محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

عن المكلف بقيام غيره به ، ولا يعتبر فيه قصد القربة وينفرد الثاني عن الأول بمثل الصلوات اليومية وصيام شهر رمضان وما شاكلها ، فانها واجبات تعبدية لا تسقط عن المكلف بقيام غيره بها. ويلتقيان في الموارد المتقدمة. كما ان النسبة بينه وبين الواجب التوصلي بالمعنى الأول عموم وخصوص من وجه ، حيث يمتاز الأول عن الثاني بمثل وجوب رد السلام ، فانه واجب توصلي لا يعتبر فيه قصد القربة ، ولكن يعتبر فيه قيد المباشرة من نفس المسلم عليه ، ولا يسقط بقيام غيره به. ومن هذا القبيل وجوب تحنيط الميت ، حيث قد ذكرنا في بحث الفقه انه لا يسقط عن البالغ بقيام الصبي المميز به. ويمتاز الثاني عن الأول بالموارد المتقدمة ، حيث انها واجبات تعبدية يعتبر فيها قصد القربة ، ومع ذلك تسقط بفعل الغير. ويلتقيان في موارد كثيرة كوجوب إزالة النجاسة وما شاكلها ، فانها واجبة توصلية بالمعنى الأول والثاني فلا يعتبر فيها قصد القربة ، وتسقط بقيام الغير بها كالصبي ونحوه كما تسقط فيما إذا تحققت بغير التفات واختيار ، بل ولو في ضمن فرد محرم.

وأما النسبة بين الواجب التعبدي بالمعنى الأول والواجب التعبدي بالمعنى الثاني أيضاً عموم من وجه ، حيث يفترق الأول عن الثاني بالواجبات التعبدية التي لا يعتبر فيها قيد المباشرة من نفس المكلف كالأمثلة التي تقدمت فانها واجبات تعبدية بالمعنى الأول دون المعنى الثاني. ويفترق الثاني عن الأول بمثل وجوب رد السلام ونحوه ، فانه واجب تعبدي بالمعنى الثاني حيث يعتبر فيه قيد المباشرة دون المعنى الأول حيث لا يعتبر فيه قصد القربة ويلتقيان في كثير من الموارد كالصلوات اليومية ونحوها.

وبعد ذلك نقول : لا كلام ولا إشكال فيما إذا علم كون الواجب توصلياً أو تعبدياً بالمعنى الأول ، أو الثاني ، وانما الكلام والإشكال فيما إذا شك

١٤١

في كون الواجب توصلياً أو تعبدياً. الكلام فيه تارة يقع في الشك في التوصلي والتعبدي بالمعنى الثاني. وتارة أخرى يقع في الشك فيه بالمعنى الأول. فهنا مقامان :

أما الكلام في المقام الأول فيقع في مسائل ثلاث :

(الأولى) ما إذا ورد خطاب من المولى متوجهاً إلى شخص أو جماعة وشككنا في سقوطه بفعل الغير فقد نسب إلى المشهور ان مقتضى الإطلاق سقوطه وكونه واجباً توصلياً من دون فرق في ذلك بين كون فعل الغير بالتسبيب ، أو بالتبرع ، أو بغير ذلك. وقد أطال شيخنا الأستاذ (قده) الكلام في بيانهما ، ولكنا لا نحتاج إلى نقله ، بل هو لا يخلو عن تطويل زائد وبلا أثر حيث نبين الآن إن شاء الله تعالى ان مقتضى الإطلاق لو كان هو عكس ما نسب إلى المشهور ، وانه لا يسقط بفعل غيره ، بلا فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع. والسبب في ذلك ان التكليف هنا بحسب مقام الثبوت يتصور على أحد إشكال :

(الأول) ان يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل غيره فيكون مرده إلى كون الواجب أحد فعلين على سبيل التخيير. وفيه ان هذا الوجه غير معقول ، وذلك لأن فعل الغير خارج عن اختيار المكلف وإرادته فلا يعقل تعلق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه.

وبكلمة أخرى ان الإطلاق بهذا الشكل في مقام الثبوت والواقع غير معقول ، لفرض انه يبتنى على أساس إمكان تعلق التكليف بفعل الغير وهو مستحيل ، فاذن بطبيعة الحال يختص التكليف بفعل المكلف نفسه فلا يعقل إطلاقه. أو فقل ان الإهمال في الواقع غير معقول فيدور الأمر بين الإطلاق وهو تعلق التكليف بالجامع ، والتقييد وهو تعلق التكليف بحصة خاصة ، وحيث ان الأول لا يعقل تعين الثاني. ولو تنزلنا

١٤٢

عن ذلك وسلمنا إمكانه بحسب مقام الثبوت الا ان الإطلاق في مقام الإثبات لا يعينه ، وذلك لأن امر التكليف عندئذ يدور بين التعيين والتخيير. ومن الواضح ان مقتضى الإطلاق هو التعيين ، لأن التخيير في المقام الراجع إلى جعل فعل الغير عدلا لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خارجة فلا يمكن إرادته من الإطلاق.

(الثاني) ان يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته لغيره ، ونتيجة ذلك هي التخيير بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر وهو في نفسه وان كان امراً معقولا : ولا بأس بالإطلاق من هذه الناحية وشموله لصورة الاستنابة ، الا انه خاطئ من جهتين أخريين : (الأولى) ان لازم ذلك الإطلاق كون الاستنابة في نفسها مسقطة للتكليف ، وهو خلاف المفروض ، بداهة ان المسقط له انما هو الإتيان الخارجي فلا يعقل ان تكون الاستنابة مسقطة والا لكفى مجرد إجازة الغير في ذلك وهو كما ترى ، وعليه فلا يمكن كونها عدلا وطرفا للتكليف حتى يعقل تعلقه بالجامع بينها وبين غيرها. (الثانية) لو تنزلنا عن ذلك وأغمضنا النّظر عن هذا الا ان الأمر هنا يدور بين التعيين والتخيير وقد عرفت ان قضية الإطلاق في مقام الإثبات إذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينة هي التعيين دون التخيير ، حيث ان بيانه يحتاج إلى مئونة زائدة كالعطف بكلمة (أو) والإطلاق غير واف له ، ونتيجة ذلك عدم سقوطه عن ذمة المكلف بقيام غيره به.

(الثالث) ان يقال ان امر التكليف في المقام يدور بين كونه مشروطاً بعدم قيام غير المكلف به وبين كونه مطلقاً أي سواء أقام غيره به أم لم يقم فهو لا يسقط عنه ، ويمتاز هذا الوجه عن الوجهين الأولين بنقطة واحدة ، وهي ان في الوجهين الأولين يدور امر الواجب بين كونه

١٤٣

تعيينياً أو تخييريا ولا صلة لهما بالوجوب. وفي هذا الوجه يدور أمر الوجوب بين كونه مطلقا أو مشروطاً ولا صلة له بالواجب. ثم ان هذا الوجه وان كان بحسب الواقع امراً معقولا ومحتملا ولا محذور فيه أصلا الا ان الإطلاق في مقام الإثبات يقتضي عدم الاشتراط وانه لا يسقط عن ذمة المكلف بقيام غيره به ، ومن الطبيعي ان الإطلاق في هذا المقام يكشف عن الإطلاق في ذاك المقام بقانون التبعية. ومن هنا ذكرنا في بحث الفقه في مسألة تحنيط الميت ان مقتضى إطلاق خطابه المتوجه إلى البالغين هو عدم سقوطه بفعل غيرهم وان كانوا مميزين. وقد تحصل من ذلك ان مقتضى إطلاق كل خطاب متوجه إلى شخص خاص أو صنف هو عدم سقوطه عنه بقيام غيره به ، فالسقوط يحتاج إلى دليل.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه نظهر ان ما هو المعقول والمحتمل بحسب الواقع من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير أعني الشك في الإطلاق والاشتراط ، دون الوجه الأول والثاني ، كما عرفت. وعندئذ فلا مناص من إرجاع الشك في أمثال المسألة إلى ذلك بعد افتراض عدم معقولية الوجه الأول والثاني. وعلى هذا فلو شككنا في سقوط الواجب عن ولى الميت مثلا بفعل غيره تبرعاً أو استنابة فبطبيعة الحال يرجع الشك في هذا إلى الشك في الإطلاق والاشتراط وسيأتي في ضمن البحوث الآتية بشكل موسع ان مقتضى إطلاق الخطاب عدم الاشتراط كما أشرنا إليه آنفاً أيضا. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان مقتضى الأصل اللفظي في المسألة عدم التوصلية. هذا إذا كان في البين إطلاق.

وأما إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي الاشتغال ، وذلك لأن المقام على ما عرفت داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين الإطلاق والاشتراط هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في محله ان فعلية التكليف

١٤٤

انما هي بفعلية شرائطه ، فما لم يحرز المكلف فعلية تلك الشرائط لم يحرز كون التكليف فعلياً عليه.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان الشك في إطلاق التكليف واشتراطه قد يكون مع عدم إحراز فعلية التكليف ، وذلك كما إذا لم يكن ما يحتمل شرطيته متحققاً من الأول ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يرجع الشك فيه إلى الشك في أصل توجه التكليف ، كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلا بالرجل دون المرأة أو بالحر دون العبد ، فلا محالة يتردد العبد ويشك في أصل توجه التكليف إليه ، وكذلك المرأة وهو مورد لأصالة البراءة. وقد يكون مع إحراز فعلية التكليف ، وذلك كما إذا كان ما يحتمل شرطيته متحققا من الابتداء ثم ارتفع وزال ولأجله شك المكلف في بقاء التكليف الفعلي وارتفاعه. ومن الواضح انه مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة ، ولا يختص هذا بمورد دون مورد آخر بل يعم كافة الموارد التي شك فيها ببقاء التكليف بعد اليقين بثبوته واشتغال ذمة المكلف به ، ومقامنا من هذا القبيل ، فان الولي مثلا يعلم باشتغال ذمته بتكليف الميت ابتداءً ، ولكنه شاك في سقوطه عن ذمته بفعل غيره. وقد عرفت ان المرجع في ذلك هو الاشتغال وعدم السقوط.

وبكلمة أخرى ان التكليف إذا توجه إلى شخص وصار فعلياً في حقه فسقوطه عنه يحتاج إلى العلم بما يكون مسقطاً له ، فكلما شك في كون شيء مسقطاً له سواء أكان ذلك فعل الغير أو شيئاً آخر فمقتضى القاعدة عدم السقوط وبقائه في ذمته ، ومن هذا القبيل ما إذا سلم شخص على أحد فرد السلام شخص ثالث فبطبيعة الحال يشك المسلم عليه في بقاء التكليف عليه وهو وجوب رد السلام بعد ان علم باشتغال ذمته به.

ومنشأ هذا الشك هو الشك في اشتراط هذا التكليف بعدم قيام

١٤٥

به وعدم اشتراطه ، فعلى الأول يسقط بفعله دون الثاني. ومن الطبيعي ان مرد هذا الشك إلى الشك في السقوط وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة. والسر في ذلك ما ذكرناه في مبحث البراءة والاشتغال من ان أدلة البراءة لا تشمل أمثال المقام ، فتختص بما إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف. واما إذا كان أصل ثبوته معلوماً والشك انما كان في سقوطه كما فيما نحن فيه فهو خارج عن موردها. ومن هنا ذكرنا ان المكلف لو شك في سقوط التكليف عن ذمته من جهة الشك في القدرة واحتمال العجز عن القيام به بعد فرض وصوله إليه وتنجزه كما إذا شك في وجوب أداء الدين عليه بعد اشتغال ذمته به من جهة عدم إحراز تمكنه مع فرض مطالبة الدائن فالمرجع في مثل ذلك بطبيعة الحال هو أصالة الاشتغال ووجوب الفحص عليه عن قدرته وتمكنه ، ولا يمكنه التمسك بأصالة البراءة ، هذا بناء على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية. وأما بناء على جريانه فيها فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال ، بل المرجع هو استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه في أمثال المقام ، وان كانت النتيجة تلك النتيجة فلا فرق بينهما بحسبها. نعم بناء على جريان الاستصحاب فعدم جريان البراءة في المقام أوضح كما لا يخفى.

(الثانية) ما إذا شك في سقوط واجب عن ذمة المكلف فيما لو صدر منه بغير اختيار وإرادة فهل مقتضى الإطلاق عدم السقوط إذا كان أولا وجهان : ربما قيل بالوجه الأول بدعوى ان الفعل عند الإطلاق ينصرف إلى حصة خاصة وهي الحصة المقدورة ، فالسقوط بغيرها يحتاج إلى دليل والا فالإطلاق يقتضى عدمه. ولكن هذه الدعوى خاطئة ولا واقع موضوعي لها. والسبب في ذلك ان منشأ هذا الانصراف لا يخلو من ان يكون مواد الأفعال ، أو هيئاتها. اما المواد فقد ذكرنا في بحث المشتق بشكل موسع

١٤٦

انها موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن كافة الخصوصيات ، وهي مشتركة بين الحصص الاختيارية وغيرها ، مثلا مادة ضرب وهي (ض ر ب) موضوعة لطبيعي الحدث الصادق على ما يصدر بالاختيار وبغيره من دون عناية ، وهكذا.

نعم وضع بعض المواد لخصوص الحصة الاختيارية ، وذلك كالتعظيم والتجليل ، والسخرية ، والهتك ، وما شاكل ذلك وأما الهيئات فائضاً كذلك يعنى انها موضوعة لمعنى جامع بين المواد بشتى اشكالها وأنواعها أي سواء أكانت تلك المواد من قبيل الصفات كمادة علم ، وكرم ، وأبيض وأسود ، وأحمر ، وما شاكل ذلك أو من قبيل الأفعال ، وهي قد تكون اختيارية كما في مثل قولنا ضرب زيد ، وقام عمرو وما شاكلها. وقد تكون غير اختيارية كما في مثل قولنا تحقق موت زيد ، وأسرع النبض ، وجرى الدم في العروق ، ونحو ذلك. فالنتيجة انه لا أساس لأخذ الاختيار في في الأفعال لا مادة ولا هيئة.

ولكن شيخنا الأستاذ (قده) قد ادعى في المقام ان صيغة الأمر أو ما شاكلها ظاهرة في الاختيار ، لا من ناحية دعوى الانصراف ، فانها ممنوعة ، بل لخصوصية فيها. واستدل على ذلك بوجهين :

(الأول) ان الغرض من الأمر الصادر من المولى إلى العبد هو بعثه وإيجاد الداعي له لتحريك عضلاته نحو إيجاد المأمور به. ومن الطبيعي ان هذا يستلزم كون المتعلق مقدوراً له والا لكان طلبه لغواً محضاً ، لعدم ترتب الغرض المذكور عليه ، وصدور اللغو من المولى الحكيم مستحيل. وعلى هذا فبطبيعة الحال يكون المطلوب في باب الأوامر حصة خاصة من الفعل وهي الحصة المقدورة ، وتلك الحصة هي الواجبة على المكلف دون غيرها ، ولا يسقط الواجب عنه الا بإتيان تلك الحصة. وعليه فإذا شككنا

١٤٧

في سقوط واجب بمجرد تحققه في الخارج ولو بلا اختيار ولا إرادة فمقتضى إطلاق الأمر عدم سقوطه ، لأن اجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل. فالنتيجة انا لا نقول بان الاختيار جزء مدلول المادة أو الهيئة ، أو انها عند الإطلاق منصرفة إلى هذا ، وذلك لأن هذه الدعوى ساقطة لا واقع لها أصلا ، بل نقول انه كان من خصوصيات الطلب والبعث المستفاد من الصيغة أو شاكلها ومن شئونه ، فاذن تمتاز صيغة الأمر أو ما شابهها عن بقية الأفعال في هذه النقطة والخصوصية.

(الثاني) انه لا يكفي في صحة الواجب حسنه الفعلي واشتماله على مصلحة ملزمة بل يعتبر فيها زائداً على ذلك الحسن الفاعلي بمعنى ان يكون صدور الفعل على وجه حسن ومن هنا التزم (قده) ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة حتى على القول بالجواز نظراً إلى ان صدور الصلاة في تلك الدار ليس وجه حسن يستحق ان يمدح عليه ، وان كانت الصلاة في نفسها حسنة. وحيث ان الفعل الصادر من المكلف بلا اختيار وإرادة لا يتصف بالحسن الفاعلي فلا يعقل أن يكون من افراد الواجب ، وعليه فسقوط الواجب به يحتاج إلى دليل ، والا فمقتضى الأصل عدم سقوطه. فالنتيجة على ضوء هذين الوجهين هي ان مقتضى إطلاق الأمر عدم سقوط الواجب بما إذا صدر بغير إرادة واختيار ، فالسقوط يحتاج إلى دليل. هذا إذا كان هنا إطلاق والا فالأصل العملي أيضا يقتضي ذلك.

ولنأخذ بالمناقشة في هذين الوجهين : اما الوجه الأول فهو مورد للمؤاخذة من جهتين : (الأولى) ان اعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هو بحكم العقل لا بمقتضى الخطاب كما فصلنا الحديث من هذه الناحية في بحث الضد فلا نعيد. (الثانية) ان اعتبار القدرة فيه سواء أكان بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ليس الا من ناحية ان التكليف بغير المقدور لغو ، ومن الطبيعي

١٤٨

ان ذلك لا يقتضي الا استحالة تعلق التكليف بغير المقدور خاصة. وأما تعلقه بخصوص الحصة المقدورة فحسب فلا ، ضرورة ان غاية ما يقتضي ذلك كون متعلقه مقدوراً ، ومن المعلوم ان الجامع بين المقدور وغيره مقدور فلا مانع من تعلقه به ، ولا فرق في ذلك بين ان يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ، واما على الأول فواضح. واما على الثاني فائضا كذلك ، ضرورة ان الطلب المتعلق بشيء لا يقتضي أزيد من كون ذلك الشيء مقدوراً.

وبكلمة أخرى ان المصلحة في الواقع لا تخلو من ان تقوم بخصوص الحصة المقدورة ، أو تقوم بالجامع بينها وبين غير المقدورة ، فعلى الأول لا معنى لاعتبار الجامع ، وعلى الثاني لا مناص من اعتباره ولا يكون لغواً بعد إمكان تحقق تلك الحصة في الخارج. فالنتيجة ان استحالة تعلق الطلب بالجامع واعتباره انما تقوم على أساس أحد امرين : (الأول) ان لا يكون للجامع ملاك يدعو المولى إلى اعتباره (الثاني) ان تكون الحصة غير المقدورة مستحيلة الوقوع في الخارج. واما في غير هذين الموردين فلا مانع من اعتباره على ذمة المكلف أصلا. ولا يقاس هذه المسألة بالمسألة الأولى حيث قلنا في تلك المسألة بعدم إمكان تعلق التكليف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وبين فعل غيره والوجه في ذلك هو ان اعتبار ذلك الجامع في ذمة المكلف لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل بداهة انه لا معنى لاعتبار فعل غير المكلف في ذمته وهذا بخلاف مسألتنا هذه فان اعتبار فعل المكلف على ذمته الجامع بين المقدورة وغيرها بمكان من الإمكان بلا لزوم أي محذور كما عرفت هذا بحسب مقام الثبوت وأما بحسب مقام الإثبات فان كان هناك إطلاق كشف ذلك عن الإطلاق في مقام الثبوت يعنى ان الواجب هو الجامع دون خصوص حصة خاصة ، فعندئذ ان كان المولى

١٤٩

في مقام البيان ولم يقم قرينة على التقييد تعين التمسك بالإطلاق لإثبات صحة الفعل لو جيء به في ضمن حصة غير مقدورة.

فالنتيجة انه لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه المسألة ان كان. ومقتضاه سقوط الواجب عن المكلف إذا تحقق في الخارج ولو بلا إرادة واختيار. وهذا بخلاف المسألة الأولى ، حيث ان الإطلاق فيها غير ممكن في مقام الثبوت فلا إطلاق في مقام الإثبات ليتمسك به. ومن ثمة قلنا بالاشتغال هناك وعدم السقوط. هذا بناء على نظريتنا من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضاد فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق لا استحالته ، كما سيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى. وأما بناء على نظرية شيخنا الأستاذ (قده) من ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فإذا أمكن أحدهما أمكن الاخر وإذا استحال استحال فلا يعقل الإطلاق في المقام حتى يمكن التمسك به وذلك لاستحالة التقييد هنا أي تقييد الواجب في الواقع بخصوص الحصة غير المقدورة ، فإذا استحال استحال الإطلاق. وقد تحصل من ذلك نقطة الامتياز بين نظريتنا ونظرية شيخنا الأستاذ (قده) في المسألة وهي إمكان التمسك بالإطلاق على الأول وعدم إمكانه على الثاني ، هذا إذا كان إطلاق.

واما إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضى البراءة ، وذلك لأن تعلق الوجوب بالجامع معلوم وانما الشك في تعلقه بخصوص الحصة المقدورة ، ومن الطبيعي ان المرجع في ذلك هو أصالة البراءة عن وجوب خصوص تلك الحصة ، وعليه فلو تحقق الواجب في ضمن فرد غير مقدور سقط.

وأما الوجه الثاني فترد عليه المناقشة من جهتين : (الأولى) ان اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب زائداً على الحسن الفعلي والملاك القائم فيه لا دليل عليه أصلا والدليل انما قام على اعتبار الحسن الفعلي وهو المصلحة

١٥٠

القائمة في الفعل التي تدعو المولى إلى إيجابه. (الثانية) اننا لو اعتبرنا الحسن الفاعلي في الواجب إضافة إلى الحسن الفعلي لزم من ذلك محذور آخر لا إثبات ما هو المقصود هنا ، وذلك المحذور هو عدم كفاية الإتيان بالواجب عندئذ عن إرادة واختيار أيضاً في سقوطه ، بل لا بد من الإتيان به بقصد القربة بداهة ان الحسن الفاعلي لا يتحقق بدونه. ومن الطبيعي أن الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار الواجبات التوصلية ، وانحصارها بالواجبات التعبدية ، وذلك لأن كل واجب عندئذ يفتقر إلى الحسن الفاعلي ولا يصح بدونه ، والمفروض انه يحتاج إلى قصد القربة ، وهذا لا يتمشى مع تقسيمه (قده) في بداية البحث الواجب إلى تعبدي وتوصلي. فالنتيجة ان اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب رغم انه لا دليل عليه يستلزم محذوراً لا يمكن ان يلتزم به أحد حتى هو (قده) فاذن لا مناص من الالتزام بعدم اعتباره وكفاية الحسن الفعلي. نعم هنا شيء آخر وهو ان لا يكون مصداق الواجب قبيحاً كما إذا أتى به في ضمن فرد محرم ، وذلك لأن الحرام لا يعقل ان يقع مصداقاً للواجب.

وقد تحصل من ذلك عدة أمور : (الأول) خطاء الوجوه المتقدمة التي أقيمت لإثبات كون الواجب هو خصوص الحصة الاختيارية (الثاني) إمكان كون الواجب في الواقع هو الجامع بين الحصة المقدورة وغيرها. (الثالث) ان المولى إذا كان في مقام البيان فلا مانع من التمسك بالإطلاق وان لم يكن فالمرجع هو أصالة البراءة وبهذين الوجهين يعني الوجه الثاني والثالث تمتاز هذه المسألة عن المسألة الأولى.

(الثالثة) ما إذا شك في سقوط واجب في ضمن فرد محرم وهذا يتصور على نحوين : (الأول) ان يكون المأتي به في الخارج مصداقاً للحرام حقيقتاً كغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب أو نحوه (الثاني) ان

١٥١

لا يكون المأتي به مصداقا له كذلك ، بل يكون ملازماً له وجوداً ، وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوها بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه في مورد الاجتماع والتصادق.

واما الكلام في القسم الأول فتارة نعلم بأن الإتيان بالواجب في ضمن فرد محرم مسقط له ، وسقوطه من ناحية سقوط موضوعه وعدم تعقل بقائه حتى يؤتى به ثانياً في ضمن فرد غير محرم ، وذلك كإزالة النجاسة عن المسجد مثلا ، فانها تسقط عن المكلف ولو كانت بالماء المغصوب فلا يبقى موضوع لها وكغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب حيث يسقط عن ذمته بانتفاء موضوعه وحصول غرضه وما شاكل ذلك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان مرد سقوط الواجب في ضمن الفرد المحرم ليس إلى ان الواجب هو الجامع بينهما ، بل مرده إلى حصول الغرض به الداعي إلى إيجابه ، حيث انه مترتب على مطلق وجوده ولو كان في ضمن فرد محرم ، وعدم موضوع لإتيانه ثانياً في ضمن فرد آخر ، لا ان الواجب هو الجامع ، وتارة أخرى نشك في انه يسقط لو جيء به في ضمن فرد محرم أولا ، وذلك كغسل الميت ، وتحنيطه ، وتكفينه ، ودفنه ، وما شاكل ذلك فلو غسل الميت بالماء المغصوب ، أو دفن في أرض مغصوبة أو حنط بالحنوط المغصوب ، أو غير ذلك وشككنا في سقوط التكليف بذلك وعدم سقوطه فنقول :

لا إشكال ولا شبهة في ان مقتضى إطلاق الواجب عدم السقوط ، بداهة ان الفرد المحرم لا يعقل ان يكون مصداقاً للواجب ، لاستحالة انطباق ما هو محبوب للمولى على ما هو مبغوض له. فعدم السقوط من هذه الناحية ، لا من ناحية استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وذلك لأن هذه الناحية تقوم على أساس ان الأمر يسري من الجامع إلى أفراده

١٥٢

ولكنه خاطئ لا واقع موضوعي له ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من ان متعلق الأمر هو الطبيعي الجامع ، ولا يسري الأمر منه إلى شيء من أفراده العرضية والطولية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى بعد ما عرفت استحالة انطباق الواجب على الفرد المحرم فبطبيعة الحال يتقيد الواجب بغيره.

وعلى ضوء هذا البيان فإذا شككنا في سقوط الواجب في ضمن فرد محرم فلا محالة يرجع إلى الشك في الإطلاق والاشتراط بمعنى ان وجوبه مطلق فلا يسقط عن ذمته بإتيانه في ضمن فرد محرم أو مشروط بعدم إتيانه في ضمنه ، وقد تقدم ان مقتضى الإطلاق عدم الاشتراط ان كان والا فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة ، وذلك لأن المسألة على هذا الضوء تكون من صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد اخترنا في تلك المسألة القول بجريان البراءة فيها عقلا وشرعاً. هذا بناء على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وإلا فلا مانع من الرجوع إليه ويأتي بيانه في مورده ان شاء الله تعالى.

واما الكلام في القسم الثاني فلا ينبغي الشك في سقوط الواجب به إذا كان توصلياً ، لأن المفروض انه فرد حقيقي للواجب غاية الأمر ان وجوده في الخارج ملازم لوجود الحرام. ومن الطبيعي ان هذا لا يمنع من انطباق الواجب عليه. واما إذا كان تعبدياً فالظاهر أن الأمر أيضا كذلك. والسبب في هذا هو ان المعتبر في صحة العبادة الإتيان بها بكافة أجزائها وشرائطها مع قصد القربة ، ولا دليل على اعتبار شيء زائد على ذلك ، ومن المعلوم ان مجرد مقارنتها خارجا وملازمتها كذلك لوجود الحرام لا يمنع عن صحتها وقصد القربة بها ، فان المانع منه ما إذا كانت العبادة محرمة ، لا في مثل المقام. ومن هنا قلنا بصحة العبادة في مورد

١٥٣

الاجتماع بناء على القول بالجواز ، حيث ان ما ينطبق عليه الواجب غير ما هو الحرام فلا يتحدان خارجاً كي يكون مانعاً عن الانطباق وقصد التقرب ، بل يمكن الحكم بالصحّة فيه حتى على القول باعتبار الحسن الفاعلي ، وذلك لأن صدور العبادة بما هي عبادة حسن منه وانما القبيح صدور الحرام ، ومن الواضح ان قبح هذا لا يرتبط بحسن ذاك. فهما فعلان صادر ان من الفاعل ، غاية الأمر كان صدور أحدهما منه حسناً وصدور الآخر قبيحاً.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان الواجب التوصلي على أنواع : منها منا يسقط عن ذمة المكلف بصرف وجوده في الخارج سواء أكان بفعل نفسه أم كان بفعل غيره ، وسواء أكان في ضمن فرد مباح أم كان في ضمن فرد محرم ومنها مالا يسقط إلا بفعل المكلف نفسه. ومنها ما لا يسقط إلا في ضمن فرد مباح فلا يسقط في ضمن فرد حرام. نعم يشترك الجميع في نقطة واحدة وهي عدم اعتبار قصد القربة في صحتها. ومن هنا يظهر انه لا أصل لما اشتهر في الألسنة من ان الواجب التوصلي ما يسقط عن المكلف ويحصل الغرض منه بمجرد وجوده وتحققه في الخارج. هذا آخر ما أوردناه في المقام الأول.

واما الكلام في ان المقام الثاني فلا شبهة في ان الواجب في الشريعة المقدسة بل في كافة الشرائع على نوعين تعبدي. وتوصلي ، والأول ما يتوقف حصول الغرض منه على قصد التقرب ، وذلك كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك. والثاني ما لا يتوقف حصوله على ذلك كما عرفت ، ومنه وجوب الوفاء بالدين ، ورد السلام ، ونفقة الزوجة ، وهذا القسم هو الكثير في الشريعة المقدسة ، وجعله من الشارع رغم انه لا يعتبر فيه قصد التقرب انما هو لأجل حفظ النظام وإبقاء النوع ، ولولاه

١٥٤

لاختلت نظم الحياة المادية والمعنوية ، وبعد ذلك نقول : مرة يعلم المكلف بان هذا الواجب توصلي وذاك تعبدي ، ولا كلام فيه ، ومرة أخرى لا يعلم به ويشك ، الكلام في المقام انما هو في ذلك ، وهو يقع في موردين : (الأول) في مقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق.

(الثاني) في مقتضى الأصل العملي.

اما الكلام في المورد الأول فالمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو انه لا إطلاق في المقام حتى يمكن التمسك به لإثبات كون الواجب توصلياً ، ولكن هذه الدعوى منهم ترتكز على امرين : (الأول) دعوى استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه. (الثاني) دعوى ان استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فينبغي لنا التكلم عندئذ في هاتين الدعويين :

اما الدعوى الأولى فقد ذكروا في وجه استحالة التقييد وجوهاً أحسنها ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من ان كل قيد في القضايا الحقيقية إذا أخذ مفروض الوجود في الخارج سواء أكان اختيارياً أم كان غير اختياري يستحيل تعلق التكليف به. والسبب في ذلك ان القضايا الحقيقية ترجع إلى قضايا شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مثلا قولنا المستطيع يجب عليه الحج قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية ، وهي قولنا إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه انه مستطيع وجب عليه الحج ، فيكون وجوب الحج مشروطاً بوجود الاستطاعة في الخارج فتدور فعليته مدار فعليتها لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه. وعليه فلا يمكن ان يقع مثل هذا القيد مورداً للتكليف ، بداهة ان المشروط لا يقتضى وجود شرطه ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك القيد اختيارياً أو غير اختياري (والأول) كالعقد ، والعهد ، والنذر ،

١٥٥

والاستطاعة ، وما شاكل ذلك ، فان مثل قوله تعالى (أوفوا بالعقود) أو نحوه يرجع إلى انه إذا فرض وجود عقد في الخارج يجب الوفاء به ، لا انه يجب على المكلف إيجاد عقد في الخارج والوفاء به (والثاني) كالوقت ، والبلوغ ، والعقل ، حيث انها خارجة عن اختيار المكلف فلا تكون مقدورة له ، ومن الطبيعي ان مثل هذه القيود إذا أخذت في مقام الجعل فلا محالة أخذت مفروضة الوجود في الخارج : يعني ان المولى فرض وجودها أولا ثم جعل الحكم عليها ، ومرد ذلك إلى انه متى تحقق وقت الزوال مثلا فالصلاة واجبة ، ومتى تحقق البلوغ في مادة المكلف فالتكليف فعلي في حقه ، وهكذا ، وليس معنى إذا زالت الشمس فصل وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت ، حيث انه تكليف بغير مقدور ، بل معناه ما ذكرناه ، فان ما هو مقدور للمكلف هو ذات الصلاة ، وإيقاعها في الوقت عند تحققه. واما تحصيل نفس الوقت فهو غير مقدور له فلا يعقل تعلق التكليف به. وقد تحصل من ذلك ان كل قيد إذا أخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقل تعلق التكليف به سواء أكان اختيارياً أم لم يكن ، غاية الأمر ان القيد إذا كان غير اختياري فلا بد من أخذه مفروض الوجود ، ولا يعقل أخذه في متعلق التكليف بغير ذلك. ومقامنا من هذا القبيل ، فان قصد الأمر إذا أخذ في متعلقه فلا محالة يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروض الوجود في مقام الإنشاء ، لما عرفت من ان كل قيد إذا أخذ متعلقاً لمتعلق التكليف فبطبيعة الحال كان وجود التكليف مشروطاً بفرض وجوده فرضاً مطابقاً للواقع الموضوعي ، وحيث ان متعلق المتعلق فيما نحن فيه هو نفس الأمر فيكون وجوده مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للخارج ، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه وهذا خلف ، ضرورة ان ما لا يوجد الا بنفس إنشائه كيف

١٥٦

يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه ، فان مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع.

وان شئت قلت ان أخذ قصد الأمر في متعلقه يستلزم بطبيعة الحال أخذ الأمر مفروض الوجود ، لكونه خارجاً عن الاختيار ، وعليه فيلزم محذور الدور ، وذلك لأن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، وحيث ان الموضوع على الفرض هو نفس الأمر وهو متعلق لمتعلقه فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه ، وهو محال.

فالنتيجة ان أخذ داعي الأمر في متعلقه كالصلاة مثلا يستلزم اتحاد الحكم والموضوع في مقام الجعل. وتوقف الشيء على نفسه في مقام الفعلية وكلاهما مستحيل.

وقد خفي على بعض الأساطين حيث قد أورد على شيخنا الأستاذ (قده) بما حاصله هو ان ما يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل انما هو موضوعات التكاليف وقيودها ، لا قيود الواجب ، لوضوح ان قيود الواجب كالطهارة في الصلاة ـ مثلا ـ واستقبال القبلة ، وما شاكلهما يجب تحصيلها على المكلف ، وذلك لأن الأمر المتعلق بالصلاة قد تعلق بها مقيدة بهذه القيود فكما يجب على المكلف تحصيل اجزائها يجب عليه تحصيل قيودها وشرائطها أيضا. وهذا بخلاف موضوعات التكاليف حيث انها قد أخذت مفروضة الوجود في الخارج فلا يجب على المكلف تحصيلها ولو كانت اختيارية كالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج ، وما شاكلها. وبعد ذلك قال ان قصد الأمر ليس من قيود الموضوع حتى يؤخذ مفروض الوجود خارجاً ، بل هو قيد الواجب وكان المكلف قادراً عليه فعندئذ حاله حال بقية قيود الواجب كالطهارة ونحوها فيجب تحصيله ولا معنى لأخذه مفروض الوجود.

١٥٧

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) أما ما أفاده من حيث الكبرى من ان قيود الواجب يجب تحصيلها دون قيود الموضوع ففي غاية الصحة والمتانة الا ان المناقشة في كلامه انما هي في تطبيق تلك الكبرى على ما نحن فيه ، وذلك لأن المحقق النائيني (قده) لم يدع ان قصد الأمر من قيود الموضوع وانه لا بد من أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل حتى يرد عليه الإشكال المزبور ، بل انما يدعي ذلك بالإضافة إلى نفس الأمر المتعلق للقصد ، والمفروض ان الأمر خارج عن اختيار المكلف حيث انه فعل اختياري للمولى ، له ان يأمر بشيء ، وله ان لا يأمر. وقد تقدم ان ما هو خارج عن الاختيار لا يعقل ان يؤخذ قيداً للواجب ، لاستلزامه التكليف بغير المقدور ، فلو أخذ فلا بد من أخذه مفروض الوجود. فاذن عاد المحذور المتقدم. وقد تحصل من ذلك ان الإشكال يقوم على أساس ان يكون قصد الأمر مأخوذاً مفروض الوجود ولكن عرفت انه ولا واقع موضوعي له.

فالصحيح في الجواب ان يقال : ان لزوم أخذ القيد مفروض الوجود في القضية في مقام الإنشاء انما يقوم على أساس أحد امرين : (الأول) الظهور العرفي كما في قوله تعالى (أوفوا بالعقود) فان المستفاد منه عرفاً هو لزوم الوفاء بالعقد على تقدير تحققه ووجوده في الخارج رغم كون العقد مقدوراً للمكلف. ومن هذا القبيل وجوب الوفاء بالنذر والشرط ، والعهد واليمين ، ووجوب الإنفاق على الزوجة ، وما شاكل ذلك ، حيث ان القيود المأخوذة في موضوعات هذه الأحكام رغم كونها اختيارية أخذت مفروضة الوجود في مقام جعلها بمقتضى المتفاهم العرفي ، فان العرف يفهم ان النذر الّذي هو موضوع لوجوب الوفاء قد أخذ مفروض الوجود فلا يجب تحصيله وهكذا الحال في غيره وهذا هو الغالب في القضايا الحقيقية (الثاني) الحكم

١٥٨

العقلي ، ومن الطبيعي ان العقل انما يحكم فيما إذا كان القيد خارجاً عن الاختيار ، حيث ان عدم أخذه مفروض الوجود يستلزم التكليف بالمحال كما في مثل قوله تعالى «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» فان دخول الوقت حيث انه خارج عن قدرة المكلف واختياره لا مناص من أخذه مفروض الوجود في مقام الإنشاء والخطاب ، وإلا لزم التكليف بغير المقدور ، وهو مستحيل.

فالنتيجة ان أخذ القيد مفروض الوجود في مرحلة الجعل والإنشاء انما يقوم على أساس أحد هذين الأمرين فلا ثالث لهما واما في غير هذين الموردين فلا موجب لأخذه مفروض الوجود أصلا ، ولا دليل على ان التكليف لا يكون فعلياً الا بعد فرض وجوده في الخارج. ومن هنا قد التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجودات موضوعاتها بتمام القيود والشرائط فيما إذا كان المكلف قادراً على إيجادها ، مثلا التحريم الوارد على شرب الخمر فعلى وان لم يوجد الخمر في الخارج إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بإيجاد مقدماته فلا تتوقف فعليته على وجود موضوعه.

والسر في ذلك ما عرفت من ان الموجب لأخذ القيد مفروض الوجود أما الظهور العرفي ، أو الحكم العقلي ، وكلاهما منتف في أمثال المقام ، اما الأول فلان العرف لا يفهم من مثل لا تشرب الخمر ان الخمر أخذ مفروض الوجود في الخطاب بحيث تتوقف فعلية حرمة شربه على وجوده في الخارج فلا حرمة قبل وجوده ، بل المتفاهم العرفي من أمثال هذه القضايا هو فعلية حرمة الشرب مطلقا وان لم يكن الخمر موجوداً إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بما له من المقدمات ، وهذا بخلاف المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى (أوفوا بالعقود) كما عرفت. واما الثاني فلان المفروض تمكن المكلف من إيجاده ، وفي مثله لا يحكم العقل بأخذه مفروض الوجود

١٥٩

فالنتيجة ان المناط في فعلية الخطابات التحريمية انما هو فعلية قدرة المكلف على متعلقاتها إيجاداً وتركاً ولو بالقدرة على موضوعاتها كذلك ، فمن كان متمكناً من شرب الخمر ولو بإيجاده كانت حرمته فعلية في حقه ، ومن كان متمكنا من تنجيس المسجد مثلا ولو بإيجاد النجاسة كانت حرمته كذلك فلا تتوقف على وجود موضوعه في الخارج. ومن هنا لا ترجع تلك القضايا في أمثال هذه الموارد إلى قضايا شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، حيث ان ترتب الأحكام فيها على موضوعاتها ليس كترتب الجزاء على الشرط. وعلى ذلك تترتب ثمرة مهمة في عدة موارد وفروع وستأتي الإشارة إلى بعضها في ضمن البحوث الآتية.

وبعد ذلك نقول : ان القيد فيما نحن فيه ـ وهو نفس الأمر ـ وان كان خارجاً عن الاختيار ، الا ان مجرد ذلك لا يوجب أخذه مفروض الوجود ، لما عرفت من الملاك الموجب لأخذ قيد كذلك اما الظهور العرفي أو الحكم العقلي ، وعندئذ فهل نرى ان الملاك لأخذه كذلك موجود هنا أم لا

والتحقيق عدم وجوده أما الظهور العرفي فواضح ، حيث لا موضوع له فيما نحن فيه ، فان الكلام هنا انما هو في إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه بدون أخذه مفروض الوجود وعدم إمكانه ، ومن الطبيعي انه لا صلة للعرف بهذه الناحية. واما الحكم العقلي فائضاً كذلك ، فلان ملاكه هو ان القيد لو لم يؤخذ مفروض الوجود في مقام الإنشاء لزم التكليف بما لا يطاق ، ومن المعلوم انه لا يلزم من عدم أخذ الأمر مفروض الوجود ذلك والسبب فيه ان الأمر الّذي هو متعلق للداعي والقصد يتحقق بمجرد جعله وإنشائه ، ومن الطبيعي ان الأمر إذا تحقق ووجد أمكن للمكلف الإتيان بالمأمور به بقصد هذا الأمر وبداعيه ، ولا حاجة بعد ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الإنشاء.

١٦٠