محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

إذا كان في مقام بيان تمام الوظيفة الفعلية للمكلف بهذه الأدلة ، ومع ذلك سكت عن بيان وجوب القضاء عليه في خارج الوقت فبطبيعة الحال كان مقتضى إطلاقها المقامي عدم وجوبه والا كان عليه البيان. وعلى الجملة فلا قصور في أدلة الأوامر الاضطرارية كقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً إلخ وقوله عليه‌السلام «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» وما شاكلهما غير قاصرة عن إثبات وجوب الفعل الناقص على المكلف في الوقت ، وعدم وجوب القضاء عليه في خارج الوقت. هذا إذا كان لها إطلاق وأما مع عدمه فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو في المقام أصالة البراءة عن وجوب القضاء للشك فيه وعدم الدليل عليه. وان شئت قلت : ان وجوب القضاء حيث كان بأمر جديد سواء أكان موضوعه فوت الفريضة أم كان فوت الواقع بملاكه فلا علم لنا به في المقام. اما على الأول فواضح ، لفرض عدم فوات الفريضة من المكلف في الوقت وأما على الثاني فلاحتمال ان يكون المأمور به بالأمر الاضطراري مشتملا على تمام ملاك الواقع فلا يفوت منه الواقع بملاكه ، ومن الواضح ان وجوب القضاء مع الشك فيه وعدم قيام دليل عليه مورد لأصالة البراءة ، ولا خصوصية له من هذه الناحية فنتيجة هذه المسألة هي اجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدم وجوب قضائه في خارج الوقت.

ثم ان الاضطرار قد يكون بغير اختيار المكلف ، وقد يكون باختياره اما الأول فقد تقدم حكمه بشكل موسع فلا نعيد. وأما الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار باختياره كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوئه أو غسله فأراقه فأصبح فاقداً للماء ، أو كان عنده ثوب طاهر فأنجسه وبذلك اضطر إلى الصلاة في ثوب نجس ، أو كان متمكناً من الصلاة قائماً فأعجز نفسه عن القيام وهكذا فهل تشمل إطلاقات الأوامر الاضطرارية لهذه الموارد أم لا؟

٢٤١

وجهان : والظاهر هو الثاني ، والسبب في ذلك هو ان تلك الإطلاقات بمقتضى الظهور العرفي وارتكازهم منصرفة عن الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته ، لوضوح ان مثل قوله تعالى (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً إلخ ظاهر بمقتضى المتفاهم العرفي فيما إذا كان عدم وجدان الماء والاضطرار إلى التيمم بطبعه وبغير اختيار المكلف ومنصرفة عما إذا كان باختياره. وكذا قوله عليه‌السلام «إذا قوى فليقم» وما شاكل ذلك. وعلى الجملة فلا شبهة في ان الظاهر من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي هو اختصاصها بخصوص الاضطرار الطارئ على الكلف بغير اختياره فلا تشمل ما كان طارئا بسوء اختياره.

وعلى هذا الضوء لا يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره وإرادته فلو كان عنده ماء مثلا لم يجز إهراقه وتفويته إذا علم بعدم وجدانه الماء في مجموع الوقت ، ولو فعل ذلك استحق العقوبة على ترك الواجب الاختياري التام أو على تفويت الملاك الملزم في محله ، ومن الواضح ان العقل لا يفرق في الحكم باستحقاق العقاب بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه إذا كان كذلك ، فكما يحكم بقبح الأول واستحقاق العقوبة عليه فكذلك في الثاني هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد اتضح مما ذكرناه انه لا أمر في موارد الاضطرار الاختياري لنبحث عن ان امتثاله مجز عن الواقع أو لا؟ هذا حسب ما تقتضيه القاعدة.

ولكن في باب الصلاة خاصة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف بحال فلو عجز نفسه باختياره عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائية أو في ثوب طاهر وجبت الصلاة عليه قاعداً أو مع الطهارة الترابية أو في ثوب متنجس وان استحق العقاب على ترك ما هو وظيفة المختار ، لأن الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار لم يمنع من العقاب.

٢٤٢

فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان مقتضى القاعدة سقوط الأمر الأول عن المركب بسقوط جزئه أو قيده ، وإثبات الأمر للفاقد يحتاج إلى دليل ، والأدلة الاضطرارية تختص بصورة الاضطرار غير الاختياري ، ولا تشمل الاضطرار الاختياري ، وعندئذ ففي كل مورد من موارد الاضطرار الاختياري قام دليل خاص على وجوب الإتيان بالفاقد كما في باب الصلاة فهو والا فلا يجب. هذا كله في غير موارد التقية.

وأما فيها فالظاهر عدم الفرق بين صورتي الاختيار وغيره ، وذلك لإطلاق أدلة التقية ، ومقتضاه جواز الإتيان بالعمل تقية مع التمكن من الإتيان بدونها. ومن هنا أفتى المشهور بان من تمكن من الصلاة في موضع خال عن التقية لا يجب عليه ذلك ، بل يجوز له الإتيان بها مع العامة تقية ، وكذلك الحال في الوضوء فالنتيجة ان في موارد التقية يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره عن الإتيان بالعمل بدونها ، كما يجوز له البدار إليها ، ولا تجب الإعادة إذا ارتفعت في الأثناء ولا الفضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت. ولكن قد أشرنا في ضمن البحوث السالفة ان موارد التقية خارجة عن محل الكلام في المقام.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نتائج : الأولى : ان الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري لا يجزى عن الواقع إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت ، (الثانية) : ان الإتيان به مجز عنه إذا كان العذر مستوعباً لتمام الوقت. (الثالثة) : ان إطلاقات الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته الا في موارد التقية. (الرابعة) : ثبوت الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الاجزاء عن الواقع. أو فقل ثبوت الملازمة بين جواز البدار واقعاً والاجزاء هذا بحسب نظريتنا من وجود الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الاجزاء عن الواقع في مقام الثبوت ، ومعه لا حاجة في الرجوع إلى أدلة أخرى لإثبات

٢٤٣

ذلك ولا تصل النوبة إلى البحث عن وجود هذه الأدلة في مقام الإثبات. ولكن لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمقالة صاحب الكفاية (قده) فعندئذ بطبيعة الحال نحتاج في إثبات ذلك إلى التماس دليل اجتهادي أو أصل عملي.

وأما الدليل الاجتهادي فصوره أربع : (الأولى) ان يكون كل من دليل الأمر الاضطراري ، ودليل اعتبار الجزئية أو الشرطية مطلقا.

(الثانية) : أن يكون لدليل اعتبار الجزئية أو الشرطية إطلاق دون دليل الأمر الاضطراري. (الثالثة) بعكس ذلك بان يكون لدليل الأمر الاضطراري إطلاق دون دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية (الرابعة) : ان لا يكون لشيء من الدليلين إطلاق.

أما الصورة الأولى فلا ينبغي الشك في ان إطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية ، وذلك لحكومته عليه ومن الطبيعي ان إطلاق دليل الحاكم يتقدم على إطلاق دليل المحكوم كما هو الحال في تقديم جميع الأدلة المتكفلة لإثبات الأحكام بالعناوين الثانوية كأدلة لا ضرر ولا حرج وما شاكلهما على الأدلة المتكفلة لإثباتها بالعناوين الأولية. وعلى ضوء ذلك فقضية إطلاق الأمر الاضطراري من ناحية وتقديمه على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية أخرى هي الاجزاء وعدم وجوب الإعادة حتى فيما إذا ارتفع الاضطرار في الوقت فضلا عن خارج الوقت ، والسبب في ذلك هو ان الإطلاق كاشف عن ان الفعل الاضطراري تمام الوظيفة وانه واف بملاك الواقع والا لكان عليه البيان ، ولازمه بطبيعة الحال عدم إعادة العمل حتى في الوقت فما ظنك بخارج الوقت وأما الصورة الثانية فمقتضى إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية هو عدم سقوطهما في حال الاضطرار. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا إطلاق لدليل الأمر الاضطراري على الفرض. فالنتيجة بطبيعة الحال

٢٤٤

هي عدم الاجزاء ووجوب الإعادة إذا عادت القدرة للمكلف.

وأما الصورة الثالثة فهي بعكس الصورة الثانية تماماً يعنى ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الاضطراري من ناحية وعدم إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية أخرى هو الاجزاء لا محالة وعدم وجوب الإعادة عند إعادة القدرة.

وأما الصورة الرابعة فحيث انه لا إطلاق لكل من الدليلين فالمرجع فيها هو الأصول العملية ، وقد اختلفت كلمات الاعلام فيها فذهب المحقق صاحب الكفاية (قده) إلى ان الأصل هنا يقتضي البراءة عن وجوب الإعادة بتقريب ان الفعل الاضطراري حيث كان متعلقاً للأمر واقعاً ولذا جاز البدار إليه والمفروض ان المكلف أتى به فعندئذ إذا ارتفع العذر في الوقت وعادت القدرة بطبيعة الحال شك في أصل وجوب الإعادة وهو مرجع لأصالة البراءة ، كما إذا شك في وجوب القضاء. وغير خفي ان أفاده (قده) مبني على جواز البدار واقعاً في مثل المقام ، فعندئذ لا مناص من القول بالاجزاء ، لما تقدم من الملازمة بينه وبين وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري بتمام ملاك الواقع واجزائه عنه ، وعليه فلو شك في وجوب الإعادة بعد ارتفاع العذر طبعاً يكون شكاً في أصل التكليف ، ومقتضى الأصل عدمه الا انك قد عرفت في ضمن البحوث السابقة أنه لا دليل على جواز البدار واقعاً فيما إذا لم يكن العذر مستوعباً لمجموع الوقت كما هو المفروض في المقام ، وعليه فلا مناص من القول بعدم الاجزاء ووجوب الإعادة بعد ارتفاع العذر.

وذهب بعض الأعاظم (قده) إلى ان مقتضى الأصل هنا الاشتغال دون البراءة ، وقد قرب ذلك بوجهين :

(الأول) ان الشك في وجوب الإعادة فيما إذا ارتفع العذر في الوقت

٢٤٥

نشأ من الشك في القدرة على استيفاء المصلحة الباقية من العمل الاختياري وهذا وان كان شكاً في أصل التكليف ، ومقتضى الأصل فيه البراءة الا انه لما كان ناشئاً من الشك في القدرة فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال ، لما تقرر في محله من ان الشك في التكليف إذا كان ناشئاً عن الشك في في القدرة على الامتثال فهو مورد لحكم العقل بالاشتغال دون البراءة كما لا يخفى.

(الثاني) ان المقام داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ببيان انا نعلم إجمالا بان الجامع بين الفعل الاضطراري والاختياري مشتمل على مقدار من المصلحة ، ولكنا نشك في ان المقدار الباقي من المصلحة الملزمة أيضا قائم بالجامع لتكون نتيجته التخيير بين الإتيان بالفعل الاضطراري والإتيان بالفعل الاختياري ، ولازم ذلك هو اجزاء الإتيان بالفعل الاضطراري عن الواقع لأن المكلف مع الإتيان به قد امتثل الواجب في ضمن أحد فرديه ـ وهو الاضطراري ـ أو انه قائم بخصوص الفرد الاختياري ، لتكون نتيجته التعيين ، ولازمه عدم اجزائه عنه ، لفرض انه غير واف بتمام مصلحته فلا بد عندئذ من الإتيان به ثانياً ، وحيث اننا لا نحرز هذا ولا ذاك بالخصوص فبطبيعة الحال نشك في ان التكليف في المقام هل تعلق بالجامع أو بخصوص الفرد الاختياري ، وهذا معنى دوران الأمر بين التعيين والتخيير والمرجع فيه التعيين بقاعدة الاشتغال.

ولنأخذ بالنقد على كلا الوجهين : أما الوجه الأول فلما حققناه في محله من انه لا فرق في الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشك في التكليف بين ان يكون منشائه الشك في القدرة أو الشك من جهة أخرى كعدم النص أو إجماله أو تعارض النصين أو نحو ذلك ، ضرورة عدم الفرق بينهما ولا موجب لتقييد أصالة البراءة بغير الموارد الأول ، فانه بلا دليل ومقتض ،

٢٤٦

وتمام الكلام في محله. وأما الوجه الثاني فلان ما أفاده (قده) من دوران الأمر في المقام بين التعيين والتخيير وان كان صحيحاً إلا ان ما ذكره (قده) من ان المرجع فيه قاعدة الاشتغال خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، والسبب في ذلك هو اننا قد حققنا في موطنه ان المرجع في كافة موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة البراءة دون قاعدة الاشتغال الا في موردين (الأول) فيما إذا دار الأمر بينهما في الحجية كما إذا دل دليل على وجوب شيء. والآخر على حرمته وفرضنا العلم الخارجي بحجية أحدهما في هذا الحال فعندئذ ان كان الدليلان متساويين فالحجية تخييرية ، وان كان أحدهما محتمل الرجحان بالإضافة إلى الآخر فهو الحجة دونه ، وذلك لأنه اما بخصوصه حجة أو هو أحد فردي الحجية ، وهذا بخلاف الآخر ، فان احتمال انه بخصوصه حجة دون ذاك غير محتمل ، فاذن لا محالة تكون حجيته مشكوكة وقد ذكرنا في محله ان الشك في الحجية في مرحلة الإنشاء مساوق للقطع بعدمها في مرحلة الفعلية فلا أثر له. وهذا معنى حكم العقل بالتعيين في مثل هذا المورد (الثاني) فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم والامتثال بيان ذلك ان الحكمين في هذه الموارد ان كانا متساويين فالمكلف مخير بين امتثال هذا وذاك وان كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر ففي مثله تعين امتثاله بحكم العقل دون ذاك ، وذلك بقانون ان الاشتغال اليقيني يقتضى البراءة اليقينية ، وحيث ان المكلف في مفروض الكلام يعلم باشتغال ذمته بالتكليف فلا بد له من الخروج عن عهدته وتحصيل الأمن من العقوبة عليه ، ومن الطبيعي انه لا يحصل له الأمن منها الا بامتثال ما هو محتمل الأهمية دون غيره ، بداهة ان وظيفته في الواقع لا تخلو من ان تكون هي التخيير بينهما ، أو التعيين والإتيان بخصوص هذا ، وعلى كلا التقديرين حيث ان امتثاله مؤمن دون امتثال غيره تعين يحكم العقل. واما في غير

٢٤٧

هذين الموردين فالمرجع هو أصالة البراءة ، وذلك لأن تعلق التكليف بالجامع معلوم وتعلقه بالخصوصية الزائدة مشكوك فيه ، ومقتضى الأصل البراءة عنه ، وهذا كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وبعد ذلك نقول ان دوران الأمر في المقام وان كان بين التعيين والتخيير إلا انه حيث كان في مقام الجعل لا في مقام الفعلية والامتثال فبطبيعة الحال يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لفرض ان تعلق الأمر بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري معلوم ، وتعلقه بخصوص الفعل الاختياري مشكوك فيه للشك في ان فيه ملاكاً ملزماً يخصه فمقتضى الأصل فيه البراءة وقد تحصل مما ذكرناه ان الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الأصل يقتضى البراءة عن وجوب الإتيان بالفعل الاختياري إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي ان تعلق الأمر الاضطراري بالفعل الناقص وجواز البدار إليه واقعاً مع فرض تمكن المكلف من الإتيان بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت يحتاج إلى دليل ، وقد قام لدليل على ذلك في خصوص موارد التقية وان البدار فيها جائز كما أشرنا إليه سابقاً.

واما فيما عدا موارد التقية فقد أشرنا إلى ان جماعة : منهم السيد (قده) في العروة قد اختاروا ان مقتضى إطلاق دليل وجوب التيمم هو جواز البدار إليه مع احتمال ارتفاع العذر في الوقت وتمكن المكلف من الإتيان بالصلاة مع الطهارة المائية فيه. ومن هنا قال (قده) في المسألة الثالثة من أحكام التيمم الأقوى جواز التيمم في سعة الوقت وان احتمل ارتفاع العذر في آخره أو ظن به إلى ان قال فتجوز المبادرة مع العلم بالبقاء وتجب التأخير مع العلم بالارتفاع هذا

حري بنا ان نقول : ان ما ذكروه في مسألة التقية في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به. وأما ما ذكروه في مسألة التيمم فلا

٢٤٨

يمكن المساعدة عليه بوجه ، والسبب في ذلك ما تقدم من انه لا إطلاق لأدلة وجوب التيمم من الآية والروايات بالإضافة إلى الموارد التي لا يستوعب العذر فيها مجموع الوقت ، لفرض تمكن المكلف معه من الإتيان بالصلاة مع الطهارة المائية ، ومن الطبيعي ان النوبة لا تصل عندئذ إلى الصلاة مع الطهارة الترابية.

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل أوسع كما وقد بينا في مبحث الفقه بصورة موسعة ان ما ادعاهم من جواز البدار خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له وما يظهر من بعض الروايات جوازه قد تكلمنا فيه هناك فلاحظ

واما الأدلة العامة فلا تدل على مشروعية العمل الناقص مع تمكن المكلف من الإتيان بالعمل التام في الوقت. اما حديث رفع الاضطرار والإكراه فقد ذكرنا في محله ان مفاده نفي الحكم لا إثباته يعنى ان الوجوب المتعلق بالمركب عند اضطرار المكلف إلى ترك جزء أو شرط منه يرتفع بمقتضى هذا الحديث. واما الاجزاء الباقية التي تمكن المكلف منها فالحديث لا يدل على وجوبها ، مثلا إذا اضطر إلى ترك الطهارة المائية ارتفع عنه الوجوب المتعلق بالصلاة معها. واما وجوب الإتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية فهو يحتاج إلى دليل خاص ، وحديث الاضطرار لا يدل على ذلك ، وكذلك الحال في حديث النسيان وما شاكله. وأضف إلى ذلك ان حديث الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك انما يكون رافعاً للتكليف إذا تعلق بترك الواجب في مجموع الوقت. واما إذا تعلق بتركه في بعض الوقت لا في مجموعه فلا أثر له ولا يكون رافعاً للتكليف فان ما تعلق به الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك لا يكون مأموراً به وما هو مأمور به ـ وهو الطبيعي الجامع بين الافراد الطولية والعرضية ـ لم يتعلق به فلا وجه لسقوط وجوبه ومن هنا يظهر حال مثل قوله عليه‌السلام «ما من شيء حرمه الله تعالى الا وقد

٢٤٩

أحله عند الضرورة» وذلك لوضوح انه لا يدل الا على جواز ارتكاب ما تعلقت الضرورة به وأجنبي عن المقام بالكلية.

واما قاعدة الميسور أو ما شاكلها فمضافاً إلى ما حققناه في محله من انه لا أصل لهذه القاعدة وانها قاصرة سنداً ودلالة فهي أجنبية عن المورد ولا صلة لها به أصلا ، وذلك لعدم تحقق موضوعها حيث ان المكلف على الفرض متمكن من الإتيان بالواجب في ضمن فرد كامل في أثناء الوقت بعد ارتفاع العذر ومن المعلوم انه مانع عن صدق عنوان المعسور عليه لتصل النوبة إلى ميسوره. وعلى الجملة فالواجب على المكلف وهو طبيعي الصلاة مع الطهارة المائية مثلا في مجموع الوقت المحدد له ، ومن الطبيعي ان تمكنه من الإتيان به في ضمن فرد كامل يوجب عدم صدق المعسور في حقه ، لتكون الفرد الاضطراري ـ وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ـ ميسوره.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي عدم قيام دليل على تعلق الأمر الاضطراري بالعمل الناقص مع تمكن المكلف من الإتيان بالعمل التام في أثناء الوقت نعم قد قام دليل خاص على ذلك في خصوص موارد التقية.

واما الكلام في المسألة الثالثة ـ وهي اجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني أو تعبدي ـ فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيها على أقوال : (الأول) الاجزاء مطلقا. (الثاني) عدمه مطلقا. (الثالث) : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني وما إذا انكشف بعلم تعبدي فيجزي على الثاني دون الأول (الرابع) التفصيل بين القول بالسببية والقول بالطريقية فعلى الأول لا مناص من الاجزاء دون الثاني (الخامس) التفصيل بين أقسام السببية بالتزام بالاجزاء في بعضها وبعدمه في بعضها الآخر. (السادس) التفصيل بين الأمارات والأصول بالتزام بعدم الاجزاء في موارد الأمارات والاجزاء في موارد الأصول ، وقد

٢٥٠

اختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قده).

ولكن ينبغي لنا عطف الكلام في هذا التفصيل قبل ان تحرر محل النزاع وبيان ما هو الحق في المسألة من الأقوال فنقول : قد أفاد (قده) في وجه ذلك ما إليك لفظه :

والتحقيق ان ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوى ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزى ، فان دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط ومبيناً لدائرة الشرط وانه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان بلسان انه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزى ، فان دليل حجيته حيث كان بلسان انه واجد لما هو الشرط الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف انه لم يكن كذلك بل كان بشرطه فاقد».

توضيح أفاده (قده) هو ان الحكم الظاهري على قسمين : (أحدهما) حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلا. (وثانيهما) حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشك في الواقع والجهل به الا انه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه. والأول مفاد الأصول العملية كقاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب والثاني مفاد الأمارات.

اما الأول فلان المجعول في موارد تلك الأصول هو الحكم الظاهري في ظرف الشك والجهل بالواقع بما هو جهل ، ومن الطبيعي ان ذلك انما يكون من دون لحاظ نظرها إلى الواقع أصلا ، ولذا أخذ الشك في موضوعه في لسانها ومن هنا لا يتصف بالصدق تارة وبالكذب تارة أخرى ، ضرورة ان الحكم

٢٥١

الظاهري المجعول في مواردها كالطهارة أو الحلية موجود حقيقة قبل انكشاف الخلاف وبعد الانكشاف يرتفع من حينه لا من الأول كارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه حتى الاستصحاب بناء على نظريته (قده) وفي مثله لا يعقل الاتصاف بالصدق مرة وبالكذب أخرى. نعم قد يكون الحكم مطابقاً للحكم الواقعي وقد يكون مخالفاً له ، ولكن هذا امر آخر أجنبي عن اتصافه بهما بالكلية كما هو واضح فالنتيجة على أساس ذلك هي حكومة تلك الأصول على الأدلة الواقعية في مرحلة الظاهر وتوجب توسعة دائرتها حيث ان ما دل على شرطية الطهارة أو الحلية للصلاة مثلا ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكنها جعلت الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية ، فمقتضى هذه الحكومة هو ان الطهارة الظاهرية كالطهارة الواقعية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، فكما ان المكلف إذا كان واجداً للطهارة الواقعية واجد للشرط حقيقة ، فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهرية فلو صلى معها ثم انكشف الخلاف لم ينكشف عن ان العمل فاقد للشرط ، بل هو واجد له حقيقة والشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

وبكلمة أخرى ان الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة أو استصحابها وكذا الحلية الظاهرية الثابتة بقاعدتها أو استصحابها لا واقع موضوعي لها ما عدا الثبوت في ظرف الشك لكي تطبق الواقع مرة وتخالفه مرة أخرى ، ومن المعلوم ان ما لا واقع له لا يعقل اتصافه بالصدق والكذب ، فان معنى الصدق هو مطابقة الشيء لواقعه الموضوعي ومعنى الكذب عدم مطابقته له. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انها تحكم على الأدلة الواقعية وتجعل الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية. فالنتيجة على ضوء ذلك : هي ان الشرط إذا كان الأعم فلا يعقل فيه انكشاف الخلاف وفقدان العمل له بعد ما كان واجداً له في ظرفه ، غاية الأمر يرتفع

٢٥٢

بارتفاع موضوعه وهو الشك فهي أحكام ثابتة واقعاً في مرحلة الظاهر ما دام الشك والجهل بالواقع ، فلو صلى المكلف مع ثوب طاهر ظاهراً أو في مكان مباح كذلك ثم بان عدمها واقعا لم ينكشف ان الصلاة فاقدة للشرط في ظرفها ، لفرض ان الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية والمفروض انها واجدة لها في ظرفها حقيقة فلا يعقل انكشاف الخلاف بالإضافة إليها. نعم هي فاقدة للطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكن قد عرفت ان الشرط ليس خصوصها. ومن هنا يظهر ان التعبير بانكشاف الخلاف في أمثال هذه الموارد انما هو بلحاظ الطهارة أو الحلية الواقعية.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي ان عدم الاجزاء في موارد هذه الأصول غير معقول فلا مناص من القول بالاجزاء.

وأما الثاني ـ وهو مفاد الأمارات ـ فلان المجعول في مواردها انما هو حجيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شيء اخر فيها في مقابل الواقع. بيان ذلك اما بناء على كون المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فواضح ، وذلك لأن الأمارة على ضوء هذه النظرية ان كانت مطابقة للواقع أثبتت الواقع فحسب ، وان كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤد إلى حكم شرعي أصلا : لا واقعي ولا ظاهري أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلفرض عدم جعل حكم ظاهري في قبال الحكم الواقعي في موردها وانما المجعول كما عرفت هو الطريقية والكاشفية فحسب فاذن حالها حال القطع المخالف للواقع. وأما بناء على نظريته (قده) من ان المجعول فيها انما هو المنجزية والمعذرية فائضاً الأمر كذلك ، لأنها على تقدير المطابقة تثبت الواقع إثباتاً تنجزياً فحسب وعلى تقدير المخالفة فلا حكم في موردها : لا واقعاً ولا ظاهراً ، اما الأول فواضح ، وأما الثاني فلما عرفت من ان المجعول في مواردها انما هو المنجزية والمعذرية دون شيء آخر.

٢٥٣

وعلى الجملة فحال الأمارات حال القطع من هذه الناحية فلا فرق بينهما أصلا ، فكما انه لا حكم في موارد القطع المخالف للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، فكذلك لا حكم في موارد الأمارات المخالفة له. ومن هنا تتصف الأمارات بالصدق مرة وبالكذب مرة أخرى. فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان في مقام الثبوت وان كان لا فرق بين الأمارات والأصول حيث ان كلتيهما وظائف مجعولة للجاهل بالواقع دون العالم به ، الا انهما تفترقان في مرحلة الإثبات في نقطة واحدة : وهي ان الشك قد أخذ في موضوع الأصول في لسان أدلتها ، ومن هنا يكون الحكم المجعول في مواردها في قبال الواقع من دون نظره إليه. وهذا بخلاف الأمارات ، فان الشك لم يؤخذ في موضوعها في لسان أدلتها وان لسانها كما عرفت لسان إثبات الواقع والنّظر إليه.

وعلى ضوء ذلك لا مناص من القول بعدم الاجزاء في موارد الأمارات عند كشف الخلاف ، لما عرفت من عدم الحكم في موارد مخالفتها للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، ومعه كيف يتصور الاجزاء فيها. ومن هنا اتفقت كلماتهم على عدم الاجزاء في موارد القطع بالخلاف.

وغير خفي ان ما أفاده (قده) خاطئ نقضاً وحلاً.

أما الأول : فلان الالتزام بما أفاده (قده) مما لا يمكن في غير باب الصلاة من أبواب الواجبات كالعبادات والمعاملات. ومن هنا لو توضأ بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثم انكشف نجاسته لم يلتزم أحد من الفقهاء والمجتهدين حتى هو (قده) بالاجزاء فيه وعدم وجوب إعادته ، وكذا لو غسل ثوبه أو بدنه في هذا الماء ثم انكشف نجاسته لم يحكم أحد بطهارته ، وهكذا ، مع ان لازم ما أفاده (قده) هو الحكم بصحة الوضوء في المثال الأول وبطهارة الثوب أو البدن في المثال

٢٥٤

الثاني ، لفرض ان الشرط أعم من الطهارة الظاهرية والواقعية ، والمفروض وجود الطهارة الظاهرية هنا ، ومن الطبيعي ان العمل إذا كان واجداً للشرط في ظرفه حكم بصحته ، ولا يتصور فيه كشف الخلاف كما عرفت ، وارتفاعه انما هو بارتفاع موضوعه. ومن هذا القبيل ما إذا افترضنا ان زيداً كان يملك داراً مثلا ثم حصل لنا الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثم اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان ان زيداً لم يكن مالكاً لها فمقتضى ما أفاده (قده) هو الحكم بصحة هذا الشراء لفرض ان الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية مع انه لن يلتزم ولا يلتزم بذلك أحد حتى هو (قده) فالنتيجة ان ما أفاده (قده) منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات والمعاملات.

وأما الثاني ـ وهو جوابه حلا ـ فلان قاعدتي الطهارة والحلية وان كانتا تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك بالواقع والجهل به من دون نظر إليه الا ان ذلك مع المحافظة على الواقع بدون ان يوجب جعله في موردهما انقلابه وتهديله أصلا ، والسبب في ذلك ما حققناه في مورده من انه لا تنافي ولا تضاد بين الأحكام في أنفسها ، ضرورة ان المضادة انما تكون بين الأمور التكوينية الموجودة في الخارج ، واما الأمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر فلا تعقل المضادة والمنافاة بينها أصلا وبما ان الأحكام الشرعية أمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها في الخارج ما عدا اعتبار الشارع إياها في عالم الاعتبار فلا تعقل المنافاة والمضادة بينها في أنفسها أصلا ، بداهة انه لا تنافي بين اعتبار الوجوب في نفسه لفعل واعتبار الحرمة كذلك له ، وانما المضادة والمنافاة بينها من أحدا ناحيتين : (الأولى) بحسب المبدأ يعنى المصلحة والمفسدة بناء على

٢٥٥

مسلك العدلية من تبعية الأحكام لهما (الثانية) بحسب المنتهى يعنى مرحلة الامتثال حيث لا يقدر المكلف على امتثال الوجوب والحرمة المجعولين لفعل واحد في زمن واحد كما انه لا يمكن اجتماعهما فيه بحسب المبدأ فان المصلحة الملزمة مضادة للمفسدة كذلك فلا يعقل اجتماعهما في فعل واحد.

وعلى ضوء ذلك قد قلنا انه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلا لا في نفسه ولا من ناحية المبدأ ، ولا من ناحية المنتهى ، اما الأول فلما عرفت من عدم التنافي بين الأحكام في أنفسها. واما الثاني فلان الحكم الظاهري لم ينشأ عن المصلحة في متعلقه وانما نشاء عن المصلحة في نفسه. واما الثالث فلان الحكم الظاهري انما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم الواقعي لا بعلم وجداني ولا بعلم تعبدي ، واما من وصل إليه الحكم الواقعي فلا موضوع عندئذ للحكم الظاهري في مادته فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة.

وعلى الجملة ففي موارد وجود الحكم الظاهري لا يجب على المكلف امتثال الحكم الواقعي ، وفي موارد وجوب امتثاله لا حكم ظاهري في البين. فالنتيجة : هي انه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلا ، وعليه فالالتزام بوجود الحكم الظاهري في موارد قاعدة الطهارة والحلية لا ينافى الالتزام بثبوت الحكم الواقعي في مواردهما أيضا ، بل لا مناص من الالتزام بذلك بعد بطلان التصويب والانقلاب بكافة اشكاله وألوانه كما حققناه في محله.

وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلى المكلف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهراً بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجساً فصلاته وان كانت في الظاهر محكومة بالصحّة ويترتب عليها آثارها الا انها باطلة في الواقع ، لوقوعها في النجس ، وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف انها فاقدة للشرط من الأول وانه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعاً ، وان ما

٢٥٦

أتى به ليس مطابقا لها فاذن بطبيعة الحال تجب الإعادة أو القضاء ، والإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري انما يكون عذراً له في تركها ما دام بقاء الجهل والشك ، واما إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن معذوراً في تركها ، فالأحكام الظاهرية في الحقيقة أحكام عذرية فحسب ، وليست أحكاماً حقيقية في قبال الأحكام الواقعية ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام الجهل وإذا ارتفع ارتفع عذره ، وبعده لا يكون معذوراً في ترك الواقع وترتيب آثاره عليه من الأول.

واما حديث حكومة تلك القواعد على الأدلة الواقعية كما تقدم ذكره فلا يجدي ، والسبب في ذلك هو ان هذه الحكومة حكومة ظاهرية موقتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه وليست بحكومة واقعية ، لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه. ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، فإذا انكشف فلا بد من العمل على طبق الواقع.

وبكلمة أخرى ان الشرط هو الطهارة أو الحلية الواقعية فحسب بمقتضى الأدلة الواقعية ، وهذه القواعد والأصول انما تثبت الطهارة أو الحلية في مواردها عند الشك والجهل بها ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام هذا الشك والجهل. فإذا ارتفع انكشف ان العمل فاقد له من الأول وعليه فما أتى به غير مأمور به واقعاً. ومن الطبيعي ان اجزاء غير المأمور به عن المأمور يحتاج إلى دليل خاص وإلا فمقتضى القاعدة عدم اجزائه عنه. أو فقل ان في صورة مطابقة تلك القواعد للواقع فالشرط الواقعي موجود وصحة العمل مستندة إلى وجدانه ، ولا أثر عندئذ لوجود الطهارة أو الحلية الظاهرية وأما في صورة مخالفتها للواقع فأثرها ليس الا ترتيب آثار الواقع عليها تعبداً في مرحلة الظاهر لا البناء على انها شرط حقيقة ، كما ان الطهارة أو الحلية الواقعية شرط كذلك ، بداهة ان لسانها ليس إثبات ان الشرط أعم

٢٥٧

منها ، بل لسانها إثبات آثار الشرط ظاهراً في ظرف الشك والجهل ، وعند ارتفاعه وانكشاف الخلاف ظهر ان الشرط غير موجود. ومن هنا يظهر ان هذه الحكومة انما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف الشك به بالإضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعي عليها في مرحلة الظاهر فحسب ، وليست بحكومة واقعية بالإضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعم من الواقع والظاهر حقيقة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : هي ان مقتضى القاعدة عند ارتفاع الجهل وكشف الخلاف عدم الاجزاء فالاجزاء يحتاج إلى دليل خاص وقد ثبت ذلك في خصوص باب الصلاة دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات وقد تحصل من ذلك انه لا فرق بين هذه القواعد والأصول وبين الأمارات فانهما من واد واحد فما أفاده (قده) من التفصيل بينهما ساقط ولا أصل له كما عرفت. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى لا إشكال في ان الأمارات القائمة على الشبهات الموضوعية كالبينة واليد وما شاكلهما مما يجري في تنقيح الموضوع وإثباته خارجة عن محل البحث ، والسبب في ذلك هو ان قيام تلك الأمارات على شيء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعية لا يقولون به في الموضوعات الخارجية وسيأتي إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية ان الاجزاء في موارد الأصول والأمارات غير معقول الا بالالتزام بالتصويب فيها ، والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية غير معقول ، بداهة ان البينة الشرعية إذا قامت على ان المائع الفلاني خمر مثلا لا توجب انقلاب الواقع عما هو عليه من هذه الناحية ، فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمراً وبالعكس ، كما إذا قامت على انه ماء وكان في الواقع خمراً لم تجعله ماءً ، أو إذا قامت على ان المال الّذي هو لزيد

٢٥٨

قد نقل منه بناقل شرعي إلى غيره ثم بعد ذلك انكشف الخلاف وبان انه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عما هو عليه وتغيره يعني قلب ملكية زيد إلى غيره ، أو إذا افترضنا انها قامت على أن المائع الفلاني ماء فتوضأ به ثم انكشف خلافه لم يكن مجزياً ، لما عرفت من أنها لا توجب انقلاب الواقع ولا تجعله غير الماء ماء ، ليكون الوضوء المذكور مجزياً عن الواقع.

ومن ناحية ثالثة قد تسالمنا على خروج موارد انكشف عدم الحكم الظاهري فيها رأساً عن محل الكلام وذلك كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ وأفتى على طبقه استناداً إلى حجية الظهور ، ثم بعد ذلك انكشف انه لا ظهور له في هذا المعنى المعين أصلا ، بل هو مجرد وهم وخيال فلا واقع موضوعي له ، فعندئذ لا ريب في عدم حجية هذا المعنى ، لعدم اندراجه تحت أدلة حجية الظهورات. وكذا لو أفتى المجتهد على طبق رواية. وقع في سلسلة سنده (ابن سنان) بتخيل انه عبد اله بن سنان الثقة ثم بان انه محمد بن سنان الضعيف ، فان الاعتقاد الأول باطل حيث انه صرف وهم وخيال ولا واقع له.

فالنتيجة ان كلما كان الاشتباه في التطبيق بتخيل ان اللفظ الفلاني ظاهر في معنى ثم بان انه غير ظاهر فيه من الأول وكان اعتقاد الظهور مجرد وهم بلا واقعية له ، أو اعتقد ان الرواية الفلانية رواية ثقة بتخيل ان الواقع في سندها زرارة بن أعين مثلا ثم انكشف انها رواية ضعيفة وان الواقع في سندها ليس هو زرارة بن أعين ، بل شخص آخر لم يوثق. أو اعتقد ان الرواية الفلانية مسندة ثم بان انها مرسلة وهكذا ، فهذه الموارد بكافة اشكالها خارجة عن محل النزاع وقد تسالموا على عدم الاجزاء فيها.

ومن ناحية رابعة لا إشكال ولا خلاف أيضا بين الأصحاب في عدم الاجزاء في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية بالعلم الوجداني

٢٥٩

بان يعلم المجتهد مثلا بمخالفة فتواه السابقة للواقع.

فالنتيجة على ضوء ما قدمناه في نهاية المطاف هي ما يلي :

إن محل النزاع في مسألتنا هذه بين الاعلام والمحققين هو ما إذا انكشف الخلاف في موارد الحجج والأمارات والأصول العملية في الشبهات الحكمية بقيام حجة معتبرة على الخلاف ، وذلك كما إذا أفتى المجتهد بعدم جزئية شيء أو شرطيته مثلا من جهة أصل عملي كالاستصحاب أو البراءة ثم بعد ذلك انكشف الخلاف واطلع على دليل اجتهادي يدل على انه جزء أو شرط أو أفتى بذلك من جهة أصل لفظي كالعموم أو الإطلاق أو نحو ذلك ثم بعده انكشف الخلاف واطلع على وجود مخصص أو مقيد أو قرينة مجاز ففي هذه الموارد يقع الكلام في ان الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزى عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة أو قضاء أولا يجزى فيه وجوه وأقوال :

والصحيح هو التفصيل بين نظرية الطريقية في باب الأمارات والحجج ونظرية السببية ، فعلى ضوء النظرية الأولى مقتضى القاعدة عدم الاجزاء مطلقا يعني في أبواب العبادات والمعاملات وفي موارد الأصول والأمارات إلا أن يقوم دليل خاص على الاجزاء في مورد. وعلى ضوء النظرية الثانية مقتضى القاعدة الاجزاء كذلك إلا ان يقوم دليل خاص على عدمه في مورد فلنا دعويان : (الأولى) ان مقتضى القاعدة عدم الاجزاء بناء على نظرية الطريقية والكاشفية (الثانية) ان مقتضى القاعدة الاجزاء بناء على نظرية السببية.

أما الدعوى الأولى فلان الأمارات على ضوء هذه النظرية تكشف عن عدم إتيان المكلف بالمأمور به الواقعي في هذه الشريعة ، وان ما أتى به ليس بمأمور به كذلك ، والمفروض ان الصحة انما تنتزع من مطابقة المأتي به المأمور به في الخارج الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه

٢٦٠