محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

انه لا واقع للمعلوم بالإجمال في موارد العلم الإجمالي ما عدا عنوان أحدهما أو أحدها حتى في علم الله تعالى ، فإذا تعلقت به الصفات الحقيقية فما ظنك بالحكم الشرعي الّذي هو امر اعتباري محض. وقد تقدم منا غير مرة ان الأحكام الشرعية أمور اعتبارية وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار الشارع ، ومن المعلوم ان الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي فلا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال على ذمة المكلف ونتيجة ذلك هي ان بقائه مشروط بعدم تحقق شيء منهما أو منها في الخارج.

وبعد ذلك نقول : ان مقتضى إطلاق الأمر المتعلق بشيء هو التعيين لا التخيير على جميع الأقوال في المسألة : أما على القول الأول فواضح لفرض ان وجوب كل منهما مشروط باختيار المكلف ، ومن الطبيعي ان مقتضى الإطلاق عدمه ، فالاشتراط يحتاج إلى دليل زائد. واما على القول الثاني فالامر أيضاً كذلك ، لفرض ان وجوب كل مشروط بعدم الإتيان بالاخر ، ومقتضى الإطلاق عدمه وبه يثبت الوجوب التعييني. وأما على القول الثالث كما هو المختار فلان مرجع الشك في التعيين والتخيير فيه إلى الشك في متعلق لتكليف من حيث السعة والضيق يعني أن متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر ، كما إذا ورد الأمر مثلا بإطعام ستين مسكيناً وشككنا في ان وجوبه تعييني أو تخييري يعنى ان الواجب هو خصوص الإطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين ففي مثل ذلك لا مانع من الأخذ بإطلاقه لإثبات كون الواجب تعيينياً لا تخييرياً ، لأن بيانه يحتاج إلى مئونة زائدة وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة (أو) وحيث لم يكن فيكشف عن عدمه في الواقع ، ضرورة ان الإطلاق في مقام الإثبات بكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت.

٢٠١

أو فقل ان الواجب لو كان تخييرياً فبقاء وجوبه مقيد بعدم الإتيان بفرد ما من افراده في الخارج ، ومن المعلوم ان مقتضى الإطلاق عدم هذا التقييد وان الواجب هو الفعل الخاصّ. ويمكن ان يقرر هذا بوجه آخر وهو ان الأمر المتعلق بشيء خاص كالإطعام مثلا فالظاهر هو ان للعنوان المذكور المتعلق به الأمر دخلا في الحكم فلو كان الواجب هو الجامع بينه وبين غيره ولم يكن للعنوان المزبور أي دخل فيه فعليه البيان ، وحيث لم يقم بيان عليه فمقتضى الإطلاق هو وجوبه الخاصة ، دون الجامع بينه وبين غيره وهذا هو معنى ان الإطلاق يقتضي التعيين.

أما المقام الثاني فالكلام فيه يقع في مبحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى فلا حاجة إليه هنا.

وأما المسألة الثالثة وهي ما إذا دار الأمر بين الواجب الكفائي والعيني فيقع الكلام فيها أيضاً تارة في مقتضى الأصل اللفظي. وتارة أخرى في مقتضى الأصل العملي.

اما الكلام في المورد الأول فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الوجوب الكفائي فنقول : ان ما قيل أو يمكن ان يقال في تصويره وجوه :

(الأول) ان يقال : ان التكليف متوجه إلى واحد معين عند الله ولكنه يسقط عنه بفعل غيره ، لفرض ان الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

(الثاني) أن يقال : ان التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع بدعوى انه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الأمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة مثلا إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.

٢٠٢

(الثالث) ان يقال : ان التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان غاية الأمر ان وجوبه على كل مشروط بترك الآخر.

(الرابع) ان يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود ، وهذا الوجه هو الصحيح.

بيان ذلك ملخصاً هو أن عرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة ، وأخرى بمطلق وجودها كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين وأخرى بصدوره عن صرف وجودهم. فعلى الأول الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر. وعلى الثاني فالواجب كفائي بمعنى انه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي ، وهذا واقع في العرف والشرع. اما في العرف. كما إذا امر المولى أحد عبيده أو خدامه بفعل في الخارج من دون ان يتعلق عرضه بصدوره من شخص خاص منهم ، ولذا أي واحد منهم قام به وأوجده في الخارج حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة. وأما في الشرع فائضاً كذلك كما في أمره بدفن الميت أو كفنه أو نحو ذلك حيث ان غرضه لم يتعلق بصدوره عن خصوص واحد منهم ، بل المطلوب وجوده في الخارج من أي واحد منهم كان ، وذلك لأن نسبة ذلك الغرض الوحداني إلى كل واحد من افراد المكلفين على السوية فعندئذ تخصيص واحد معين منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح وتخصيص المجموع منهم على نحو العموم المجموعي بتحصيل ذلك الغرض مع انه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما برهن في محله ، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضا بلا مقتض وسبب بعد افتراض ان الغرض واحد يحصل بفعل بعض منهم ، فاذن يتعين وجوبه على واحد منهم على نحو صرف الوجود.

٢٠٣

وبعد ذلك نقول : ان مقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب العيني على جميع هذه الوجوه والاحتمالات. اما على الوجه الأول فواضح ، لأن سقوط التكليف عن شخص بفعل غيره يحتاج إلى دليل والا فمقتضى إطلاقه عدم سقوطه به. أو فقل ان مرد هذا إلى اشتراط التكليف بعدم قيام غيره بامتثاله وهو خلاف الإطلاق.

وأما على الوجه الثاني فمضافاً إلى انه في نفسه غير معقول فائضا الأمر كذلك ، لأن مقتضى إطلاق الدليل هو ان كل واحد من افراد المكلف موضوع للتكليف وجعل الموضوع له مجموع افراده على نحو العموم المجموعي بحيث يكون كل فرد من افراده جزئه لا تمامه خلاف الإطلاق ، وعند احتماله يدفع به.

وأما على الوجه الثالث فالامر ظاهر ، ضرورة ان قضية الإطلاق عدم الاشتراط ، فالاشتراط يحتاج إلى دليل خاص.

واما على الوجه الرابع فائضا الأمر كذلك حيث ان حاله بعينه هو حال الوجه الثالث في الوجوب التخييري فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، غاية الأمر ان الأول متعلق بالمأمور به والثاني بالمكلفين. وعلى الجملة ففيما إذا ورد الأمر متوجها إلى شخص خاص أو صنف مخصوص وشككنا في انه كفائي أو عيني يعنى ان موضوعه هو الجامع بينه وبين غيره أو خصوص هذا الفرد أو ذاك الصنف فلا مانع من التمسك بالإطلاق لإثبات كونه عينيا.

ويمكن أن يقرب هذا بوجه آخر وهو ان ظاهر الأمر المتوجه إلى شخص خاص أو صنف مخصوص هو ان لخصوص عنوانه دخلا في الموضوع ومتى لم تكن قرينة على عدم دخله وان الموضوع هو طبيعي المكلف فإطلاق الدليل يقتضي دخله ، ولازم ذلك هو كون الوجوب عينياً لا كفائياً.

٢٠٤

وأما الكلام في المورد الثاني وهو مقتضى الأصل العملي فيقع في مبحث البراءة والاشتغال دون وسيجيء إن شاء الله تعالى ان مقتضى الأصل هناك البراءة الاشتغال إلى هنا قد استطعنا ان نصل إلى هذه النتيجة وهي ان مقتضى الأصل اللفظي في المسائل الثلاث هو كون الواجب نفسياً تعيينياً عينياً.

الأمر عقيب الخطر

إذا وقع الأمر عقيب الخطر أو توهمه فهل يدل على الوجوب كما نسب إلى كثير من العامة ، أو على الإباحة كما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب أو هو تابع لما قبل النهي ان علق الأمر بزوال علة النهي لا مطلقا وجوه بل أقوال : والتحقيق هو انه لا يدل على شيء من ذلك من دون فرق بين فطريتنا في مفاد الصيغة وما شاكلها ونظرية المشهور في ذلك. اما على ضوء نظريتنا فلان العقل انما يحكم بلزوم قيام المكلف بما أمر به المولى بمقتضى قانون المولوية والعبودية إذا لم تقم قرينة على الترخيص وجواز الترك ، وحيث يحتمل أن يكون وقوع الصيغة أو ما شاكلها عقيب الحظر أو توهمه قرينة على الترخيص فلا ظهور لها في الوجوب بحكم العقل.

وان شئت قلت : انها حيث كانت محفوفة بما يصلح للقرينية فلا فلا ينعقد لها ظهور فيه ، اذن فحمل الصيغة أو ما شاكلها في هذا الحال على الوجوب يقوم على أساس امرين : (أحدهما) ان تكون الصيغة موضوعة للوجوب (وثانيهما) ان تكون أصالة الحقيقة حجة من باب التعبد كما نسب إلى السيد. (قده). وحيث انه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين على ضوء نظريتنا فلا مقتضى لحملها على الوجوب أصلا. ومن هنا يظهر انه لا مقتضى لحملها عليه على ضوء نظرية المشهور أيضاً ، فان الصيغة أو ما شابهها على ضوء هذه النظرية وان كانت موضوعة للوجوب الا انه لا دليل على

٢٠٥

حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد وانما هي حجة من باب الظهور ولا ظهور في المقام ، لما عرفت من احتفافها بما يصلح للقرينية ومن ذلك يظهر انه لا وجه لدعوى حملها على الإباحة أو تبعيتها لما قبل النهي ان علق الأمر بزوال علة النهي ، وذلك لأن هذه الدعوى تقوم على أساس ان يكون وقوعها عقيب الحظر أو توهمه قرينة عامة على إرادة أحدهما بحيث تحتاج إرادة غيره إلى قرينة خاصة ، الا ان الأمر ليس كذلك ، لاختلاف موارد استعمالها فلا ظهور لها في شيء من المعاني المزبورة.

فالنتيجة انها مجملة فإرادة كل واحد من تلك المعاني تحتاج إلى قرينة

المرة والتكرار

لا إشكال في انحلال الأحكام التحريمية بانحلال موضوعاتها كما تنحل بانحلال المكلفين خارجاً ، ضرورة ان المستفاد عرفاً من مثل قضية لا تشرب الخمر أو ما شاكلها انحلال الحرمة بانحلال وجود الخمر في الخارج وانه متى ما وجد فيه خمر كان محكوماً بالحرمة ، كما هو الحال في كافة القضايا الحقيقة.

وأما التكاليف الوجوبية فائضاً لا إشكال في انحلالها بانحلال المكلفين وتعددها بتعددهم ، بداهة ان المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى : (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) أو ما شاكله هو تعدد وجوب الحج بتعدد أفراد المستطيع خارجاً. واما انحلالها بانحلال موضوعاتها فيختلف ذلك باختلاف الموارد فتنحل في بعض الموارد دون بعضها الاخر ومن الأول قوله تعالى : (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) وقوله تعالى : (من شهد منكم الشهر فليصمه) وما شاكلهما حيث ان المتفاهم العرفي منهما هو الانحلال وتعدد وجوب الصلاة ووجوب الصوم عند

٢٠٦

تعدد الدلوك والرؤية. ومن الثاني قوله تعالى «لله على الناس حج البيت إلخ حيث ان المستفاد منه عرفاً عدم انحلال ، وجوب الحج بتعدد الاستطاعة خارجاً في كل سنة ، بل المستفاد منه ان تحقق الاستطاعة لدى المكلف يقتضى وجوب الحج عليه فلو امتثل مرة واحدة كفى ولا يلزمه التكرار بعد ذلك وان تجددت استطاعته مرة ثانية.

وبعد ذلك نقول : ان صيغة الأمر أو ما شاكلها لا تدل على التكرار ولا على المرة في كلا الموردين ، واستفادة الانحلال وعدمه انما هي بسبب قرائن خارجية وخصوصيات المورد لا من جهة دلالة الصيغة عليه وضعاً. وبكلمة أخرى ان المرة والتكرار في الافراد الطولية والوحدة والتعدد في الافراد العرضية جميعا خارج عن إطار مدلول الصيغة مادة وهيئة ، والوجه في هذا واضح وهو ان الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال لا تخلو من ان تدل عليه بمادتها أو بهيئتها ولا ثالث لهما ، والمفروض انها لا تدل بشيء منهما على ذلك. اما من ناحية المادة فلفرض انها موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة المعراة عنها كافة الخصوصيات منها المرة والتكرار والوحدة والتعدد فلا تدل على شيء منها. وأما من ناحية الهيئة فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة انها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج فلا تدل على خصوصية زائدة على ذلك. كالانحلال وعدمه أصلا.

فالنتيجة ان هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعي فعندئذ ان قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيات المذكورة فهو والا فالمرجع ما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي.

اما الأصل اللفظي كأصالة الإطلاق أو العموم إذا كان فلا مانع من التمسك به لإثبات الاكتفاء بالمرة الواحدة في الافراد الطولية ،

٢٠٧

وهذا لا من ناحية أخذها في معنى هيئة الأمر أو مادته ، لما عرفت من عدم دلالة الصيغة عليه بوجه ، بل ناحية ان متعلق الأمر هو صرف الطبيعة وهو وان كان كما يصدق بالمرة الواحدة يصدق بالتكرار إلا ان الاكتفاء به في ضمن المرة الواحدة من جهة صدق الطبيعة عليها خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر ، وعندئذ فلا يبقى مقتض للتكرار أصلا ، كما انه لا مانع من التمسك به لإثبات الاكتفاء بوجود واحد في الافراد العرضية ، وهذا لا من ناحية أخذ الوحدة في معنى الأمر ، لما عرفت من عدم أخذها فيه ، بل من ناحية صدق الطبيعة عليه خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر فلا يبقى مقتض للتعدد.

وأما الأصل العملي في المقام فهو أصالة البراءة عن اعتبار الأمر الزائد. وعلى الجملة ان ما هو ثابت على ذمة المكلف ولا شك فيه أصلا هو اعتبار طبيعي الفعل ، وأما الزائد عليه وهو تقييده بالتكرار أو بعدمه في الافراد الطولية أو تقييده بالتعدد أو بعدمه في الافراد العرضية فحيث لا دليل على اعتباره فمقتضى الأصل هو البراءة عنه ، فإذا جرت أصالة البراءة عن ذلك في كلا الموردين ثبت الإطلاق ظاهراً ، ومعه يكتفي بطبيعة الحال بالمرة الواحدة ، لصدق الطبيعة عليها الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر كما إذا امر المولى عبده بإعطاء درهم للفقير فأعطاه درهماً واحداً يحصل به الامتثال ، لصدق الطبيعي عليه وعدم الدليل على اعتبار امر زائد ، هذا لا إشكال فيه.

وانما الإشكال والنزاع في إتيان المأمور به ثانياً بعد إتيانه أولا ، ويسمى ذلك بالامتثال بعد الامتثال فهل يمكن ذلك أم لا فيه وجوه ثالثها : التفصيل بين بقاء الغرض الأقصى وعدمه وقد اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) هذا التفصيل وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصه :

٢٠٨

«والتحقيق ان قضية الإطلاق انما هو جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون إيجادها في ضمنها نحو من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد ، لا جواز الإتيان بها مرة أو مرات ، فانه مع الإتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرده ، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحداً ، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الأمر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا. وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض كما امر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء»

والصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال ، وذلك لأن مقتضى تعلق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشيء كالتكرار أو نحوه حصول الامتثال بإيجادها في ضمن فرد ما في الخارج ، لفرض انطباقها عليه قهراً ، ولا نعنى بالامتثال الا انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر فلا يبقى مجال للامتثال مرة ثانية لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأول وحصول الغرض به فالإتيان بها بداعيه ثانياً خلف ومن هنا سنذكر إن شاء الله تعالى في مبحث الاجزاء ان الإتيان بالمأمور به بجميع اجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر فعدم الاجزاء غير معقول ، بل لو لم يكن الامتثال الأول مسقطاً للأمر وموجباً لحصول الغرض لم يكن الامتثال الثاني أيضاً كذلك ، لفرض انه مثله فلا تفاوت بينهما ، على انه لا معنى لجواز الامتثال ثانياً بعد فرض بقاء الأمر والغرض.

٢٠٩

وان شئت قلت : ان لأمر واحد ليس الا امتثالا واحداً فعندئذ ان سقط الأمر بالامتثال الأول لم يعقل امتثاله ثانياً والا وجب ذلك ضرورة ان حدوث الغرض كما يوجب حدوث الأمر وبقائه يوجب بقائه فجواز الامتثال بعد الامتثال عندئذ لا يرجع إلى معنى معقول. نعم إذا أتى المكلف بما لا ينطبق عليه المأمور به خارجاً وجب عليه الإتيان به مرة ثانية الا انه ليس امتثالا بعد الامتثال ، لفرض ان الأول ليس امتثالا له.

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية (قده) وهي الخلط بين الغرض المترتب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شيء آخر فيه وبين غرض الآمر كرفع العطش مثلا حيث ان حصوله يتوقف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الإتيان بالمأمور به ، ومن الطبيعي ان المكلف لا يكون مأموراً بإيجاده وامتثاله ، لخروجه عن قدرته واختياره ، فالواجب على المكلف ليس الا تمكين المولى من الشرب وتهية المقدمات له ، فانه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأول وكيف كان فان حصل الغرض من الامتثال الأول وسقط الأمر لم يعقل الامتثال الثاني الا تشريعاً ، وان لم يحصل وجب ذلك ثانياً وعلى كلا التقديرين فلا معنى لجوازه أصلا.

نعم قد يتوهم جواز ذلك في موردين : أحدهما في صلاة الآيات حيث قد ورد فيها ان من صلى صلاة الآيات فله ان يعيد صلاته مرة ثانية ما دامت الآية باقية ، وهذا يدل على جواز الامتثال مرة ثانية بعد الامتثال الأول ، وثانيهما في الصلاة اليومية حيث قد ورد فيها ان من صلى فرادى وأقيمت الجماعة فله ان يعيد صلاته مرة أخرى فيها ، وهذا أيضاً يدل على جواز الامتثال بعد الامتثال.

ولكن هذا التوهم خاطئ في كلا الموردين ولا واقع له.

٢١٠

اما في المورد الأول فهو لا يدل على أزيد من استحباب الإعادة مرة ثانية بداعي الأمر الاستحبابي ، بداهة ان الأمر الوجوبيّ قد سقط بالامتثال الأول فلا تعقل الإعادة بداعيه.

وبكلمة أخرى ان صلاة الآيات متعلقة لأمرين أحدهما امر وجوبي والآخر امر استحبابي ، غاية الأمر ان الأول تعلق بصرف طبيعة الصلاة والثاني تعلق بها بعنوان الإعادة ، ويستفاد الأمر الثاني من الروايات الواردة في المقام وعليه فالإعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأول ، لتكون من الامتثال بعد الامتثال كيف فلو كانت بداعي الأمر الأول لكانت بطبيعة الحال واجبة ، وعندئذ فلا معنى لجوازها.

فالنتيجة انه لا اشعار في الروايات على ذلك فما ظنك بالدلالة.

وأما في المورد الثاني فائضاً كذلك ، ضرورة انه لا يستفاد منها الا استحباب الإعادة جماعة ، فاذن تكون الإعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأول والا لكانت واجبة ، وهذا خلف. نعم هنا روايتان صحيحتان ففي إحداهما امر الإمام بجعل الصلاة المعادة فريضة. وفي الأخرى بجعلها فريضة ان شاء. ولكن لا بد من رفع اليد عن ظهورهما أولا بقرينة عدم إمكان الامتثال ثانياً بعد الامتثال وحملهما على جعلها قضاء عما فات منه من الصلاة الواجبة ثانياً ، أو على معنى آخر وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الاجزاء إن شاء الله تعالى.

الفور والتراخي

يقع الكلام فيهما تارة في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات. اما المقام الأول فالواجب ينقسم إلى ثلاثة أصناف :

٢١١

الصنف الأول ما لا يكون مقيداً بالتقديم ولا بالتأخير من ناحية الزمان ، بل هو مطلق من كلتا الناحيتين. ومن هنا يكون المكلف مخيراً في امتثاله بين الزمن الأول والزمن الثاني وهكذا ، ويسمى هذا الصنف من الواجب بالواجب الموسع ، وذلك كالصلاة وما شاكلها. نعم إذا لم يطمئن بإتيانه في الزمن الثاني وجب عليه الإتيان في الزمن الأول ، ولكن هذا امر آخر أجنبي عما نحن بصدده.

(الصنف الثاني) : ما يكون مقيداً بالتأخير فلو قدمه في أول أزمنة الإمكان لم يصح ويسمى هذا الصنف بالواجب المضيق كالصوم وما شابهه.

(الصنف الثالث) : ما يكون مقيداً بالتقديم وهذا على قسمين : (الأول) : ان يكون ذلك بنحو وحدة المطلوب (الثاني) ان يكون بنحو تعدد المطلوب. اما الأول فمرده إلى وجوب الإتيان به في أول أزمنة الإمكان فوراً من ناحية وإلى سقوط الأمر عنه في الزمن الثاني من ناحية أخرى ، عليه فلو عصى المكلف ولم يأت به في الزمن الأول سقط الأمر عنه ولا امر في الزمن الثاني ، وقد مثل لذلك برد السلام حيث انه واجب على المسلم عليه في أول أزمنة الإمكان ، ولكن لو عصى ولم يأت به سقط الأمر عنه في الزمن الثاني واما الثاني فهو أيضاً على شكلين (أحدهما) ان يكون المطلوب هو إتيانه في أول أزمنة الإمكان والا ففي الزمن الثاني وهكذا فوراً ففوراً ، فالتأخير فيه كما لا يوجب سقوط أصل الواجب كذلك لا يوجب سقوط فوريته. قيل ومن هذا القبيل قضاء الفوائت يعني يجب على المكلف الإتيان بها فوراً ففوراً. (وثانيهما) : أن يكون المطلوب من الواجب وان كان إتيانه في أول أزمنة الإمكان فوراً الا ان المكلف إذا عصى وأخر عنه سقطت فوريته دون أصل الطبيعة ، فعندئذ لا يجب عليه الإتيان بها فوراً ففوراً ، بل له ان يمتثل الطبيعة في أي وقت وزمن شاء

٢١٢

وأراد. وعلى الجملة فالمكلف إذا لم يأت به في أول الوقت وعصى جاز له التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة فانها واجبة على المكلف في أول أزمنة الإمكان فوراً ولكنه لو تركها فيه وعصى جاز له التأخير إلى ما دام العمر موسعاً.

واما المقام الثاني ـ وهو مقام الإثبات ـ فالصيغة لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلا عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده والسبب في ذلك ان الصيغة لو دلت على ذلك فطبيعة الحال اما ان تكون من ناحية المادة أو من ناحية الهيئة ، ومن الواضح انها لا تدل عليه من كلتا الناحيتين اما من ناحية المادة فواضح لما تقدم في ضمن البحوث السابقة من ان المادة موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات والعوارض فلا تدل الا على إرادتها ، فكل من الفور والتراخي وما شاكلهما خارج عن مدلولها وأما من ناحية الهيئة فائضاً كذلك لما عرفت بشكل موسع من انها وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ على ذمة المكلف في الخارج فلا تدل على شيء من الخصوصيات المزبورة بل ولا اشعار فيها فما ظنك بالدلالة ، فثبوت كل واحدة من تلك الخصوصيات يحتاج إلى دليل خارجي فان قام فهو والا فاللازم هو الإتيان بالطبيعي المأمور به مخيراً عقلا بين الفور والتراخي. وعلى هذا فلو شككنا في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي أو نحو ذلك فمقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق إذا كان هو عدم اعتبارها وان الواجب هو الطبيعي المطلق ، ولازم ذلك جواز التراخي ، وقد عرفت انه لا فرق في حجية الأصول اللفظية بين المثبت منها وغيره هذا إذا كان في البين أصل لفظي. واما إذا لم يكن كما إذا كان الدليل مجملا أو إجماعاً فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي ، وحيث لا دليل عليه

٢١٣

فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها ، وبذلك يثبت الإطلاق في مقام الظاهر.

فالنتيجة ان الصيغة أو ما شاكلها لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلا عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده ، بل هي تدل على ثبوت الطبيعي الجامع على ذمة المكلف ، ولازم ذلك هو حكم العقل بالتخيير بين افراده العرضية والطولية. نعم لو احتمل ان تأخيره موجب لفواته وجب عليه الإتيان به فوراً بحكم العقل.

قد يقال كما قيل : ان الصيغة وان لم تدل على الفور وضعاً الا انها تدل عليه من جهة قرينة عامة خارجية وهو قوله تعالى (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقوله تعالى : (واستبقوا الخيرات) ببيان ان الله عزوجل أمر عباده بالاستباق نحو الخير ، والمسارعة نحو المغفرة ، ومن مصاديقهما فعل المأمور به فاذن يجب على المكلف الاستباق والمسارعة نحوه في أول أزمنة الإمكان والا ففي الزمن الثاني وهكذا لفرض انهما يقتضيان الفورية إلى الإتيان بما يصدق عليه الخير والغفران في كل وقت وزمن ، وعليه فلو عصى المكلف وأخر عن أول أزمنة الإمكان وجب عليه ذلك في الزمن الثاني أو الثالث وهكذا فوراً ففوراً ، إذ من الواضح عدم سقوط وجوب المسارعة والاستباق بالعصيان في الزمن الأول ، لفرض بقاء الموضوع والملاك ، ونتيجة ذلك هي لزوم الإتيان بكافة الواجبات الشرعية فوراً ففوراً على نحو تعدد المطلوب.

ولنأخذ بالنقد عليه من عدة وجوه :

(الأول) ان الآيتين الكريمتين أجنبيتان عن محل الكلام رأساً ولا صلة لهما بما نحن بصدده. اما آية الاستباق فلان كلمة واستبقوا فيها من الاستباق بمعنى المسابقة لغة ، وعلى هذا فظاهر الآية المباركة هو وجوب المسابقة على العباد نحو الخيرات يعنى ان الواجب على كل واحد منهم ان

٢١٤

يسابق الآخر فيها. وان شئت قلت : ان مدلول الآية الكريمة هو ما إذا كان العمل خيراً للجميع ، وأمكن قيام كل واحد منهم به ، ففي مثل ذلك أمر سبحانه وتعالى عباده بالمسابقة نحوه ، ومن الواضح انه لا صلة لهذا المعنى بما نحن فيه أصلا ، وذلك لأن الكلام فيه انما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه خاصة على نحو الاستقلال مع قطع النّظر عن الأمر المتوجه إلى غيره. وهذا بخلاف ما في الآية ، فان وجوب الاستباق فيها انما هو بالإضافة إلى الآخر لا بالإضافة إلى الفعل ، فاذن لا تدل الآية على وجوب الاستباق والمبادرة إلى الفعل أصلا ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى ، واما آية المسارعة فالظاهر من المغفرة فيها هو نفس الغفران الإلهي فالآية عندئذ تدل على وجوب المسارعة نحوه بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم العقل ، وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات ، فاذن الآية ترشد إلى ما استقل به العقل وهو وجوب التوبة وأجنبية عما نحن بصدده.

(الثاني) على تقدير تنزل عن ذلك وتسليم ان الآيتين ليستا أجنبيتين عن محل الكلام الا ان دلالتهما على ما نحن بصدده تقوم على أساس ان يكون الأمر فيهما مولوياً. واما إذا كان إرشادياً كما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي فلا دلالة لهما عليه أصلا ، وذلك لأن مفادهما على هذا الضوء هو الإرشاد إلى ما استقل به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الإتيان بالمأمور به وتفريغ الذّمّة منه ، وتابع له في الإلزام وعدمه فلا موضوعية له ، ومن الواضح ان حكم العقل بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف موارده.

(الثالث) على تقدير التنزل عن ذلك أيضا وتسليم ان الأمر فيهما مولوي الا انه لا بد من حمله على الاستحباب ، ولو حمل على ظاهره وهو

٢١٥

الوجوب لزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن. والسبب في ذلك هو ان المستحبات بشتى أنواعها واشكالها مصداق للخير وسبب للمغفرة فلو حملنا الأمر فيهما على الوجوب لزم خروجها بأجمعها عن إطلاقهما. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الواجبات على أصناف عديدة : (أحدها) واجبات موسعة كالصلاة وما شاكلها ، والمفروض عدم وجوب الاستباق والمسارعة نحوها و (ثانيها) : واجبات مضيقة كصوم شهر رمضان ونحوه ، والمفروض عدم وجوب الإتيان بها الا في وقت خاص لا في أول وقت الإمكان. و (ثالثها) واجبات فورية على نحو تعدد المطلوب ، فعلى ما ذكرنا من الحمل لزم خروج الصنفين الأولين من الواجبات أيضاً عن إطلاقهما فيختص الإطلاق بخصوص الصنف الثالث ، ومن الطبيعي ان هذا من أظهر مصاديق تخصيص الأكثر.

فالنتيجة انه لا دليل على الفور لا من الداخل ولا من الخارج بحيث يحتاج عدم إرادته إلى دليل خاص وكذلك لا دليل على التراخي وعندئذ ففي كل مورد ثبت بدليل خاص الفور أو التراخي فهو والا فمقتضى الأصل عدمه.

نتائج البحوث إلى هنا عدة نقاط :

(الأولى) ان صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتبار النفسانيّ في الخارج ، ولا تدل وضعاً الا على ذلك. وأما دلالتها على إبراز التهديد أو التخير أو نحو ذلك تحتاج إلى قرينة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الصيغة تستعمل دائماً في معنى واحد والاختلاف انما هو في الداعي قد تقدم نقده بشكل موسع.

(الثانية) ان الوجوب مستفاد من الصيغة أو ما شاكلها بحكم العقل

٢١٦

بمقتضى قانون العبودية والمولوية لا بالدلالة الوضعيّة ولا بالإطلاق ومقدمات الحكمة هذا من جانب. ومن جانب آخر ان تفسير صيغة الأمر مرة بالطلب ومرة أخرى بالبعث والتحريك ومرة ثالثة بالإرادة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل.

(الثالثة) ذكر صاحب الكفاية (قده) ان دلالة الجمل الفعلية في مقام الإنشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه. ولكن قد تقدم نقده بصورة موسعة في ضمن البحوث السابقة ، وقلنا هناك انه لا فرق بمقتضى قانون العبودية والمولوية بين الجمل الفعلية وصيغة الأمر في الدلالة على الوجوب وما ذكره (قده) من النكتة لأقوائية دلالتها قد سبق منا عدم صلاحيتها لذلك.

(الرابعة) : ان الواجب التوصلي يطلق على معنيين : (أحدهما) ما لا يعتبر قصد القربة فيه (وثانيهما) : مالا تعتبر المباشرة فيه من المكلف نفسه ، بل يسقط عن ذمته بفعل غيره ، بل ربما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار ، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ.

(الخامسة) : إذا شككنا في كون الواجب توصلياً بالمعنى الثاني وعدمه فان كان الشك في اعتبار قيد المباشرة في سقوطه وعدم اعتباره فمقتضى الإطلاق اعتباره وعدم سقوطه بفعل غيره. واما إذا لم يكن إطلاق فمقتضى الأصل العملي هو الاشتغال دون البراءة. واما إذا كان الشك في اعتبار الاختيار والالتفات في سقوطه وعدم اعتباره أو في اعتبار إتيانه في ضمن فرد سائغ فمقتضى الإطلاق عدم الاعتبار فالاعتبار يحتاج إلى دليل هذا إذا كان في البين إطلاق واما إذا لم يكن فمقتضى الأصل العملي هو البراءة.

(السادسة) : ما إذا شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب وعدم

٢١٧

اعتباره فهل هنا إطلاق يمكن التمسك به لإثبات عدم اعتباره أم لا المعروف والمشهور بين الأصحاب هو انه لا إطلاق في المقام ، وقد تقدم منا ان هذه الدعوى ترتكز على ركيزتين : (الأولى) استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه (الثانية) ان استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق. وذكروا في وجه الأول وجوها. وقد ناقشنا في تمام تلك الوجوه واحداً بعد واحد وأثبتنا عدم دلالة شيء منها على الاستحالة كما ناقشنا فيما ذكر في وجه الثاني وبينا خطائه وانه لا واقع موضوعي له

(السابعة) اننا لو ننزلنا عن ذلك وسلمنا ان أخذ قصد الأمر في متعلقه لا يمكن بالأمر الأول الا انه لا مانع من أخذه فيه بالأمر الثاني ، كما اختاره شيخنا الأستاذ (قده) ، كما انه لا مانع من أخذ ما يلازمه ولا ينفك عنه وعلى تقدير تسليم استحالة ذلك أيضاً فلا مانع من بيان اعتباره ودخله في الغرض بجملة خبرية. ومن هنا قلنا انه لا مانع عند الشك في ذلك من التمسك بالإطلاق ان كان ، وإلا فبأصالة البراءة.

(الثامنة) ان التقابل بين الإطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت من تقابل الضدين وفي مرحلة الإثبات من تقابل العدم والملكة.

(التاسعة) : انه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية في متعلق الأمر ولا يلزم منه شيء من المحاذير التي توهم لزومها على تقدير أخذ قصد الأمر فيه. ولكن منع شيخنا الأستاذ (قده) عن أخذها بملاك آخر قد تقدم خطاؤه بشكل موسع. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المحقق صاحب الكفاية (قده) قد اعترف بان أخذها في المتعلق وان كان ممكناً الا انه ادعى القطع بعدم وقوعه في الخارج. ولكن قد ذكرنا هناك خطائه وانه لا يلزم من عدم أخذها خاصة عدم أخذ الجامع بينها وبين قصد الأمر فلاحظ.

(العاشرة) قيل : ان مقتضى الأصلي اللفظي عند الشك في تعبدية

٢١٨

واجب وتوصليته هو كونه واجباً تعبدياً ، واستدل على ذلك بعدة وجوه : ولكن قد تقدم منا المناقشة في تمام تلك الوجوه وانها لا تدل على ذلك ، فالصحيح هو ما ذكرنا من ان مقتضى الأصل اللفظي عند الشك هو التوصلية.

(الحادية عشرة) : ان مقتضى الأصل العملي عند الشك يختلف باختلاف الآراء فعلى رأى صاحب الكفاية (قده) الاشتغال وعلى رأينا البراءة شرعاً وعقلا على تفصيل تقدم.

(الثانية عشرة) : ان مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً فان إرادة كل من الوجوب الغيري والتخييري والكفائي تحتاج إلى قرينة زائدة فالإطلاق لا يكفي لبيانها.

(الثالثة عشرة) : ان الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهمه لا يدل في نفسه لا على الوجوب ولا على الإباحة ولا على حكم ما قبل النهي ، فإرادة كل ذلك منه تحتاج إلى قرينة.

(الرابعة عشرة) : ان صيغة الأمر لا تدل على المرة ولا على التكرار في الافراد الطولية ، كما لا تدل على الوجود الواحد أو المتعدد في الافراد العرضية لا مادة ولا هيئة ، واستفادة كل ذلك تحتاج إلى قرينة خارجية.

(الخامسة عشرة) : ان الصيغة لم توضع للدلالة على الفور ولا على التراخي ، بل هي موضوعة للدلالة على اعتبار المادة في ذمة المكلف ، فاستفادة كل من الفور والتراخي تحتاج إلى دليل خارجي ، ولا دليل في المقام. واما آيتي المسابقة والمسارعة فلا تدلان على الفور أصلا كما تقدم.

٢١٩

مبحث الاجزاء

إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء أم لا؟

قبل الخوض في المقصود ينبغي لنا تقديم أمور :

(الأول) ان هذه المسألة من المسائل العقلية كمسألة مقدمة الواجب ومسألة الضد وما شاكلهما. والسبب في ذلك هو ان الاجزاء الّذي هو الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة انما هو معلول للإتيان بالمأمور به خارجاً وامتثاله ، ولا صلة له بعالم اللفظ أصلا.

وبكلمة أخرى ان الضابط لامتياز مسألة عقلية عن مسألة لفظية انما هو بالحاكم بتلك المسألة ، فان كان عقلا فالمسألة عقلية ، وان كان لفظا فالمسألة لفظية ، وحيث ان الحاكم في هذه المسألة هو العقل فبطبيعة الحال تكون عقلية وستأتي الإشارة إلى هذه الناحية في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

(الثاني) : ما هو المراد من كلمة على وجهه في العنوان ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ما هذا لفظه : الظاهر ان المراد من وجه في العنوان هو النهج الّذي ينبغي ان يؤتي به على ذاك النهج شرعاً وعقلا مثل أن يؤتي به بقصد التقرب في العبادات ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً ، فانه عليه يكون على وجهه قيداً توضيحياً وهو بعيد ، مع انه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعاً. ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب ، فانه مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم اعتباره عند من اعتبره الا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من

٢٢٠