الأول فلان الإرادة عبارة عن ذلك الشوق الحاصل في أفق النّفس ، ومن الطبيعي انه لا يختلف باختلاف متعلقه فقد يكون متعلقه امراً تكوينياً وقد يكون امراً تشريعياً وقد يكون فعل الإنسان نفسه وقد يكون فعل غيره ، وتسمية الأول بالإرادة التكوينية ، والثاني بالتشريعية لا تتعدى عن مجرد الاصطلاح بلا واقع موضوعي لها أصلا. وأما على

٣٥٢

الثاني فواضح ، ضرورة ان إعمال القدرة لا تختلف باختلاف متعلقها ، فان متعلقها سواء أكان من التشريعيات أو التكوينيات فهو واحد حقيقة وذاتاً فتحصل انا لا نعقل للإرادة التشريعية معنى محصلا في مقابل الإرادة التكوينية.

نعم قد يقال كما قيل ان المراد منها الطلب والبعث باعتبار انه يدعو المكلف إلى إيجاد الفعل في الخارج وفيه ان تسمية ذلك بالإرادة التشريعية وان كان لا بأس بها الا انه لا يمكن ترتب أحكام الإرادة التكوينية عليه بداهة انه امر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار فلا يقاس هذا بالإرادة والاختيار أصلا ، ولا جامع بينهما حتى يوجب تسرية حكم أحدهما إلى الآخر ، فعدم تعلق الإرادة بالأمر المتأخر زمناً لا يستلزم عدم تعلقه به أيضاً ، وقد تقدم ان ما اعتبره المولى قد يكون متعلقه حالياً ، وقد يكون استقبالياً ، وقد يكون كلاهما استقبالياً ، وذلك كما إذا اعتبر شخص ملكية منفعة داره مثلا لآخر بعد شهر ، فان المعتبر ـ وهو الملكية ـ ومتعلقه ـ وهو المنفعة ـ كليهما استقبالي ، والحالي انما هو الاعتبار فحسب ، وهذا ربما يتفق وقوعه في باب الإجارة وفي باب الوصية كالوصية بالملك بعد الموت ، ومن الواضح انه لا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعيّة ، وقد تحصل من ذلك ان في تسرية أحكام الإرادة على الطلب والبعث مغالطة ظاهرة ولا منشأ لها إلا الاشتراك في الاسم.

فقد انتهينا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة وهي انه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلق بالمعنى الّذي ذكرناه وهو كون وجوبه مشروطاً بشرط متأخر.

(الثاني) ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من ان القيود الراجعة إلى الحكم المأخوذة في موضوعه بشتى ألوانها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام

٣٥٣

الاعتبار والجعل فلا يجب على المكلف تحصيل شيء منها وان كان مقدوراً كالاستطاعة ، ومن الواضح ان فعلية الحكم في مثل ذلك انما هي بفعلية تلك القيود فلا تعقل فعليته قبل فعليتها وتحققها في الخارج ، وعلى هذا الأساس بنى على استحالة الشرط المتأخر. ولكن قد تقدم الكلام في مسألة الشرط المتأخر بصورة مفصلة في بيان ذلك الأساس وما فيه من النقد والإشكال فلا نعيد.

(الثالث) ما قيل كما في الكفاية من ان التكليف مشروط بالقدرة ، وعليه فلا بد أن يكون المكلف حين توجيه التكليف إليه قادراً فلو التزمنا بالواجب المعلق لزم عدم ذلك وجوابه واضح وهو ان القدرة المعتبرة في صحة التكاليف انما هي قدرة المكلف في ظرف العمل وان لم يكن قادراً في ظرف التكليف.

ثم ان الّذي دعا صاحب الفصول (قده) إلى الالتزام بالواجب المعلق هو عدة فوائد تترتب عليه : منها دفع الإشكال عن إيجاب مقدمات الحج قبل الموسم ، حيث يلزم على المكلف تهيئة لوازم السفر ووسائل النقل وما شاكل ذلك قبل مجيء زمان الواجب وهو يوم عرفة إذ لو لم نلتزم به لم يمكن الحكم بإيجابها قبل موسمه ، كيف حيث ان وجوب المقدمة معلول لإيجاب ذيها فلا يعقل وجود المعلول قبل وجود علته. وعلى ضوء الالتزام بحالية الوجوب في أمثال هذا المورد يندفع الإشكال رأساً ، وذلك لأن فعلية وجوب المقدمة تتبع فعلية وجوب الواجب وان لم يكن نفس الواجب فعلياً. ومنها دفع الإشكال عن وجوب الغسل على المكلف كالجنب أو الحائض ليلا لصوم غد ، فانه لو لا التزام بحالية الوجوب في مثله كيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في الليل ، مع أن الصوم لا يجب الا من حين طلوع الفجر. ومنها دفع الإشكال عن وجوب التعلم قبل دخول وقت

٣٥٤

الواجب كتعلم أحكام الصلاة ونحوها قبل وقتها فلو لا وجوب تلك الصلوات قبل دخول أوقاتها لم يكن تعلم أحكامها واجباً. ومنها دفع الإشكال عن وجوب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحج.

ويمكن ان نأخذ بالمناقشة فيه وهي ان دفع الإشكال المزبور عن تلك الموارد وما شاكلها لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي ، إذ كما يمكن دفع الإشكال به يمكن دفعه بالالتزام بوجوبها نفسياً ، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها ، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها فيكون وجوبها للغير لا بالغير ، اذن تكون هذه المقدمات واجبة مع عدم وجوب ذيها فعلاً ، ومع الإغماض عن ذلك يمكن دفعه بالالتزام بحكم العقل بلزوم الإتيان بها بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه حيث انه لا يفرق في القبح بين تفويت الملاك الملزم في موطنه ومخالفة التكليف الفعلي ، فكما يحكم بقبح الثاني يحكم بقبح الأول ، وبما انه يدرك ان الحج في ظرفه ذو ملاك ملزم وانه لو لم يأت بمقدماته من الآن لفات منه ذلك الملاك يستقل بلزوم إتيانها قبل أوانه ولو بشهر أو أكثر أو أقل.

نعم ظواهر الأدلة في مسألتي الحج والصوم تساعد ما التزم به في الفصول من كون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ، فان قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ظاهر في فعلية وجوب الحج عند فعلية الاستطاعة ، كما ان قوله عزوجل (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ظاهر في فعلية وجوب الصوم عند شهود الشهر ، والشهود كناية عن أحد أمرين : اما الحضور في مقابل السفر ، وأما رؤية الهلال ، وعلى كلا التقديرين فالآية تدل على تحقق وجوب الصوم عند تحقق الشهود. نعم ظواهر الأدلة في الصلوات الخمس لا تساعده ، فان قوله عليه‌السلام إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ظاهر في تحقق الوجوب بعد الزوال ،

٣٥٥

وكيف كان فقد ذكرنا ان الشرط المتأخر وان كان ممكناً في نفسه ولا مانع من الالتزام به الا ان وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل ففي كل مورد دل الدليل عليه فهو والا فلا نقول به. نعم لو قلنا باستحالته فلا بد من رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلة.

وبكلمة أخرى ينبغي لنا ان نتكلم حول هذه المسألة في مقامين : (الأول) على القول بإمكان الواجب التعليقي ووقوعه في الخارج (الثاني) على القول باستحالته أو عدم وقوعه وان قلنا بإمكانه.

أما المقام الأول فلا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمات التي لو لم يأت بها لفات الواجب عنه في ظرفه من دون فرق فيه بين القول بوجوب المقدمة شرعاً والقول بعدم وجوبها كذلك ، أما على الأول فواضح. وأما على الثاني فلاستقلال العقل بذلك بعد إدراكه توقف الإتيان بالواجب عليها حيث ان وجوبه فعلى على الفرض ، ومن المعلوم ان العقل يستقل في مثله بلزوم امتثاله فلو توقف على مقدمات حكم بلزوم الإتيان بها أيضاً لأجل ذلك. وعلى الجملة فعلى ضوء هذا القول لا فرق بين المقدمات التي لا بد من الإتيان بها قبل وقت الواجب كمقدمات الحج ، والغسل في الليل ، وما شاكل ذلك وبين غيرها من المقدمات العامة فيما إذا علم المكلف بأنه لو لم يأت بها قبله عجز عنها في وقته ، ، فانه كما يحكم بلزوم الإتيان بالأولى يحكم بلزوم الإتيان بالثانية ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية.

وإليه أشار ما في الكفاية من أن الوجوب لو صار فعلياً لوجب حفظ القدرة على المقدمات في مورد يعلم المكلف انه يعجز عن الإتيان بها في زمن الواجب. فالنتيجة هي لزوم الإتيان بتمام مقدمات الواجب المعلق قبل زمانه أو التحفظ عليها إذا كانت حاصلة فيما إذا علم المكلف بعدم تمكنه منها في وقته. نعم المقدمات التي اعتبرت من قبلها القدرة الخاصة

٣٥٦

وهي القدرة في ظرف العمل فلا يجب تحصيلها قبل مجيء وقته ، بل يجوز تفويتها اختياراً ، بل ولا مانع منه في بعض الموارد بعد الوقت ، وذلك كإجناب الرّجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله بعد دخول وقت الصلاة وهو بعلم بعدم تمكنه من الطهارة المائية بعده ، فانه يجوز ذلك حيث ان القدرة المعتبرة هنا قدرة خاصة ـ وهي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله ـ وستجيء الإشارة إلى ذلك. وأما إجناب نفسه بطريق آخر كالنوم أو نحوه في الوقت مع علمه بعدم التمكن من الطهارة المائية فلا يجوز. وعلى الجملة فالواجبات في الشريعة الإسلامية المقدسة تختلف من هذه الناحية أي من ناحية اعتبار القدرة فيها من قبل مقدماتها فقد تكون قدرة مطلقة ، وقد تكون قدرة خاصة ، فعلى الأول يجب الإتيان بها ولو قبل دخول وقتها دون الثاني ، هذا بحسب مقام الثبوت واما بحسب مقام الإثبات فالمتبع في ذلك دلالة الدليل.

وأما المقام الثاني وهو ما إذا افترضنا استحالة الواجب المعلق أو قلنا بإمكانه ولكن فرضنا عدم مساعدة الدليل على وقوعه ، وذلك كوجوب تعلم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ ، إذ لو قلنا بعدم وجوبه عليهم كما هو الصحيح وستجيء الإشارة إليه فلازمه جواز تفويت الصلاة أول بلوغهم مقداراً من الزمن يتمكنون من التعلم فيه ، ولا يمكن الالتزام بوجوب التعلم من ناحية سبق وجوب الصلاة أو نحوها على البلوغ وان قلنا بإمكان الواجب المعلق ، وذلك لفرض عدم التكليف على الصبيان فالنتيجة أن الإشكال في المقدمات المفوتة في أمثال هذه الموارد ، وانه كيف يمكن الحكم بوجوبها مع عدم وجوب ذيها. وقبل التعرض لدفع الإشكال وبيان الأقوال فيه ينبغي تقديم امرين :

(الأول) ان ما اشتهر بين الأصحاب من ان الامتناع بالاختيار لا ينافى

٣٥٧

الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً في غاية الصحة والمتانة فلو اضطر الإنسان نفسه باختياره إلى ارتكاب محرم كما لو دخل في الأرض المغصوبة أو ألقى نفسه من شاهق أو ما شاكل ذلك فعندئذ وان كان التكليف عنه ساقطاً ، لكونه لغواً صرفاً بعد فرض خروج الفعل عن اختياره ، وأما عقابه فلا قبح فيه أصلا وذلك لأن هذا الاضطرار حيث انه منته إلى الاختيار فلا يحكم العقل بقبحه أبداً.

وناقش في هذه القاعدة طائفتان : فعن أبي هاشم المعتزلي ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً ، وكان للمولى في المثالين المذكورين ان ينهى عن التصرف في مال الغير بدون اذنه ، ويأمر بحفظ نفسه بدعوى انه لا مانع من التكليف بغير المقدور إذا كان مستنداً إلى سوء اختياره ، ويظهر اختيار هذا القول من المحقق القمي (قده) أيضاً. وفي مقابل هذا القول ادعى جماعة منافاته للاختيار عقاباً وخطاباً. اما الخطاب فهو واضح. لأنه لغو صرف. واما العقاب فلأنه عقاب على غير مقدور وهو قبيح عقلا.

ولنأخذ بالنقد على كلا القولين : اما القول الأول فلان الغرض من التكليف هو احداث الداعي للمكلف بالإضافة إلى المكلف به ، وعليه فان كان المكلف به مقدوراً لم يكن التكليف به لغواً حيث انه يمكن ان يصير داعياً إليه ، وان لم يكن مقدوراً كان التكليف به لغواً محضاً ، لعدم إمكان كونه داعياً ، ومن الواضح انه لا فرق في هذه النقطة بين ان يكون مستند عدم القدرة سوء الاختيار أو غيره ، بداهة ان عدم القدرة المسبب عن سوء الاختيار لا يصحح تكليف المولى لغير القادر وإلا لجاز للمولى ان يأمر عبده بالجمع بين الضدين معلقا على امر اختياري كالصعود على السطح أو نحو ذلك وهو باطل قطعاً حتى عند القائل بهذا القول. واما القول الثاني فلان الخطاب وان كان لغواً كما عرفت الا انه لا مانع من

٣٥٨

العقاب ، وذلك لأن المكلف حيث كان متمكناً في بداية الأمر ان لا يجعل نفسه مضطراً إلى ارتكاب الحرام ومع ذلك لو جعل نفسه كذلك بسوء اختياره وارتكب الحرام حكم العقل باستحقاقه العقاب لا محالة ، لأنه منته إلى اختياره ، ومن الطبيعي ان العقل لا يفرق في استحقاق العقاب على فعل الحرام بين كونه مقدور الترك بلا واسطة أو معها ، وانما يحكم بقبح استحقاقه على ما لا يكون مقدوراً له أصلا. فالنتيجة ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً.

نعم قد تستعمل هذه القاعدة في مقام نقد نظرية الجبر وعدم الاختيار للعبد ، ولكنه بمعنى آخر ، والفرق بين المعنيين هو ان المراد من الامتناع هنا الامتناع الوقوعي ، والمراد من الامتناع هناك هو الامتناع بالغير وهو اختيار العبد وإرادته. وقد تقدم الكلام فيها من هذه الناحية بشكل موسع عند ما تعرضنا لنظرية الجبر ونقدها.

(الثاني) انه لا فرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الإلزامي الفعلي وبين تفويت حقيقة التكليف وروحه ـ وهو الملاك التام الملزم الّذي يدعو المولى إلى اعتبار الإيجاب تارة ، وإلى جعل التحريم تارة أخرى ، فإذا أحرز العبد ذلك الملاك في فعل وان علم بعدم التكليف به استحق العقاب على تفويته من دون فرق في ذلك بين أن يكون المانع من التكليف قصوراً في ناحية المولى نفسه ، كما إذا كان غافلا أو نائماً واتفق في هذا الحال غرق ولده أو حرقه وكان عبده متمكناً من إنقاذه ، فعندئذ لو خالف ولم ينقذه فلا شبهة في استحقاقه العقاب ، أو قصوراً في ناحية العبد ، كما إذا علم بان الملاك تام في ظرفه وانه لو لم يحفظ قدرته عليه لم يكن قابلا لتوجيه التكليف إليه ، فعندئذ لو خالف وعجز في ظرف التكليف عن امتثاله ، فعجزه هذا وان كان مانعاً عن توجه التكليف إليه ، لعدم القدرة الا انه

٣٥٩

يستحق العقاب على تفويت الغرض الملزم فيه حيث كان قادراً على حفظ قدرته واستيفائه. فالنتيجة انه لا فرق عند العقل في الحكم باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الفعلي وبين تفويت الغرض الملزم فيما لا يمكن جعل التكليف على طبقه.

وبعد ذلك نقول : الكلام هنا يقع في مقامين : (الأول) في غير التعلم من المقدمات (الثاني) في التعلم.

أما المقام الأول فالكلام فيه تارة يقع في مقام الثبوت ، وأخرى في مقام الإثبات. اما الكلام في مقام الثبوت فيتصور على وجوه :

(الأول) : ان يكون ملاك الواجب تاماً والقدرة المأخوذة فيه من قبل مقدماته هي القدرة العقلية وغير دخيلة في ملاكه وذلك كحفظ بيضة الإسلام أو حفظ النّفس المحترمة أو ما شاكل ذلك إذا افترضنا ان المكلف علم بأنه لو تحفظ على قدرته هذه أو لو أوجد المقدمة الفلانية لتمكن من حفظ بيضة الإسلام أو النّفس المحترمة بعد شهر مثلا والا لم يقدر عليه ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يستقل العقل بوجوب التحفظ عليها أو بلزوم الإتيان بها لئلا يفوته الملاك الملزم فيه في ظرفه ، وقد عرفت عدم الفرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة الأمر أو النهي الفعلي وتفويت الملاك الملزم ، وكذا الحال لو كان عدم فعلية التكليف من ناحية عدم دخول الوقت أو عدم حصول الشرط إذا افترضنا ان ملاك الواجب تام في ظرفه ، والقدرة فيه شرط عقلي فلا دخل لها بملاكه أصلا ، وذلك كما إذا فرض ان ملاك الحج مثلا تام في وقته وقد أحرزه المكلف ولم يكن التكليف المتعلق به فعلياً اما من ناحية استحالة الواجب التعليقي أو من ناحية عدم مساعدة الدليل عليه ففي مثله لا محالة يحكم العقل بوجوب الإتيان بتمام مقدماته التي لها دخل في تمكن المكلف من امتثاله في ظرفه

٣٦٠